مراجعات كتب

“فلاحو سورية: أبناء وجهائهم الريفيين وسياساتهم” لحنا بطاطو، لوحة شاملة لطبيعة النظام السوري/ يقظان التقي «فلاحو سورية»

 

عنوان الإصدار الجديد من «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» بترجمة عبدالله فاضل رائد النقشبندي ويتناول في تحليل شامل تطور فلاحي سورية الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الحديث، أي تلك الطبقة التي خرج منها مَن لا يزالون يمسكون بالسلطة. وهو يركز على حزب البعث، وبنية السلطة بعد عام 1963، وعهد الرئيس السوري حافظ الأسد، مقدماً رواية مستطيلة عن انتقال السلطة من فئة الى أخرى وآليات الإمساك بها في عهد الأسد الأب.

يتناول بطاطو الفروق الاجتماعية بين فلاحي سورية وتطور طرائق عيشهم وأحوالهم الاقتصادية وأشكال وعيهم وتنظيمهم وسلوكهم باختلاف الفترات الزمنية.

الكتاب يرسم لوحة شاملة لطبيعة النظام السوري وتركيبته وسياساته ومن جوانب مختلفة تتناول تاريخ سورية الحديث، ومن المهم متابعة العناصر المهمة في الدراسة لأنها تتناول طبقة مهمة جداً في تميزها الاجتماعي وتطور نظمها الاقتصادية وأشكال وعيها وسلوكها. ثم ان ظروف التحولات السياسية والاجتماعية ودور العوامل الديموغرافية من الأمور التي يُستدل من خلالها على النسيج الاجتماعي وتطوراته، ودراسة ظاهرة في سورية تطورت الى نهضة زراعية واندماجها التدريحي في فترة ترسيخ حقوق الملكية واستقرار البدو والقبائل لا بل تجميدها لفترات طويلة من الزمن، ثم معاينة التمايز بين الفلاحين البستانيين والفلاحين الزراعيين.

والنموذج الأصلي للفلاح البستاني هو فلاح الغوطة، واحة دمشق الغناء التي تغذيها مياه نهر بردى، وأشجار الفواكه والجداول. وفلاحو الغوطة في الأمس واليوم كانوا جزءاً أساسياً من الثورات السورية كما كانوا أيام الرحالة العربي القروسطي ابن بطوطة، «أهل الحاضر في مناحيهم»، ويمكن ان نضيف اهل مستقبل المدينة دمشق الحديثة، إذا ما قيض للثورة السورية ان تنتصر وستنتصر، لكن ليس بعد خراب الغوطة. وأولئك الفلاحون المتنقلون من قرية الى أخرى يحدوهم الأمل بالخلاص من مضايقة القبائل البدوية ومن جشع الحكام المفرط كما لاحظ الرحالة الاوروبي الثاقب جان لوي بوركهارت العام 1812.

ومثل فلاحو الغوطة، مثل الدمشقيين من الفئات الأكثر تواضعاً، بتعاليم دينهم، بانتظامهم المديني. وفلاحو سورية كما يرون ايضاً بالمعنى الديني، وهم من أهل السنّة واليزيديين الناطقين بالكردية الأقل أهمية والشيعة الإمامية والدروز والأكثر عدداً هم المسيحيون من الروم الارثوذكس وسريان ارثوذكس وروم كاثوليك، ويفوق عدد الفلاحين العلويين في مناطق استقرارهم الرئيسية عدد المسيحيين. أما الفلاحون الآخرون جميعاً الذين يشكلون أغلبية واضحة فهم من السنّة. وهم موجودون بأعداد كبيرة في جميع المحافظات عدا اللاذقية والسويداء.

كان الدين، ولا سيما بعد تقدم الأصولية، عامل انشقاق أكثر منه قوة موحّدة، وأعاق نمو وعي أخوي بين أنصار الأديان المختلفة، كما أعاق فرص العمل المشترك، ولم يصبح الجهد الموحد ممكناً إلا بعد صعود القومية الاشتراكية في ما بعد.

هل كان فلاحو سورية في القرون السابقة ذلك الثقل المميت سياسياً؟ سؤال يستدعي انتباه الباحثين والدارسين في تفسيرهم طبيعة الاجتماع السوري الذي استدعى نظاماً ماكراً إلى حد لا يصدق ومكيافيلياً الى درجة لا تصدق وأرسى النمط الرئيسي للطبقة الاوليغارشية الحاكمة باسم العائلة والمذهب؟ مع العلم ان جذور الشخصية المركزية الحزبية سواء الشيوعية أو البعثية ظهرت في طبقة الفلاحين وكان للجذور الريفية حساسية لدى الاشتراكي العربي اول حزب زراعي في سورية والبعثية كذلك في جوانبها الريفية والفلاحية. لذلك كان للسياسات الزراعية في الستينات معناها السياسي والاجتماعي.

جاء الكتاب في خمسة وعشرين فصلاً، موزعة على أربعة أقسام، إضافة إلى ملحق وخاتمة بالمصادر. وتتدرج من عرض الشروط الاجتماعية والاقتصادية للفلاحين، الى عرض أنماط وعي الفلاحين وسياساتهم، والأشكال المبكرة في التنظيم الحرفي للفلاحين، وثوراتهم وتمرداتهم أيام الحكم العثماني والانتداب الفرنسي، وأشكال الوعي والتنظيم الحديثة والجوانب الريفية والفلاحية في عقدة البحث وخصائص المراحل التي حكم بها حافظ الأسد وباختلاف المراحل كلياً، الى القسم الرابع الذي يحلل بنية الطائفية والعشائرية والمناطقية ومستويات السلطة ودور كل مستوى في السياسة العامة للنظام.

كتاب لم يشر الى تمايزات النسيج الاجتماعي السوري وحساسيته وصعوبة إعادة بناء ما دمرته السلطة والحرب ويحتاج الى ما يكفي من الوقت والاجتماع الكثيرين.

هنا مقتطف من خاتمة الإصدار المهم: والتي تسمى عن حق قوائم جديدة نسلط الضوء عليها من ضمن الاستنتاجات وفهم أن حافظ الاسد ومن واحد وثلاثين ضابطاً اختارهم بين عامي 1970 و1997 لشغل مراكز حساسة اختار تسعة عشر منهم من الطائفة العلوية التي ينتمي اليها ومن عشيرته وكان أحد عشر ضابطاً من اولئك الضباط العلويين من طبقة الوجهاء الريفيين والقرويين الأقل شأناً التي كانت تتمتع باحترام ونفوذ بين فلاحي مناطقها على الرغم من عدم ثرائها.

إذا كان ثمة من مسلّمة لا تقبل الجدل في شأن المجتمع الريفي في سورية فهي أن الفلاحين لم يشكلوا جماعة اجتماعية متجانسة أو متماسكة طوال قرون الحكم العثماني وصولاً الى الفترة التي تلت الاستقلال مباشرة، وهذا ما تجلى بأوضح ما يكون في الثورة السورية الكبرى (1925 1927) ضد الانتداب الفرنسي، وكذلك الامر عندما اسس اكرم الحوراني الحزب العربي الاشتراكي في عام 1950. ذلك ان فلاحي سورية كانوا يختلفون بعضهم عن بعض من حيث التجربة التاريخية والولاء الديني والأفق الاجتماعي والمصالح الاقتصادية، وكذلك من حيث طبيعة استجابتهم لمختلف اشكال المتاعب او الالحاح او القمع التي يتعرضون لها على يد ملاك الأرض الغائبين او ملتزمي الضرائب او المرابين او شيوخ القبائل الاكبر او الحكومات القائمة. وكما سبق تفصيله في موضعه، كان من الممكن التمييز فيهم بين المحاصصين والعاملين بأجر والفلاحين ذوي الحيازات الصغيرة أو المتوسطة؛ وبين فلاحي الاراضي المشاع المتنقلين والفلاحين ذوي الإقامة الثابتة؛ وبين الفلاحين الجبليين الجريئين المقدامين ذوي الخلفية المقاتلة والفلاحين المستضعفين قاطني السهول الذين اعتادوا أنماط المقاومة الحذرة، وبين الفلاحين ذوي الروابط العشائرية القوية أو المتراخية والفلاحين ذوي الروابط الاقليمية فحسب؛ وبين الفلاحين الذين ينتمون الى التيار الديني الرئيس السُنّي والفلاحين الذين ينتمون الى مختلف طوائف «البدع» الإسلامية الاخرى أو الى الديانة المسيحية؛ وبين الفلاحين الذين ينتمون الى جماعات صوفية والفلاحين الذين ليس لهم مثل هذا الانتماء؛ واخيراً، بين الفلاحين البستانيين الذين تمتعوا بمزايا هذه التركيبة المهنية منذ القرن السابع عشر وربما قبل ذلك، والفلاحين الزراعيين الذين لم ينظموا لغايات اقتصادية وسياسية الا في العقود الأخيرة.

انعكس التداخل بين أبرز حوادث هذا القرن العشرين والعمليات التي ترجع الى ماض بعيد في حقيقة ان اكرم الحوراني وهو اول زعيم سوري في التاريخ الحديث ركز انتباهه على الفلاحين وحياتهم القاسية التي لم يكن يكترث لها أحد، وسعى الى التواصل معهم على اختلاف هوياتهم وفئاتهم على امل صهرهم معاً في قوة سياسية فاعلة وتوجيههم نحو التشديد على جذورهم العربية المشتركة هو سليل عائلة من رجال الدين أسست الطريقة الصوفية الرفاعية في القرن الخامس عشر في منطقة حماه، وهي طريقة حظيت بقبول واسع في الريف السوري بسبب توجهها ابتداء نحو الفلاحين، واجتهادها في خدمة أكثرهم فقراً، والأصول الريفية لكبار دعاتهم السوريين. ولكن يجب ان نضيف ان أكرم الحوراني نفسه كان يعارض بشدة ما تشجعه تلك الطريقة من سلبية وعطالة اجتماعية.

كذلك، لم تكن صدفة تاريخية ان استمد الحوراني وحزبه الدعم الأساس في حماه نفسها من حي العليليات الذي كان يقطنه آنذاك فلاحون بستانيون وكان يقع خارج أسوار المدينة أيام العثمانيين.

مما كانت له اهمية بالغة تشجيع الحوراني لكثير من شباب اعضاء حزبه، ممن يتحدرون من أسر ريفية أو حضرية ذات وضع اجتماعي متوسط أو متواضع، على الانضمام الى الدراسة المجانية في الكلية العسكرية في حمص وتأمين موطئ قدم لهم في سلك الضباط. وعلى الرغم من قوله لاحقاً في عام 1970: «علمتني التجارب ان أي انقلاب عسكري هو ضد مصلحة سورية وضد الديموقراطية»، فإن ميله خلال اربعينات القرن العشرين وخمسيناته الى توجيه أنصاره الشاب نحو المهنة العسكرية كان أحد العوامل المهمة التي ساهمت في إحكام سيطرة العناصر ذات الاصول الريفية، في لحظة محددة، على القوات المسلحة، وعلى الدولة في نهاية المطاف. غير ان ما ساعد في هذه العملية اكثر من غيره هو طغيان عدد المجندين العاديين وصف الضباط والضباط الصغار من أصول فلاحية في قوام الجيش، وهو امر لا تفسره كثيراً حقيقة ان الفلاحين كانوا يشكلون قبل اواسط الستينات اغلبية واضحة من عدد السكان الناشطين اقتصادياً، ولا مرسوم عام 1955 الذي سمح للسوريين بدفع بدل نقدي لقاء اعفائهم من الخدمة الإلزامية في الجيش قدره 500 ليرة سورية كانت تعادل نحو 140 دولاراً أميركياً وفقاً لأسعار صرف السوق الحرة حينها، وهو مبلغ لم يكن بمقدور فقراء الفلاحين دفعه. والواقع هو ان اقدارهم كانت تتجه نحو الأسوأ نتيجة الزيادة الضخمة في عدد السكان في الأرياف، وازدياد البطالة الجزئية، وتزايد الضغط على مقومات الحياة، وتزايد استخدام الآليات الزراعية التي تستخدم الطاقة وتوافر العمل البشري، وازدياد حصة ملاك الأرض الغائبين أو اصحاب رأس المال من الإنتاج، وخسارة الفلاحين المحاصصين في كثير من المزارع حقوقهم المتعارف عليها منذ زمن طويل والمتمثلة بوراثة حق إشغال الأرض. والعوامل السابقة لم تجعل من الصعب على فقراء الفلاحين ان يتجنبوا الخدمة العسكرية الدائمة بوصفها خياراً ومصدراً أفضل للدخل وحسب، بل زادت أيضاً من فرص تأثرهم بما يطرحه الحوراني وحزبه، الحزب العربي الاشتراكي، من أفكار وبرامج.

على العموم، ثمة نتيجة أخرى تعززها الأدلة بقوة ولا بد من التشديد عليها، وهي ان العقيدة البعثية تاريخياً لم تمثل قوة واحدة، بل مجموعة من العناصر التي كانت لها، على الرغم من ارتباطها، بعضها ببعض بطرائق مختلفة، أهداف اجتماعية وآفاق فكرية متباينة. وفي الجوهر، لم يكن حزب البعث في بداياته، أي بين عامي 1943 و1952، حزباً ذا توجه فلاحي، بل حزباً مقترناً بمثال القومية العربية، فمؤسساه الرئيسان كانا من أسرتين حضريتين تعملان في تجارة «البوايكية» أي تجارة الجملة للحبوب والقمح والشعير، وترعرعا في بيئة تعزز احترام الميول القومية العربية، وهو ما امتاز به، الى جانب كثيرين من افراد النخبة الثقافية الانتليجنسيا الحضرية، كثر من أبناء طبقة التجار الذين عاد عليهم تقسيم الولايات العربية في الامبراطورية العثمانية بعد عام 1917 بالضرر الكبير من حيث حرية حركة التجارة المحلية وقدرة الاقتصاد على الحياة في الاراضي المجزأة. وفي أواسط عقد الاربعينات انضم الى حزب البعث كثيرون من الشبان العلويين اللاجئين ممن فقدوا منازلهم في اعقاب ضم تركيا للواء الاسكندرون ذي الأغلبية العربية في عام 1939، وهو ما زاد في اتقاد حماسة المشاعر القومية العربية في صفوف الحزب. وكان لنكبة فلسطين في اواخر الاربعينات اثر مشابه لكن اشد عمقاً بسبب جسامة مأساتهم وفداحة نتائجها.

لم يحظ حرّاث الأرض بانتباه كبير من حزب البعث حتى «وحدته» مع الحزب العربي الاشتراكي بقيادة الحوراني في عام 1952. غير ان تلك «الوحدة» كانت تحالفاً بين القادة أكثر منها اندماجاً على مستوى القواعد الحزبية، وظل العدد الكبير من الفلاحين انصار الحوراني يعمل وفق توجيهاته.

والواقع ان حزب البعث لم يضرب قط بجذوره عميقاً في القرى، غير انه ساهم مساهمة ملحوظة في نمو انتليجنسيا ريفية واعدة سياسياً. فقد كان في صفوفه كثيرون من الطلاب وفي أطره القيادية كثيرون من المعلمين الذين ينحدرون من أصول فلاحية أو ريفية، انشدوا إليه نتيجة عدائه الشديد للظلم الاجتماعي وللتمييز بين الطوائف.

على النقيض من ذلك، أولى التيار السائد بين البعثيين «الانتقاليين» في عقد الستينات اهمية بالغة منذ البداية للفلاحين وأوضاعهم، فزاد بشكل كبير الحصة المستحقة من الانتاج لفئة من لا يملكون أرضاً، وخفض مجدداً سقف الملكية الخاصة للأرض، وسرّع وتيرة توزيع الأراضي المصادرة بموجب قوانين الاصلاح الزراعي، وأعفى الفلاحين المستفيدين من ثلاثة أرباع قيمة الأرض، وأعفاهم في بعض المناطق من دفع أي مبلغ على الاطلاق، كما عزز الحافز التنظيمي الذي أطلقه الحوراني بين الفلاحين، فأنشأ خلال النصف الثاني من العقد اتحادات فلاحية في أكثر من 1500 قرية.

على العكس من حزب البعث القديم الذي كان قادته وناشطوه مدنيين بشكل ثابت ومطرد، فإن البعث «الانتقالي» ظل حتى عام 1967 يستند جوهرياً الى تحالف قلق ضمن القوات المسلحة بين مجموعات متباينة اشتركت في أن لها اصولاً ريفية متشابهة وتوجهات ريفية متشابهة، وضمّت علويين من مناطق اللاذقية وحمص وحماه، واسماعيليين من مصياف وسلمية، ودروزاً من جبل العرب، وسنّة من مناطق حوران ودير الزور ومن بلدات ريفية صغيرة مختلفة. غير ان مركز الثقل الحقيقي للحزب ونظامه في تلك المرحلة كان الحلقة الداخلية للجنته العسكرية السرية، ومن ثم المكتب العسكري الذي خلفها. ولم يكن معظم اعضاء تلك اللجنة أبناء فلاحين محاصصين لا يملكون أرضاً أو فلاحين محرومين، ولكنهم كانوا ينحدرون من طبقة الوجهاء الريفيين او القرويين المتوسطة أو الأقل شأناً ممن كانوا في حالة صعود اجتماعي منذ عام 1930، وهو ما يرجع أساساً الى ما أوجدته حكومة الاستعمار الفرنسي من مناطق خاصة ذات حكم شبه ذاتي في جبل الدروز ومناطق العلويين، والى سياسة الحكومة في دعم الوجهاء الريفيين وإقامة توازن بين الأرياف والمدن.

في عام 1968 انهار التحالف الذي كان قائماً بين جماعات عسكرية ريفية مختلفة بفعل الضغط الداخلي الذي ظل يتعرض له منذ عام 1963، تاركاً الهيمنة الحاسمة على القوات المسلحة في يد جناح يسيطر عليه ضباط جيش علويون. ولم يكن هؤلاء الضباط أنفسهم بمنأى عن الخلافات، فانقسموا مرة اخرى. وظهرت حالة غير مستقرة من «ازدواج السلطة» بين مجموعتين، الاولى بقيادة اللواء صلاح جديد، وكانت تمسك بزمام الامور في الجناح المدني للحزب، وتدفع نحو تغييرات داخلية بنيوية أعمق، والثانية بقيادة اللواء حافظ الأسد، وتسيطر على معظم الوحدات الحساسة في القوات المسلحة وتعطي الاولوية لمسائل الأمن القومي في اعقاب النتائج الرهيبة لحرب عام 1967. واستمر «ازدواج السلطة» حتى عام 1970 بخروج حافظ الأسد منتصرا بعد أن عمق قاعدة التأييد له في صفوف الجيش.

كان حافظ الأسد، في السياسات الاقتصادية الاجتماعية، منذ البداية وفي الجوهر، بنّاء إجماع، ولم يتحول عن هذه النزعة الاساسية إلا موقتاً في الأعوام المليئة بالمتاعب من التمرد المسلح للمقاتلين الاسلاميين. وعلى الرغم من اهتمامه الدائم برغبات الفلاحين، فإنه لاحظ باكراً ان احدى الطرائق الناجعة للمّ شمل البلد وضمان استمرار سلطته هي بناء الجسور مع التجار ورجال الصناعة في المناطق الحضرية وتأمين مصلحة لهم في نظامه. هكذا سمح لهم بدور أكبر في اقتصاد البلد، بشكل بسيط في بداية الأمر وبشكل أكثر أهمية منذ أواسط الثمانينات. كما دعم في أوائل التسعينات سن قوانين تشجع الاستثمار الخاص، وخفض خفضاً كبيراً الضرائب على الأرباح الصافية للشركات. لكن تبنيه هذه السياسة كان يرجع أيضاً الى الظروف الاقتصادية الصعبة وإلى ضرورة اتخاذ تدابير علاجية ناجعة.

تغير طابع حزب البعث في عهد حافظ الاسد، وأحد أسباب ذلك هو ان الحزب أصبح بالمعنى العددي حزباً جماهيرياً. فقد ازداد عدد اعضاء الحزب بشكل كبير حتى بلغ 1,008,243 عضواً في عام 1992. كما انتشرت المنظمات التابعة للحزب انتشاراً كبيراً. وعلى سبيل المثال، امتدت الاتحادات الفلاحية في عام 1995 لتشمل 50161 قرية وتضم 801,230 عضواً، وهو رقم يمثل، على الأرجح، ما لا يقل عن 95 في المئة من السوريين الناشطين في مجال الزراعة باستثناء المستخدمين. لكن ازدياد حجم الحزب لم يترجم على شكل قوة سياسية لها نفوذ قوي على الممسكين بالسلطة الحقيقية أو على صناعة القرارات المهمة، حيث جرى الحد من استقلال الرأي الذي كان اعضاء الحزب يتمتعون به في الماضي بشكل أو بآخر، وأضحت الاولوية هي للتطابق في الرأي وللانضباط الداخلي. واصبح الحزب في الواقع أداة أخرى يستخدمها النظام في سعيه الى السيطرة على المجتمع بأسره أو في حشد التأييد لسياساته. وتحولت الأطر القيادية الناشطة في الحزب تدريجاً الى بيروقراطيين ومحترفين في مجالات عملهم وفقدوا تلك الحيوية الايديولوجية التي ميزتهم في عقدي الخمسينات والستينات، ذلك ان الولاء غير المشروط لحافظ الأسد تقدم في النهاية على الولاء للقناعات القديمة.

وكانت تلك الحصيلة الى حد كبير نتاجاً ثانوياً لنجاح حافظ الاسد في ترسيخ سلطته، حيث شيد في الواقع بنية مرنة رباعية الطبقات ضمن بوساطتها الاستقرار لسلطته التي اصبحت في النهاية سلطة لا ينازعه فيها أحد. على النقيض من ذلك، فإن منافسيه الرئيسين في اللجنة العسكرية او في المكتب العسكري، في المرحلة التي كان البعث فيها يمر بمرحلة انتقالية، لم يكونوا قادرين على تنظيم سلطتهم بطريقة فاعلة نتيجة صراعاتهم الداخلية وصدمة حرب عام 1967. اما قادة البعث القديم فلم يتمكنوا قط من بناء سلطة حاسمة على الرغم من انهم شغلوا مناصب عليا في بعض الفترات، بما في ذلك رئاسة الوزراء.

لا تتجلى الاهمية الاساسية للسلطة في البنية السياسية الراهنة إلا في المستوى الاعلى لهذه البنية، حيث يمسك حافظ الأسد وحده بعصب السلطة الحقيقية، وله الكلمة الاخيرة في المسائل الحساسة كلها. أما في المستويات الاخرى كلها فليس للسلطة، كما سبق وفصلنا في فصول سابقة، سوى اهمية ثانوية. ومع ذلك، يظهر قدر مسموح به من الانفتاح او النقد المعتدل في مؤتمرات حزب البعث او اتحاد الفلاحين او الاتحاد العام للعمال او جلسات مجلس الشعب أو غرف الصناعة والتجارة. لكن هذا النقد لا يطال البتة حافظ الاسد أو توجهاته الأساسية، بل يوجّه صوب مناحي مشتقة من سياسته أو نحو التدابير التنفيذية أو اساليب عمل من هم في مستويات أدنى. وبهذه الطريقة يتحسس حافظ الاسد مزاج الشعب، وهي ايضاً احدى وسائله في إبقاء مرؤوسيه تحت الرقابة.

في الوقت ذاته، من الضروري الا تغيب عن الأنظار تلك الاشكال الحاذقة من النفوذ التي تمارسها عناصر من خارج الحلقة الرسمية للسلطة من أمثال كبار التجار ورجال الصناعة. وبغض النظر عن نجاح هؤلاء في نقل روح الربح التي تحركهم هم أنفسهم الى كبار المسؤولين في مؤسسات الدولة المتصلة بمصالحهم، فإن الدعامة الأساس لنفوذهم هي اموالهم المودعة في حسابات مصرفية اجنبية بعيداً عن قبضة النظام المتلهف الى اجتذابها.

ثمة عدد من الحقائق الأخرى الجديرة بتسليط الضوء عليها. فمن بين واحد وثلاثين ضابطاً اختارهم حافظ الأسد بين عامي 1970 و1997 لشغل مراكز حساسة في القوات المسلحة وقوات النخبة العسكرية وشبكة اجهزة الامن والاستخبارات، كان ما لا يقل عن تسعة عشر منهم من الطائفة العلوية التي ينتمي اليها، بمن فيهم ثمانية من عشيرته واربعة من عشيرة زوجته، ومن بين هؤلاء الاثني عشر ضابطاً المذكورين، هناك سبعة تربطه بهم صلاة قربى إن من طريق الدم أم الزواج. وكان أحد عشر ضابطاً من أولئك الضباط العلويين التسعة عشر ينحدرون، شأنهم شأن معظم اعضاء اللجنة العسكرية لحزب البعث في عقد الستينات، من طبقة الوجهاء الريفيين او القرويين الأقل شأناً التي كانت تتمتع باحترام ونفوذ بين فلاحي مناطقها على الرغم من عدم ثرائها.

كثيراً ما يقدم الرجال الذين يحيط القائد نفسه بهم دليلاً على طريقة تفكيره. لكن، على الرغم من وضوح رؤية حافظ الاسد، في سعيه الى ضمان امن عهده وصلابته، ان من الحكمة ان تتشكل نواة قاعدة سلطته من علويين او اقارب، فإنه من الشطط القول انه طائفي او عشائري من حيث أفقه أو نهجه. ولا توجد ادلة كافية على ان أبناء طائفته او عشيرته كان لهم حظ أكبر من حلو الحياة أو مرّها مما كان لأغلبية الشعب السوري.

من الواضح ان بنية السلطة التي صاغها حافظ الأسد تعتمد اعتماداً كبيراً على شخصه. وما من شك في انها تستند بقدر كبير الى مهارته السياسية وبراعته التي لا مراء فيها في التحكم بالظروف أو تسخير القوى لمصلحته أو تفتيت جميع خصومه الداخليين وإحباط مناوراتهم والتغلب عليهم. والواقع ان كثيرين من السوريين يتساءلون إن كانت بنية السلطة ستستمر من بعده أم انها ستتداعى من أعلاها الى اسفلها بعد وفاته. ويصعب طبعاً التنبؤ بدقة بنتائج وفاته، ففي مثل هذه الاحوال تتوقف الامور كثيراً على طبيعة الظروف الداخلية والإقليمية المصاحبة لأزمة كهذه.

يبقى السؤال عن تحسن أحوال الفلاحين منذ منتصف عقد الستينات، أي منذ تقدمت عناصر ريفية الى واجهة المشهد السياسي. ففي عام 1991 وصف رئيس الاتحاد العام للفلاحين عهد حافظ الأسد بأنه «عصر الفلاحين الذهبي»، وذلك في معرض حديثه عن التغيرات النوعية التي عرفتها القرية السورية. واذا فكرنا في بحبوحة عيش العدد الاكبر من حراث الارض، فهل يصح التأكيد على انه كان يسطّر أسطورة أم ان وصفه يستند إلى أساس ما في الواقع؟

كان من بين العوامل التي ساهمت، على نحو مباشر أو غير مباشر، في تحسين فرص حياة عدد كبير من الفلاحين ومستوى معيشتهم، بغض النظر عن المشكلات التي رافقتها: انتشار التعليم وخبراء الزراعة المدربين في الأرياف وانتشار المراكز الصحية والوحدات الطبية المتنقلة والارتفاع الملحوظ في متوسط العمر المتوقع ومنظومة النقل والمواصلات الأسرع والأكفأ وتزويد ما لا يقل عن 95 في المئة من القرى السورية بالكهرباء وإعفاء الطبقات الزراعية من ضريبة الدخل واعفاؤها ايضاً من ضريبة الارباح منذ عام 1992 واعفاؤها مؤخراً من الضرائب والرسوم على السلع الزراعية المصدرة.

في الوقت ذاته، وعلى الرغم من تحسس النظام رؤى جماهير المزارعين ومعاناتهم، فإن مما لا شك فيه ان التفاوت في الدخل الزراعي ظل قائماً، بل ظل في ازدياد منذ ان بدأت في عام 1972 عملية تحرير الاقتصاد التي تسارعت وتيرتها، ولو بفتور ومن دون حماسة، في بداية عقد التسعينات مع ما يرافق هذه العملية من تخفيف قبضة الضوابط المركزية على الاقتصاد.

وضمن حدود القدرة على التأكد من صحة المعلومة التالية، فإنه مما يلفت عدم بذل أي جهد، خلال عهد حافظ الأسد، في جمع بيانات منهجية عن توزع الدخل الزراعي بين العمال الذين لا يملكون أرضاً والفلاحين ذوي الملكية الصغيرة والفلاحين ذوي الملكية المتوسطة والمزارعين الأغنياء والمستثمرين. أما بالنسبة الى توزع الملكية الخاصة للأرض، فتشير الأرقام الوحيدة المتوافرة، وترجع إلى الفترة الواقعة بين عامي 1970 و1971، الى ان المستفيدين الرئيسين من إجراءات الاصلاح الزراعي لم يكونوا صغار الفلاحين بل الفلاحين المتوسطين الذين انحدرت منهم الشخصيات الرئيسة في نظام حافظ الأسد ونظام البعث «الانتقالي» في عقد الستينات. وإذا استثنينا الحيازات المملوكة جزئياً والمستأجرة جزئياً التي شكلت أقل من 9 في المئة من المساحة الكلية للحيازات الخاصة، فإن نسبة مُلّاك الارض المتوسطين، أي الذين يملكون بين 10 دونمات و100 دونم، كانت تصل الى 23,9 في المئة من مالكي الارض في الفترة الواقعة بين عامي 1970 و1971، في حين كان مَن يملكون أقل من 10 دونمات يشكلون نسبة تصل الى 75,4 في المئة من كل ملاك الارض، لكن الفئة الاولى كانت تملك نسبة تصل الى 58,7 في المئة من مساحة الاراضي الزراعية المملوكة بشكل كلي، في حين كانت الفئة الثانية تملك نسبة تصل الى 23,5 في المئة فقط من تلك المساحة. أما التفاوت في الحيازات المستأجرة فكان أكثر وضوحاً بكثير: ذلك ان نسبة 1,9 في المئة من المستأجرين كانت تستأجر نسبة تصل الى 35,3 في المئة من الاراضي المؤجرة. وهذا يعني ان ملكية الأرض، من وجهة نظر اقتصادية، اصبحت اقل قيمة من القدرة على إدخال رأس المال او التكنولوجيا الحديثة للتأثير في الانتاج الزراعي. وهذا ما يفسر الميزة التي يتمتع بها في الأرياف المزارعون ممن يملكون الأرض ويملكون رأس مال على شكل آلات زراعية أو المستثمرون الذين يستأجرون الارض تجاه بقية الطبقات الزراعية.

لا يمكن إنكار ان الفقر ما زال موجوداً عند أسفل سلم الدخل، ولكن ليس إلى تلك الدرجة من البؤس التي كانت سائدة في النصف الاول من القرن العشرين. ولكن اذا ما استمر النظام في تكييف سياسته اكثر فأكثر مع نزعة العولمة الاقتصادية الصاعدة فإن فرص حياة أولئك الفلاحين ستزداد سوءاً على الأرجح. وتشير الأدلة التي جمعها باحثون في معهد دراسات السياسات (Institute for Prlicy Studies) في الولايات المتحدة الى ان تقدم عملية العولمة والتجارة «الحرة» أسفر عن ان «مجموع ثروة 447 مليارديراً في أنحاء العالم أكبر من دخل النصف الأفقر من سكان العالم»، وان هذه الظاهرة تهمل «ثلثي سكان العالم على الأقل»، وتهمشهم، وتلحق الأذى بهم، وانها «تدمر المجتمعات الريفية القابلة للحياة». وذلك ما يعطي مزيداً من المضمون للملاحظات التي قدمها سعد الله ونوس، وهو كاتب مسرحي سوري من قرية حصين البحر في محافظة طرطوس، في كلمته المؤثرة التي ألقيت بمناسبة يوم المسرح العالمي في المعهد الدولي للمسرح التابع لليونسكو في باريس في 27 آذار/ مارس 1996، قبل عام من وفاته، وقال فيها: «يا للخيبة! فإن العولمة التي تتبلور وتتأكد في نهاية قرننا العشرين.. تعمّق الهوة بين الدول الفاحشة الغنى، والشعوب الفقيرة.. وتدمر، دون رحمة، كل أشكال التلاحم داخل الجماعات، وتمزقها إلى افراد تضنيهم الوحدة والكآبة».

النهار

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى