صفحات الثقافة

لأنكَ وصلتَ، بقمرٍ يُضيئُكَ طويلاً/ فيليپه بينيتِث رِيّس

الشيطان

 

الشيطانُ يجوبُ العالم

– بمِحْجَنِه الإعجازيِّ المتوهّج-

فاقدَ الذاكرة، هرِماً ومبتسماً،

بأسنانه النخرةِ الصغيرة، يكشفُ

لِثّته الورديّة

كمُتقاعدٍ سماويٍّ سعيد،

يزور مكاتبَ سياسيّين ضعفاءَ،

ومتاجرَ

توشكُ أن تُغلق إثر الإفلاس،

ومخافرَ للشرطةِ

تفوحُ بالتبغِ والوِشاية؛

 

يمضي مُلقياً كُراته الكبريتيّة

في الأديرةِ والمدارس،

على كراسي الاعترافِ حيث الحقائقُ المترنّحةُ،

وفي مقصوراتِ الهاتفِ

التي يحتلّها المدمنون؛

 

في حُجراتِ المراهقينَ الذين يستمنون

وفي صومعاتِ الراهبات،

في فندقِ شهرِ عسل العرائس،

في الماخورِ الرخيص وبين اللاجئين،

 

الشيطانُ يجوبُ العالم.

 

يُملِي الخطاباتِ على الطاغية

وأخبارَ الحوادثِ الموجزة الضاجّة في الجريدة،

ورسالةً تُنهي علاقةَ حبٍّ

أو حتى رسالةَ بيعِ أسلحةٍ كيميائيّة،

 

مُفسِحاً بهذه الطريقة للقَدرِ

أن يُعمِلَ آلاته المباغِتة

آلاتِ الصُّدفة والفجيعة،

بينما العالمُ يرتجفُ مثل كريستالٍ آدميٍّ؛

 

بطبولِ المجد، وجلاجِلَ من نارٍ،

الشيطانُ يجوبُ العالم.

 

يُسهِّل كلَّ شيءٍ ليشعرَ الطفلُ الذي يعدو بجانبِ البحيرة

بالفضولِ كي يرى كيف يكتبُ الضفدعُ

في قفزاته فوق الماء

قصيدةَ هايكو بكلماتٍ دائريةٍ مثلَ صرخاتٍ بالضَّبط

– وتلك القَدم التي تزلُّ،

والعيون المفزوعة في الأعماق-؛

 

يجوبُ الشوارعَ التجاريّة، ويزورُ

البيتَ الزجاجيَّ للقاتل،

بأنفاسِ قِطٍّ، بقبّعتِهِ ذاتِ القرنين،

مريضاً بالزُّهري، وبسأمٍ فلسفيٍّ،

الشيطانُ يجوبُ العالم.

 

الغرفة السوداء

 

رأيتُها أوّل مرّة في نومي – في التشوِّشِ

الكثيفِ للأشكالِ

الخاطفةِ التي تظهرُ في الأحلام.

 

بعد ذلك تخيّلتُها، بدقَّةٍ الآن، في سَهَري:

بارتفاعِ سقفها وعتمةِ أمتارها المربّعة،

تُشبهُ بُقعةَ حبرٍ داكنة

كنتُ سأدخلها مرّةً مُتلمِّساً الظلال.

 

باكراً حدستُ أنّ هناك جثماناً في داخلها.

 

هكذا دخلتُ الغرفةَ،

وكان ثاوياً هناك:

صرامةُ وجهٍ خالٍ من التعابير،

نحتَهُ الموتُ على الفورِ

بإزميلٍ من جليد.

 

قلَّبتُ فرضيّاتي. فكّرتُ في دوافعَ نادرةٍ للجريمة.

حتى أنني وصلتُ إلى إطلاق اسمٍ على القاتل.

 

أنا الآن داخلَ الغرفةِ السوداء.

 

رأيتها أوّل مرّة في نومي، وبعدها في سَهري.

 

لم أعدْ أخرجُ منها.

 

سيّان كان الفصلُ شتاءً أو صيفاً،

الغرفةُ السوداءُ دافئةٌ دائماً.

 

الرؤى هناكَ متغيّرةٌ كثيراً،

كلّ شيءٍ متناقضٌ وزائل،

لكنّها الغرفةُ التي أرى في نومي،

وأستطيعُ وصفَ ما يدور فيها:

في داخلها

قاتلٌ مُتقرِّزٌ

يطعنُ الجسدَ نفسه كلّ ليلةٍ،

ولكليهما إيماءةُ مَنْ لا يفهمُ شيئاً،

وفيها وجهُ مهرّجٍ مُدمَّى،

وهذا الوجهُ هو وجهي.

 

 

المراهقات وصِلتُهنّ بقدوم الربيع

 

متنكّرات كي يقتلن.

 

إنهنّ أوفيليا وجوليت الضواحي

بانيساتٌ* من مجمّعاتِ العمّال الصناعيّة

مآسٍ هزليّةٌ من الأجساد في مسرحِ عرائسِ العالم،

 

بعبقِ قاعاتِ الدروس والنوادي الرياضيّة

ومراقص أوّلِ الليلِ المُظلمةِ

التي يُداعبُ فيها جنودٌ وجانحون

قِطعَ كنزٍ مسروقٍ

من الزمن الذي لا يتوقّف.

 

كي يقتلنَ،

قُلت.

كي يجرحن. كي يُسبّبنَ الأذى.

 

لأنّ الزمن يُعِدُّ حساباتِه

بأرقامٍ غير أكيدةٍ يضرِبُها، في النهاية،

بالصِّفرِ، ويُوجِدُ العدم.

 

الصِّفر.

 

وفي الربيعِ ترحلُ أنت،

مُتفائلاً،

مثل صفرٍ يتيهُ في العدم.

 

* بانيسا، من الأسماء الحديثة نسبياً. ارتبط هذا الاسم في إسبانيا بالدلالة على بنات أُسر الطبقات الفقيرة العاملة.

 

سينما صيفيّة

 

الليالي الصيفيّة لطفولتي

هي زمنٌ لا يموتُ وهي سينما

كانت تهِبُ في كيميائِها المُضيئة

مُتوالياتِ السرابِ المُتماوِجة:

تمجيدُ الأبطالِ المُدمَّى،

الجوهرُ المُوحِشُ لصحراءَ

أو الرغبةُ المُفصَحُ عنها كثمرةٍ

في أحمرِ الشفاهِ الآثمِ لصبيّةٍ

كانت تكتبُ بالرموز جوهرَ لُغزٍ

لن يكشفهُ الزمن.

 

الليالي الصيفيّةُ لطفولتي

هي زمنٌ خالدٌ يموتُ فيَّ.

 

وأنا أحفرُ لهُ هذا القبر. وأنحتُ على شاهدته هذي الكلمات.

 

 

أُنشودةٌ للشتاء

 

لأنّكَ وصلتَ،

يا صاحبَ اليدين الناعمتين بخواتمَ من فضّة،

لهاثُ الأحصنةِ

يُضبِّبُ الليلَ، ودخانُ البواخرِ

يطفو حائراً في الهواء،

والبحرُ

مثلُ وحلٍ أخضرَ يضطرب.

 

لأنكَ وصلتَ، بقمرٍ يُضيئُكَ طويلاً،

وبعُكَّازٍ صغير من جليدٍ تتوكّأ عليه

-وبذاكَ الريشِ الذي يتجوّل في الحدائق-،

والريحُ تحفُّ أغصان الشجرة، وتُخشخش في الزوايا

مُتجعّدةً

مثلَ ورقةِ لعبٍ غير مُؤاتيةٍ بين أصابع

ملكٍ مجنونٍ ومهزوم.

 

لأنكَ وصلتَ كلُّ شيءٍ أكثرُ بياضاً،

وسجائرنا كعِيدانِ النار البنغاليّة

لأشخاصٍ مذعورين يهيمون

في الطريق إلى حُلمِهم

الذي يرون فيه تنانينَ وألغازاً، ونساءً

لن يحظوا بهنّ أبداً بأيّ شكلٍ آخر سواه.

 

في ساعةِ الندمِ

الليليّة،

يداكَ الباردتان تمَسَّان

القلبَ الخافق للغاباتِ

ذاتِ النُّسغِ المتخثِّر،

يداكَ

تفرُكانِ وجوهنا كعلامةِ موت،

دائماً تكونان

مدسوستين في الماءِ الذي نشرب،

وهكذا تتغلغلُ فينا،

لأنكَ وصلتَ الآن، وأنت سيّدُ

كلّ شيءٍ استخفَّتْ به الشمس.

 

فلنُغلقِ الشبابيكَ:

حان وقتُ التفكير في ما لن يرجعَ

أبداً ليعودَ مُلكنا بعد الآن،

لأنكَ وصلتَ،

مُهاجراً دقيقَ المواعيد أصابعُه قوطيّةٌ متجمّدة،

وكلُّ شيءٍ ينطوي

على نفسه، تحت الروح، آنَ يشعرُ

بأنّ يديك الباردتين اللتين وضعْتَهُما على الزمن،

تجعلان كلَّ ما هو فانٍ يرتجف.

 

ترجمة عن الإسبانية، كاميران حاج محمود (مترجم سوري)

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى