صفحات سوريةعمر قدور

الثورة المنبوذة/ عمر قدور

 نستطيع استعارة العناوين التي وضعها اسحق دويتشر لثلاثيته عن تروتسكي، من دون تقيدٍ بتسلسلها الأصلي، من أجل وصف أطوار الثورة السورية. فعنوان “النبي الأعزل” يصلح لوصف الأشهر الأولى، حينما كانت الثورة تتلقى وحشية النظام، وترفع شعارات تليق بالأنبياء حقاً من قبيل “إن بسطت يدك لتقتلني فما أنا باسط يدي لأقتلك”. للتذكير؛ العنوانان الآخران في ثلاثية دويتشر كانا “النبي المسلح” لجزئها الأول، و”النبي المنبوذ” لجزئها الثالث، ولعل تجرؤه على استخدام وصف النبوة اللاهوتي في الحديث عن تروتسكي يجيز لنا استخدام المجاز نفسه، ولكن على خلاف مع اللاهوت الطائفي الذي راح يتغلغل في الصراع الحالي.

سيكون مفهوماً في السياق نفسه الاعتراض على استخدام تعبير “النبي المسلح” للدلالة على طور العسكرة في الثورة، لما حمله هذا الطور من فوضى على صعيد التشكيلات المقاتلة، ومن انفلات على صعيد القيم. إلا أن الانفلات هنا قام على الخلط المتعمد بين عدة حروب معاً، الثورة طرف في واحدة منها من حيث المبدأ، وقد تكون بحكم الضرورة طرفاً في حروب أخرى مستجدة. هذا لا يغيّر، بل على الأرجح يعزز، من التراجيديا التي وسمت مسار الثورة، إذ يذكّر بالمصائر التراجيدية في الملاحم الكبرى؛ تلك التي تواطأت أو تصارعت من أجلها الآلهة، وعليه انزاحت مآلات أصحابها عمّا كانوا يعتقدون أو يرغبون فيه حقاً.

لم يكن مقدّراً للثورة أن تنتصر؛ القدر هنا يتجسد في مجموع القوى الإقليمية والدولية التي لم تسمح لها بالانتصار، ولعل النظام وحده أقل القوى شأناً على هذا الصعيد. في الواقع لم يكن تهديد شبيحته بحرق البلد إلا استقواء بالخارج على الثورة العزلاء، ولم يقدروا على تنفيذ تهديدهم إلا لأن أصدقاء الثورة أقل نزاهة مما يجب لدعمها على الانتصار. هكذا، على المثال السابق للتراجيديا، تبدو القوى المتصارعة على الأرض مسلوبة التحكم بمسار الصراع الذي تخوضه قوى أعظم على مستوى آخر أعلى، فلا يُسمح لطرف بأن يشطّ بعيداً عن منطق التوازن الكلي. لكن ذلك لا يعفي الثورة من المحاسبة على أخطائها، وأولها ربما عدم قدرتها على الانتصار، لأن هذا لو حصل لكان كافياً لتنجو من الحساب.

في نوع من الضغط السافر، واللاأخلاقي، تتجه الثورة لتكون ثورة منبوذة، وكلما تقدّمت ميدانياً صار ملحّاً أكثر من قبل أن تُحاصر ويُضيّق عليها سياسياً وعسكرياً. وقد تكون سابقة من نوعها أن تتحمل ثورة وزر الآخرين من كل حدب وصوب، فتقاعس المجتمع الدولي عن حماية المدنيين يتم تحميله عليها، حرب الأجانب تصبح ذريعة لتغييب الصراع الأساسي، الحرب على الإرهاب تعود لتفضيلاتها القديمة في الاعتماد على الاستبداد، وحشية النظام لم تعد مثار استنكار أو شجب، أو حتى انتباه.

يعلم الجميع أن النظام بات عاجزاً عن البقاء، وتلك هي الورطة التي تبحث القوى العظمى عن حل لها، والتي تقتضي مؤقتاً تحجيم الثورة لتبقى عاجزة عن الانتصار. يعلم الجميع استحالة العودة إلى الوراء، لكنهم يماطلون لضمان إسقاط الثورة أولاً قبل إسقاط النظام، بما أن الأخير صار مرتهناً تماماً للخارج. وبخلاف ما يروّج عن ارتباطات خارجية للمعارضة لا يمكن القول بأن الثورة مرتهنة لأية جهة؛ التفريق بين الاثنتين ضروري لأن الضغوط والإغراءات قد تثمر مع الأولى، من دون أن تؤثر بالقدر المأمول على الثانية. لذا ينبغي أن تبقى الثورة منبوذة، ينبغي أن تُحاصر روح التمرد وأن تُبتز لتقديم تنازلات جوهرية وضمانات تكفل القضاء عليها!

بحساب نظري لميزان القوى، كان على الثورة أن تتوقف قبل سنتين من الآن، فمنذ ذلك الحين ظهر الحجم الكبير للالتفاف الخارجي والداخلي عليها. غير أن عناد السوريين تغلب على الحسابات العقلانية، وبقي أميناً لمنطق الاستمرار بها، وإن على حساب الطهرانية الثورية. هذا قد يفسّر بعض ما يتعرض له السوريون في الشتات، فلا تكفي المصادفة وحدها لتبرير الضغوط المتزايدة عليهم في بلدان النزوح.

كان على السوري أن ينتصر سريعاً، أو أن ينصاع، لئلا يصبح منبوذاً كما هو حاله الآن.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى