صفحات العالم

حريق حلب


يوسف بزي

نستطيع ان نؤرخ لحظة سقوط الدولة الوطنية الأولى، الدستورية والبرلمانية، ليس مع تأسيس دولة اسرائيل وهزيمة الجيوش العربية (ايار 1948) وحسب، إنما مع حريق القاهرة (كانون الثاني 1952) الذي أتى على منشآت وعمارات وسط العاصمة المصرية.. وهو سبق الانقلاب العسكري لـ«الضباط الأحرار» في تموز من العام نفسه.

المدينة بوصفها خلاصة الجهد الحضاري، «النهضوي» و»الحداثوي»، وبوصفها التجسيد العمراني للدولة، وانتظام المجتمع وعلاقات الإنتاج وادارة المصالح..هذه المدينة التي تختزل، في مظاهرها وبواطنها، التواريخ والذاكرات والتجارب، أي الهوية والسياسة والثقافة والاقتصاد.. هي التي احترقت.

المدينة العربية المعاصرة، كما حال القاهرة، الراحلة من الزمن الفاطمي والمملوكي والعثماني الى «صدمة الغرب» (حملة نابليون)، فالدخول الى عصر «ما بعد الاسوار والقلاع» مع مشروع محمد علي، الشغوف هو وسلالته بالكوزموبوليتية المتوسطية، إلى ثورة 1919 بما حملته من تبلور لـ«الوطنية المصرية» ثم الزمن الكولونيالي الذي داخلته واستمرت بعده الحقبة الليبرالية البرلمانية (الملكية الدستورية).. كل هذا جعل من القاهرة «مدينة» الطباعة والتأليف والمسرح والترجمة والإذاعة والموسيقى والغناء والصحافة والسينما والرسم والتعليم، والأهم هو الخروج من الملة والجماعة والطائفة ومسقط الرأس والنسب والعائلة إلى فضاء المدنية الحرة ونوازعها الفردية.

كان حريق القاهرة وما تلاه من انقلاب عسكري قطعاً عن ذاك المسار التاريخي، النهضوي والتحديثي، وابتداء لحقبات مديدة مجنونة وقاسية وتخريبية. إذ بعده توالى سقوط المدن العربية، حرقاً أو استيلاء أو نهباً أو تدميراً، إما بالانقلابات العسكرية أو الحروب الخارجية أوالحروب الأهلية.

بين عامي 1975 ـ 1976، بعد 23 عاماً على حريق القاهرة، أو بعد ثلاثة عقود تقريباً من مسلسل الانقلابات العسكرية واستيلاء الضباط على الحكم وهيمنة الدبابات على الحواضر العربية، وبعد سلسلة الهزائم العربية الكارثية، وفشل وعود «الوحدة والحرية والاشتراكية» (وتحرير فلسطين).. أتت الضغينة إلى بيروت، العاصمة الثانية لـ«النهضة العربية»، والمعقل البارز لما تبقى من كوزموبوليتية وثقافة ليبرالية وحياة سياسية برلمانية دستورية. «الضغينة»، بمعناها الايديولوجي، أشعلت الحريق في أسواق بيروت ووسطها. بعد أعمال النهب والتدمير.

كان حرق وسط بيروت وتدميره، إعلاناً مروعاً عن نهاية لبنان «الفكرة» والصيغة، وضربة قاصمة لمغامرة الحداثة العربية، وانطفاء آخر علامة كوزموبوليتية على شواطئ شرق المتوسط العربي (انطفأت الإسكندرية منذ العام 1952).وأبعد من ذلك، كان واضحاً أن ثمة حرباً حاقدة، متنقلة في الديار العربية على «المدينة». وبدا ان اغتيال المدن شرط لارادة النكوص عن الحداثة، إرادة جارفة تقطع مع العالم المعاصر، وترتد مجدداً الى أسوار العصبيات. معاداة العمران (بالمعنى الخلدوني) هي التي كانت تدبّر هذا الاضطراب العظيم في البلاد العربية.

المدن التي لم تحترق أو تدمر، استولت عليها الديكتاتورية العسكريتارية، وصادرتها. صدام حسين أعاد تشكيل بغداد، بالهدم والبناء و»التطهير» والتهجير، لتتحول المدينة الى نصب تذكاري لشخصه ولسلطته. جعل بغداد ملكيته الخاصة، غنيمة يتصرف بها كما يشاء، لذا كان يكفي اسقاط تمثاله في ساحة الفردوس حتى تسقط بغداد بأسرها. فالمدن التي ليست لسكانها وأهلها لن تجد من يدافع عنها.

كان سقوط بغداد نتيجة حتمية بعد عقود من السلب والاستيلاء والنهب الممنهج، وافراغها وكبتها. العاصمة الثالثة لـ«النهضة العربية» تعرضت فور سقوطها وبعد تدميرها إلى أوسع عمليات سطو وسرقة من قبل الذين «استوطنوا» فيها. كانت غزوة أهلية لآخر ما تبقى من المدينة.

كره المدينة والحقد عليها سمة أصيلة للذين استولوا على السلطة في الدول العربية، كان غزوهم لها شرساً كقطعان من الضباع الجائعة. لذا فان «الإنجاز» العمراني الوحيد، طوال 50 سنة، لهذه الأنظمة يتلخص بالتالي: تصحر الريف وبواره، تخريب المدن ونهبها… وإزدهار العشوائيات ونموها السرطاني الشديد التشوه والعامر بالبؤس والفوضى. كل المدن العربية تقريباً محاصرة بالعشوائيات (حتى بعض مدن الخليج لم تسلم من هذا المصير).

النظام السوري هو الأكثر عداوة للمدن. «عاصمته» الفعلية هي قرية القرداحة وليست دمشق، كما عاصمة صدام هي تكريت وليست بغداد. دمر حافظ الأسد مدينة حماه. وهو منذ السبعينات «منح» دمشق لعشيرته وأصحابه وأقاربه ليستبيحوها فساداً ونهباً واستيلاء وأتاوة وابتزازاً. كانت العاصمة في قبضة «مافيا». وظل الأسد مجافياً ومتوجساً من مدينة حلب، التي كانت ثالثة المدن العثمانية بعد اسطنبول والاسكندرية إقتصادياً وعمرانياً، وجعلها مستباحة لمافيات عائلية موالية له، ابرزها عصابة «آل برّي».

منذ بداية الثورة السورية، انتهج النظام سياسة تدمير المدن وحرق الأحياء ونهب المحال والمنازل والأسواق. فهو اذ لا يدفع رواتب الجنود يحثهم على أخذ بدل «أتعابهم» بهذه الطريقة: استباحة المدن والبلدات وغزوها و»احتلالها» وغنم كل ما تطاله أيديهم والتعدي على الممتلكات، علاوة على عمليات القصف والقنص والقتل والإعدامات الميدانية واغتصاب النساء وجرف البيوت. أيديولوجيا الضغينة تفعل فعلها في المدن السورية. لذا فالسلطة هنا مرادفة لـ«الشبيحة» تلقائياً.

بين التفجير المشبوه في ساحة عبد الله الجابري (وسط حلب) وحرق أسواقها التاريخية.. دخلت حلب «نادي» المدن العربية المدمرة، التي أرداها ذاك الثأر المتمادي. باتت حلب كما حمص خراباً وأطلالاً، وبقيت دمشق المخطوفة والمهددة بدورها بالحريق.

وما تخبرنا إياه سيرة المدن العربية التي تعرضت سابقاً للحرق أو التدمير، أو الإحتلال، أنها لم تخرج من نكبتها أبداً. كما استحالت قيامة الدولة الوطنية الجامعة وحلت محلها «دويلات» العشوائيات المتحاربة، من «مدينة الصدر» في بغداد إلى «الضاحية الجنوبية» في بيروت، ومن أحياء طرّة وإمبابة في القاهرة إلى حيّ «القصبة» في الجزائر.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى