صفحات الثقافةممدوح عزام

عودة عوليس السوري/ ممدوح عزام

 

 

في بداية السبعينات من القرن العشرين، نزل عجوز منهك ضئيل القامة، في الساحة الرئيسة للمدينة، نظر حوله بحزن، حين لم يعرفه أي شخص هناك، ولم يعرف أحداً. ثم حمل حقيبته ومضى نحو ما يذكر أنه بيته.

هذا هو مزيد عز الدين. وقد ورد اسمه في الرواية الوثائقية التي كتبها سلامة عبيد عن السجين السوري العائد من سجون الغويانا الفرنسية، قبل هذا التاريخ بعشرين سنة حمد ذياب. كان عنوان رواية عبيد هو: “أبو صابر الثائر المنسي مرتين”. وقد ذكر حمد ذياب فيها، بينما كان يسرد ذكرياته، أن زميليه في السجن: مزيد عز الدين، ويونس جربوع قد ماتا في إحدى غابات المكان الشيطاني الذي جعله الفرنسيون سجناً.

تعرفون رواية هنري شاريير “الفراشة”؟ حين ترجمت إلى اللغة العربية في عام 1982، كان قد مضى آنئذ بضع سنوات على عودة مزيد من المكان ذاته الذي سجن فيه هنري شاريير. لم يثبت لي أن مزيد أو حمد ويونس قد التقوا هناك بشاريير، في سجن الغويانا نفسه، أو في سجون جزيرة الشيطان الملحقة بها، داخل المحيط.

وسجن الغويانا واحد من تلك الأماكن التي يمكن القول إنها مأخوذة من صور الجحيم كما تخيلته جميع الكتب التي حاولت مقاربة ذلك المكان. هناك في تلك المستعمرة النائية في أميركا الجنوبية تمكّن الفرنسيون من بناء مجموعة من المعتقلات المتوحشة التي يُرحلون إليها السجناء من أصحاب المدد الطويلة، من فرنسا ومن البلدان التي كانت تحتلها في حقبتها الاستعمارية.

الحقيقة أن “الفراشة” تطفح بالصور المرعبة عن الأساليب الجهنمية التي كان السجانون الفرنسيون يبرعون في ممارستها ضد أولئك السجناء المساكين الذين أخذوا بعيداً جداً عن أهلهم ومنازلهم وبلدانهم ومعارفهم وأصدقائهم. وتركوا هناك تحت رحمة مجموعة ضباط وجنود أو رجال شرطة من المتحجرين الخبثاء الساديين.

في أكثر من صفحة من روايته “الفراشة”، يأتي هنري شاريير على ذكر العرب المسجونين هناك، قبل أن يفرّ من الجزيرة الملعونة، غير أنه لا يشير البتة إلى أسباب سجنهم. والغريب ألا يشير إلى أن السجناء العرب هناك، ومن بينهم الرجال الثلاثة الذين ذكرتهم قبل قليل، كانوا يقضون فترات سجن مختلفة، لأسباب سياسية، أي لأنهم شاركوا في الثورات ضد المستعمر في بلادهم.

وبالعكس فإنه يتحدث عن العرب، الذين يشاركونه السجن هناك، حديثاً عنصرياً فيقرن أسماءهم باسم العنز دائماً، وهو يتهمهم بالوشاية. لا أعرف لِمَ استخدم هذا التشبيه التحقيري المشين، ولا أعرف بالتالي لِمَ يظهر رجل يعاني الظلم، هذا القدر من الكراهية، لسجناء يعانون القهر مرتين.

مات مزيد عز الدين فقيراً، ووحيداً، بعد عودته الأسطورية من غياب دام أكثر من أربعين عاماً، وقد التقيت به في أوائل الثمانينيات من القرن العشرين. وسجلت حديثاً طويلاً بيننا. وكنت قد قرأت رواية الفراشة، فسألته فيما إذا كان يعرف هنري شاريير؟ فقال: هل سجن في جزيرة الشيطان؟ قلت: نعم. قال: كان الله في عونه.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى