رشا عمرانصفحات الثقافة

“ويلسون” وعزلة الروح/ رشا عمران

 

 

قبل أيام، شاهدت للمرة الثانية فيلم (cast away)، وهو فيلم حصل على جوائز عديدة، منها الأوسكار والغولدن غلوب عن أفضل ممثل. ما أثر بي في الفيلم علاقة البطل مع ويلسون: كرة البيسبول التي رسم عليها تشاك نولند/ توم هانكس، ملامح وجه، ثم أطلق على الوجه اسم ويلسون، وبدأ معه علاقة صداقة بالغة الحميمية والدفء الإنساني. يحدّثه ويتخيل أنه يرد على حديثه، ويعاتبه ويصرخ في وجهه، ويلقي عليه تحية الصباح والمساء. في الفيلم، يبدو الأمر كما لو أنه حل درامي وإخراجي لإظهار المونولوجات الداخلية للشخصية، حيث تجري أحداث الفيلم في جزيرة منعزلة، ولا يوجد عليها أحد غير تشاك نولند، ولا بد من حوار، فكان هذا المخرَج الفني. على أنه، بالنسبة لي كمشاهدة، فإن وجه الكرة، أو ويلسون، لم يكن مجرد حل إخراجي، أذكر أنني تلقيته، حين شاهدت الفيلم للمرة الأولى قبل سنين، بوصفه دعوة للأنسنة، لاكتشاف الجانب الإنساني في كل شيء، مهما كان هذا الشيء. هو دعوة لرفض الاستعلاء السلوكي البشري تجاه الموجودات، حتى لو كانت من صنعة البشر.

كان هذا منذ زمن. أما قبل أيام فكان تفاعلي مع ويلسون مختلفاً. ويلسون هو إنتاج المخيلة البشرية لخلق وسائل تساعد على التكيف مع الحياة، حين يكون المرء في وحدة كاملة، أو في عزلة مختارة أو مفروضة، ولع ما يخبر عنه الخارجون من جحيم المعتقلات الطويل يؤكد هذا. حكت لي صديقة معتقلة سابقة كيف أنها كانت، يومياً، تكتشف أشكالاً مختلفة للخطوط التي خلفتها الرطوبة على جدران منفردتها. قالت: رأيتها شجرة ذات يوم، وامتد بي الخيال، لأرى الشجرة غابة، وهناك نهر أضع قدمي بمائه، وأستمتع بالبرودة. قالت أيضا، رأيتها ملامح وجه أمي، حضنته وقبلته وبكيت فرحاً، رأيتها قمراً ذات يوم، ورأيت نجوم السماء حول القمر. شكل جديد كل يوم وخيال ممتد. قالت: لاحظت، ذات يوم، أن ثمة تصليحات في السجن، كدت

أموت من الخوف أن تمتد التصليحات إلى جدران غرفتي، وأفقد هذه الخيالات!

في فيلم cast away أكثر المشاهد ألماً وعمقاً إنسانياً، هي فقد تشاك نولند الكرة ويلسون، عندما يصنع قارباً بدائياً، ويحاول الذهاب به إلى عرض البحر. في هذه الأثناء، تحمل الأمواج العالية الكرة وتختفي. يبدو الفقد هنا مرعباً، فقد ما يجعلك تشعر أنك مازلت قادراً على الحياة، وكأنك بفقده تستسلم للموت، رعب صديقتي المعتقلة هو في المكان نفسه، فقد ما حفز خيالها للاستمرار في الحياة مقاومة كل ما يجعلها تطمئن لفكرة الموت.

لسنا أحسن حالاً من تشاك نولند، نحن السوريين الموزعين في الأرض اليوم، على الرغم من أننا نعيش في مدن كبيرة وصغيرة ومزدحمة وهادئة، وعلى الرغم من أننا نواصل حياتنا وصداقاتنا وعلاقاتنا الواقعية، غير أن ثمة ذلك التجويف الكبير في الروح، ثمّة جزيرة تشاك نولند البدائية المنعزلة، وثمّة زنزانة صديقتي المعتقلة. هذا التجويف ليس سوى العزلة التي يخلفها فقد الوطن بكل تركته فينا، نحن نعيش في قلب هذا التجويف/العزلة، على الرغم من صخب حياتنا، إذ لا مستقبل لنا، ولا حاضر مطمئن، وماضينا يوسع في التجويف أكثر ويزيد عزلتنا. ما علينا فعله هو خلق ويلسون خاص بكل منا، لكي نستمر في العيش. أحياناً، يكون الحب هو ويلسون، أحيانا الفن والكتابة، أحيانا العمل، أحياناً الأمومة والأبوة، أحياناً فكرة ما، أمل أو حلم أو هدف، أحيانا حيوان أليف يشاركنا المسكن، ومع أن ذلك كله لا يكفي لسد فجوة العزلة داخلنا، لكنه على الأقل يمنعها من التوسع. في الفيلم، تنتهي الحاجة إلى ويلسون، عندما تلوح سفينة في الأفق، حاجة صديقتي لخطوط الجدار انتهت، ما أن خرجت من المعتقل. أما نحن، فيبدو أن ويلسون الخاص بكل منا سيصاحبنا طويلاً، وربما يرحل بعضنا، ولا يبقى منه غير ويلسون الذي رافقه في عزلة روحه.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى