أحمد نظير الأتاسيصفحات سورية

التغيير والثورة وما دونهما

 

أحمد نظير الأتاسي

الثورة والتغيير

إن ما نطمح إليه وما قامت الثورة السورية من أجله هو تغيير حقيقي في الدولة والمجتمع. لكن أزمات الثورة والواقع المعقد داخلياً ودولياً الذي تتحرك كل مكونات الثورة ضمنه أوضحا قصوراً حقيقياً في الوعي الثوري لدى المشاركين. إننا أمام ثورة لا تعي ذاتها، لا تعي الحمل التغييري الثقيل الذي تصدت لحمله، وتتخبط في الظلام محاولة إيجاد الوسائل الناجعة لتحقيق هذا التغيير. الوسط الدولي المتمثل بالغرب والأمم المتحدة لا يهمه التغيير الحقيقي في سوريا وإنما يهمه الحفاظ على الوضع القائم الذي يضمن توازنات إقليمية ودولية. بعض اللاعبين في المنطقة مثل تركيا وقطر والسعودية لا يهمها إلا تغيير تجميلي في المستويات العليا في الحكم في سوريا تستطيع التعامل معها وتمرير مشاريعها السياسية أو الإستثمارية. أما السوريون فهم منقسمون إلى عدة أطراف بدأت مصالحها تتعارض.

هناك السوريون الداعمون لنظام البعث والأسد. وهؤلاء لا تزال الثورة تفكر في كيفية التعامل معهم كأفراد إذ أن إسقاط نظام لا يعني بالضرورة إفناء الأفراد الذين استخدمهم النظام وقتلهم؛ هناك السوريون الصامتون الذين يخافون على أرواحهم وممتلكاتهم ويقبلون بأية دولة تحقق لهم الإستقرار مهما كان شكلها؛ هناك الحراك الثوري المكون من ناشطين يشاركون إما في الحراك العسكري أو في الحراك السلمي المتجه حالياً نحو الإغاثة والإعلام وأحياناً التحضير لمرحلة مابعد سقوط النظام. ويتوزع هؤلاء بين كتائب ومجالس ثورية وتنسيقيات ومجموعات دعم.

وهناك فئة ضبابية الملامح سنسميها هنا المعارضون ويتكونون من محزبين أو ناشطين سياسيين. وهم في معظمهم من متعلمي الطبقة الوسطى الذين شاركوا مشاركة محدودة في الحراك الثوري أو لم يشاركوا فيه على الإطلاق لكن يهمهم أن يكون لهم دور في تشكيل سوريا الجديدة. وهؤلاء موزعون على أحزاب أو تيارات سياسية صغيرة أو مجموعات مصلحية أو هيئات مهنية وأغلبهم يعمل خارج سوريا في مراكز تجمع هيئات المعارضة سواء في اسطنبول أو الدوحة أو القاهرة.

إذا كانت الثورة هي التغيير فما هو شكل هذا التغيير؟ وما هو محركه؟ ومن هم حملة هذا التغيير؟

إن إستبدال الحاكم المستبد بحاكم آخر مع إبقاء النظام نفسه ليس تغييراً حقيقياً، ولذلك لم يكن الشعار إسقاط بشار الاسد وإنما كان الشعار إسقاط النظام. وهنا نميز بين النظام والدولة ونعتبر الأول متطفلاً على الثاني بقوة أجهزة القمع من مخابرات ووحدات عسكرية خاصة. ونميز أيضاً بين مكونات خمسة للنظام هي المكون السياسي المتمثل بالبعث، والمكون الإقتصادي المتمثل برجال الأعمال المحتكرين، والمكون الأمني المتمثل بالمخابرات، والمكون العسكري المتمثل بالحرس الجمهوري والقوات الخاصة والقيادات العسكرية العليا، والمكون العشائري المتمثل بالأسرة الحاكمة وأيديولوجيتها الطائفية. لكن إسقاط النظام ليس إلا فصلاً للطفيليات عن جسم الدولة وليس تغييراً للدولة نفسها بهيكلها ودستورها وقوانينها. ولذلك فإن من الضروري طرح مشروع كامل لبناء دولة جديدة تقوم على مبادئ سلطة القانون والتساوي بالمواطنة وتداول السلطة وتكافؤ فرص المشاركة في العملية السياسية وإعادة توزيع الثروة العامة بما يضمن نوعاً من التكافل الإجتماعي والضمان المجتمعي للحد الأدنى من الحياة الكريمة. وتغيير الدولة لا يعني بالضرورة تغيير المجتمع وإن كان معتمداً عليه، ولذلك نطرح مبدأ الثورة العامة والشاملة التي يشترك فيها الجميع وتكون أداة لخلق وعي جديد يؤمن بمبادئ الدولة الجديدة. إن المشاركة في عملية إسقاط النظام وتصوّر الدولة الجديدة هي محرك التغيير وهي ما نسميه العمل الثوري. هذه المشاركة ليست حكراً على طبقة معينة أو فئة إجتماعية معينة. حمَلة التغيير لا ينتمون إلى طبقة عاملة كادحة أو إلى طبقة ثورية بالطبيعة أوالمنشأ وإنما هم مواطنون يحملون وعي التغيير وإيماناً بقدرتهم على التغيير. هذه المشاركة نسميها ثورة وهؤلاء المشاركون نسميهم ثواراً.

المشاركة وحدها لا تصنع تغييراً، التغيير لا يتحقق إلا بأن تقترن المشاركة بالوعي والإيمان. الوعي قسمان، وعي بشكل التغيير ووعي بمحرك التغيير. لقد عرّفنا شكل التغيير بإسقاط النظام وإقامة الدولة الجديدة وخلق أسس المجتمع الجديد، وهناك مكونات للثورة أخذت على عاتقها مهمة نشر الحوار الخلاق حول شكل التغيير والوصول بهذا الحوار إلى نتائج واضحة تحقق إجماعاً واسعاً. أما الوعي بمحرك التغيير فهو أن ندرك أن العمل الثوري المشار إليه هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق التغيير المرجو. إن الثورة هي الطريق للوصول إلى دولة الحرية والكرامة والمجتمع القادر على المحافظة عليها. لايزال هناك من يشكك بقدرة الثورة على بلوغ الأهداف والوصول إلى التغيير. هؤلاء لا يؤمنون بقدرة الثورة على إحداث التغيير، أي أنهم لا يؤمنون بقدرتهم أنفسهم على إحداث هذا التغيير. هؤلاء لا يزالون يلهثون وراء دول المحيط والدول الغربية من أجل تغيير النظام في سوريا. هم يعتقدون بأنها الطريقة الأسهل للتغيير لكنها في الحقيقة الطريقة الاسهل للوصول إلى مكاسب في سوريا الجديدة وليست بالمطلق طريقاً للتغيير اللهم إلا تغيير الحاكم. وسنحاول في هذه الورقة تبيان ملامح هذه الفئة وووسائلها واستشراف آثار اعمالها على الثورة وعملية التغيير.

المعارضون – أشكال المشاركة

عندما ظهر المجلس الوطني السوري في تشرين الأول عام 2011 قدم نفسه بلسان قائده المتفق عليه برهان غليون على أنه “الواجهة السياسية” للحراك الثوري التي تمثله في المحافل الدولية وتتفاوض باسمه وتشكل العنوان الذي تتوجه إليه الدول المهتمة بالشان السوري، والتي كان يُعقد الأمل على قدرتها على إنهاء قمع نظام الأسد عن طريق تدخل عسكري محدود في سوريا. منذ تلك الفترة عارضنا فكرة الواجهة السياسية وأكدنا أن أي عنوان للثورة لا يمكن أن يكون منفصلاً عنها ويجب إما ان يقودها أو أن يكون منبثقاً من صفوفها. اليوم تطورت هذه الواجهة السياسية وتمظهرت بهيئات عديدة ومتنافسة شكلتها مجموعات متنافسة من المعارضين، وبدأت تطرح نفسها كقائدة للمرحلة الإنتقالية وكبديل سياسي عن الثورة. إننا نرى اليوم أن فئات من المعارضين قد وصلت إلى مرحلة تهدد فيها وجود الحراك الثوري وتتعارض أساليبها مع أهدافه.

الثورة السورية ثورة شعبية لم يكن لها منشأ واحد ولا قيادة واحدة ولا تقتصر على طبقة واحدة أو منطقة واحدة. إنها ثورة تنبع من عمق القمع والقهر الذي غيّب الإنسان وقضى على إنسانيته. ومهما مرت الثورة بمراحل علت فيها أصوات تطالب بهذه الدولة أو تلك فإنها تبقى ثورة من أجل الحرية والكرامة وضد القمع والذل. هذه الثورة الشعبية لم تستعد لما كان سيجابهها من تحديات ولم تخلق المؤسسات والكوادر والأفكار والوعي الضروري لإستمرار الثورة وتوجيهها نحو تحقيق أهدافها. انعدام هذا التحضير أدى إلى إطالة أمد الثورة وتخبطها في تحديد أهدافها، وتعدد المحاولات الفاشلة لقيادتها، وإعراض العديدين عن المشاركة فيها، وتنافس المجموعات التي أفرزتها على الموارد الشحيحة، وظهور طفيليات تعتاش على الثورة أو تركب موجتها من أجل تحقيق مناصب أو ثروة في المستقبل.

في القرن التاسع عشر ظهرت عدة ثورات أوروبية ونشات نظريات كثيرة عن أسباب الثورات وتنظيمها وقيادتها والدولة الناشئة عنها. وقد أجمعت هذه النظريات على المكانة القيادية التي يجب أن تحتلها الطبقة الوسطى المتعلمة. اقترحت الماركسية أن تكون الطبقة العاملة هي حاملة الثورة وأن تكون الطبقة الوسطى المتعلمة هي القائدة ممثلة بالحزب الطليعي الرائد. ونجد هذه النظرية في قيادة الثورات عند كل الأحزاب والتيارات اليسارية بما فيها حزب البعث الإشتراكي الذي اعتبر نفسه قائد الدولة والمجتمع على غرار الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية. الأيديولوجيات القومية (من القومية التحررية إلى القومية الشوفينية على غرار النازية) اعتمدت على الطبقة الوسطى المتعلمة في بناء أفكارها وأحزابها وحركاتها التحررية أو دولها الشمولية. الأيديولوجيات الليبرالية والديمقراطية اعتمدت على الطبقات الوسطى المتعلمة أيضاً في ضخ الزخم في المشاركة الديمقراطية الشعبية التي تمنع احتكار السلطة من قبل نخب أوليغارشية (مجموعات حاكمة). ورأينا في القرن العشرين صعود الحركات التحررية ضد الإستعمار ومن بعدها الأيديولوجيات الإسلامية (المشابهة للقومية) على أكتاف الطبقات الوسطى التي ظهرت مع انتشار التعليم العمومي وظهور بيروقراطية الدولة على النمط الأوروبي. فما هو دور الطبقات الوسطى المتعلمة في الثورة السورية؟ في الحقيقة إننا أمام فئات متعددة ومختلفة في أفكارها وردود أفعالها. فكرياً، تتجاذبها أيديولوجيات مختلفة ومتنافسة مثل القومية أو اليسارية أو الليبرالية أو الإسلامية. مهنياً، تتوزع على فئات استفادت من الفورة العقارية وثورة الإتصالات في السنوات العشرة الأخيرة، وفئات تغربت بحثاً عن لقمة العيش، وفئات انخرطت في نظام الحكم، وفئات افتقرت أمام ضغط السوق والإحتكار. وعندما اندلعت شرارات الثورة الأولى انخرط بعض أفراد هذه الطبقة في الحراك الثوري السلمي، ووقف بعضهم متفرجاً، وانقلب بعضهم إلى محافظين يشجعون الإستقرار والوضع القائم على علاته. وطبعاً ابتلعت العديد منهم ولاءات طائفية اتضح أن النظام كان يغذيها باستمرار لمنع نشوء طبقة ثورية موحدة تعارضه وتقف أمام سلطته.

لكن هذه الطبقة، وبسبب انعدام التحضير، لم تستطع أن تفرض نفسها كقيادة للثورة حسب النماذج التي عرضناها أعلاه. وبسبب العسكرة المبكرة وتصاعد وتيرة القمع والإجرام من طرف النظام أحجم العديد من أبناء هذه الطبقة عن المشاركة في الحراك الثوري المسلح واختاروا مغادرة البلد والإلتحاق بصفوف المعارضة السياسية في الخارج طلباً للأمان وهرباً من صعوبة العمل الميداني أو استحالته. في الحقيقة فإن العمل الميداني المؤدي إلى تشكيل قيادة لثورة جماهيرية لا يعتمد فقط على التعليم أو المكانة الإجتماعية ولا ينشا بضربة عصا سحرية تضع المتعلمين في الأعلى والأتباع الأقل تعليماً في الأسفل، وإنما هو مسيرة طويلة من بناء المؤسسات السياسية والأهلية والمدنية التي تؤطر الناس وتنظم عملهم وتوجه جهودهم وتخلق قنوات للتنافس المشروع على القيادة. وقد كان من المستحيل إنشاء هذه المؤسسات بسرعة تحت القصف وفي جو الموت والجوع والخوف. لكن نتائج غياب هذه الفئات القيادية لعدم جاهزيتها أو رفضها لتحمل فريضة التاريخ عليها له عواقب وخيمة. وبغض النظر عن أفراد الطبقة الوسطى الذين وقفوا مع النظام أو في صفوف المتفرجين، فإن الفئات منهم التي أظهرت حماسة للثورة رغم انسحابها منها ميدانياً لن ترضى لنفسها بدور محدود أو هامشي في سوريا ما بعد الأسد. ولكنها في الوقت نفسه لا تستطيع المشاركة في القتال، كما لا تستطيع فرض نفسها كقيادات سياسية بشفاعة تعليمها وخبراتها المهنية. لقد تحولت هذه الفئات إلى ما نسميه هنا بالمعارضين. وهم باختصار “قيادات” برسم الإنجاز أو “قيادات” تبحث لها عن ثورة تقودها أو “مدراء” لمؤسسات ثورية لم تستطع تمثيل أي من مكونات الحراك الشعبي ميدانياً.

ويمكن أن نعدد الأشكال التالية لهذه الفئات ومشاركتها في المشهد الثوري:

في مرحلة الثورة السلمية قدمت بعض هذه الفئات هياكل عظمية لمؤسسات محدودة الدور استطاعت أن تقدم بعض الخدمات الإغاثية أو الإعلامية وحاولت أن تسوّق هذا الدور الخدمي على انه دور قيادي.

المجموعات التحتية (المنخرطة): وهي مجموعات خدمية حددت دورها واقتنعت به وأصبحت جزءاً من البنية التحتية للثورة ومسيرة التغيير:

مجموعات الدعم والإغاثة التي تخلت عن حلم القيادة واقتنعت بدورها المحدود في الحراك الثوري واستطاعت أن تتحول إلى مؤسسات حقيقية لها دور فعال في المجتمع

مجموعات بحث تحلل الثورة وتكتب عنها أو تضع تصورات للدولة الجديدة. وهذه أيضاً مجموعات حددت دورها وانتقلت إلى العمل المنتج

مجموعات اتبعت طريق التمثيل (تجمّع ممثلين عن تنسيقيات محلية) فشكلت مجالس ثورية تتبعها مكاتب خدمية. تغطي هذه المجالس مناطق جغرافية واسعة وتربط بين المقاتلين ومجتمعاتهم الحاضنة وتنسق بين الجهات الخدمية المختلفة. إن هذه المجالس هي أفضل إنتاج قيادي في الثورة لكنه ليس قيادة موحدة للثورة.

أفراد تحولوا من العمل الإغاثي إلى وسطاء لتمويل العمل المسلح في الداخل، وهؤلاء يعتمد نجاحهم على مدى رضاهم بدورهم وعدم محاولتهم تحويل التمويل إلى قيادة.

مجموعات مهنية ترى في مهنتها خدمة وفي تجمعها إغناءاً للمجتمع المدني الجديد وملء للفراغ المؤسساتي الذي خلقه النظام.

مجموعات تسعى إلى تشكيل تيارات سياسية وأحزاب وطنية تضع مصلحة الوطن فوق المصلحة الحزبية. وهذه الاحزاب والتيارات ستكون قنوات المشاركة الشعبية في الحكم، والحاملة للمشروع التمثيلي الديمقراطي الذي تنادي به الثورة.

المجموعات الفوقية: وهي مجموعات لا تزال مصرة على فرض نفسها من فوق كقيادة لا تنبع من صفوف الثورة ميدانياً ولا تنخرط في العمل فيها من خلال أدوار محددة ومختصة ومنها:

أحزاب وكتل سياسية ومصلحية اجتمعت فيما سمي بالمجلس الوطني وقدمت نفسها على أنها واجهة سياسية للثورة الداخلية التي أصبحت في معظمها ثورة مسلحة.

أحزاب وشخصيات اجتمعت فيما سمي بهيئة التنسيق وقدمت نفسها على أنها الحل الوسط بين “تطرف المعارضة” و”دولة القمع” ورضيت ببقاء ما سمته بالقيادة السياسية لنظام الأسد.

تجمعات سياسية صغيرة تعتقد أنها تمثل فئات مجتمعية حقيقية لكنها لم تحظ بفرصة التواصل مع هذه الفئات بسبب الوضع الأمني. وقد انتهت هذه التجمعات بأن لهثت للإنضمام إلى المشاريع الأنجح مثل المجلس الوطني أو الإئتلاف الحديث النشاة.

تجمعات مهنية ترى أن مهنتها مهنة قيادية مثل علماء الدين.

تجمعات عشائرية وأسرية تعتقد أن البنية التقليدية لمجتمعاتها تعطيها الأحقية بالقيادة باعتبار أن أجدادها كانوا يوماً في مراكز قيادية.

تجمعات تمثل مصالح أفراد ودول يمتلكون الثروة والنفوذ ويريدون أن تكون سوريا المهدمة ورشة أعمالهم القادمة التي ستدر عليهم أرباحاً خيالية، هذه التجمعات تعتقد نفسها قيادية باعتبار أنها تقود شركات كبيرة ومن الطبيعي أن تقود سوريا الجديدة.

بعض التيارات الإسلامية (امراء السياسة الجدد) الذين تحولوا من جماعة مهاجرة مطرودة مع عائلاتها إلى تجمع هائل لفرق عمل متخصصة ولوبيات وبيوت تمويل (لشراء الكتائب والولاء) ومؤسسات شمولية (تجمع منظمات مجتمع مدني تحت مظلة واحدة)، كلها تسخّر المال والجهد والنفوذ لخدمة هدف واحد هو الوصول إلى الحكم.

المعارضون – الوعي والإيمان

لقد أهملنا مكوناً هاماً من مكونات الثورة وهم المشاركون الميدانيون من مقاتلين وناشطين في الداخل. وليس ذلك لأن هذا المكون لا يمر بازمات ولا تعترضه عقبات ولا يقع في أخطاء. أبداً، فالكل يعرف أن الحراك في الداخل يختلف من مكان إلى آخر، ينجح في مكان ويخفق في آخر، كما ويحتاج إلى كثير من التنظيم والتدريب والتخطيط. لكنه يملك السمة الأهم التي لا يملكها المعارضون وهي الوعي والإيمان. لا يزال وعي شكل التغيير في أطواره الأولى وهذا حوار وطني يشترك فيه الجميع لوضع تصور لشكل الدولة الجديدة والمجتمع الجديد. لكن حراك الداخل يعي تماماً بأن الثورة والعمل الثوري هما محرك التغيير ويؤمن بقدرته وقدرة الثورة عموماً على تحقيق هذا التغيير.

المجموعات التحتية الداعمة للثورة والتي ذكرناها أعلاه عندما اقتنعت بمحدودية دورها وضرورة عملها ضمن اختصاصاتها أصبحت منخرطة في الثورة ومؤمنة تماماً بان الثورة هي محرك التغيير. لا بل أصبحت هذه المجموعات الخالق والحامل والناشر لوعي التغيير. إنها الآن تضع لبنات التأسيس للمؤسسات المدنية التي ستحمل سوريا خلال المرحلة الإنتقالية نحو أهداف التغيير. وأذكر هنا مثالين هامين هما المجالس الثورية والمجالس المحلية (قيد الإنشاء وليست المشتركة في الإئتلاف). أما المجموعات الفوقية، فإننا نعتقد أنها تطرح شكلاً آخر للتغيير نعتبره سطحياً وتجميلياً وتشكك بمقدرة الثورة على الوصول حتى إلى هذا التغيير السطحي ولذلك هي تسعى لإحداث التغيير عن طريق لاعبين دوليين. إننا نقول بأن هذه المجموعات أصبحت تتعارض مع الثورة كما هي عليه الآن بأهدافها وأساليبها وهي بالتالي خطر يهدد بإجهاض عملية التغيير الثوري.

الفوقيون ومآلات المرحلة

إن آخر تمظهرات الفوقيين هو إئتلاف قوى المعارضة وقوى الثورة الذي نشا حديثاً في الدوحة تحت رعاية قطرية غربية وتنافست عليه المجموعات الفوقية المختلفة. هذا الإئتلاف إمتداد طبيعي لخطاب المجلس الوطني المنادي بالواجهة السياسية للثورة التي تفاوض باسمها، والعنوان الواحد الذي يمكن ان يتحدث معه الغرب، وبوابة توزيع المعونات الموعودة، وأداة تشريع التدخل الخارجي الذي يزعمون بأنه سينهي مأساة الشعب السوري القابع تحت القصف. هذه التمظهرات وخطاباتها تحمل السمات العامة المميزة التالية:

لا يهمها كيف يسقط النظام وتتجنب الحديث عن هذه المهمة المرحلية الخطيرة.

تقدم نفسها على أنها فئة سياسية محترفة لا تضع أيديها في طين العمل العسكري والعمل الثوري بشكل عام.

تقدم نفسها على أنها الوجه الحضاري لسوريا الذي يرضى به الغرب والمجتمع الدولي.

تستجدي الشرعية الشعبية عن طريق بعض اللافتات وبيانات الإعتراف من مكوناتها نفسها. ومتى حصلت عليها أو على ما يشبهها أستملكتها وكأنها ملكية خاصة أبدية.

تستجدي الشرعية الدولية عن طريق إعتراف الدول العظمى بها وكأن الشرعية الدولية بديل عن الشرعية الشعبية.

تقدم نفسها على أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوري بادعائها أن تمثيل كل “أطياف المعارضة” أو كل “طوائف الشعب السوري وقومياته” يخولها التحدث باسم الشعب السوري. وهي بذلك تكرس الصورة الغربية عن سوريا بأنها فسيفساء طائفية وقومية لا يمكن التعامل معها إلا من خلال أمراء الطوائف.

لا تمل الحديث عن تشكيل حكومة مؤقتة أو حكومة مرحلة إنتقالية وكأن بعض الحزبيين وممثلي الطوائف هم الزعامة الطبيعية والابدية للشعب السوري.

كل هيئاتها هي مجرد أشكال من المحاصصة السياسية والطائفية لأنها موجودة أصلاً لاقتسام الكعكة السورية.

تتضخم صفوفها باطراد بسبب إدخال اي صوت جديد بدعوى التمثيل الشامل لكل “أطياف الشعب”.

تعتبر مطالب دول المحيط ودول الغرب أوامر فهي تسعى دائماً “لتوحيد المعارضة” ولضمانة شمول التمثيل كل “الاقليات” وتزعم تمثيل الشعب وليس فقط الثورة.

مستعدة لصرف الملايين على المؤتمرات وليس على الإغاثة أو السلاح.

تنأى بنفسها عن العمل العسكري الذي هو جزء هام من الحراك الثوري لن يسقط النظام بدونه، بدعوى أنها مكونة من سياسيين محترفين، لكن في الوقت ذاته تحاول إمتصاص الكتائب من خلال مجالس عسكرية وهمية.

قلقة على إعادة الإعمار وتمويله وتعتقد أن التمويل والإستثمار الخارجي سيكونان محرك إعادة الإعمار وخاصة بناء العقارات التي ستعود عليهم بارباح خيالية.

تعتقد أن قيادة الدولة وإدارة المرحلة تكون بتأمين الإعتراف الدولي والحصول على وعود التمويل، وتشتري شرعيتها الشعبية بهذه الوعود التي لن تتحقق

تعتمد النظام الإنتخابي بالقوائم لأنه يكرس مبدأ المحاصصة.

تتبع مبدأ الديمقراطية المركزية الزائفة. أي أن القواعد التي لا تمثل إلا نفسها تنتخب أمانة عامة ثم تقوم الأمانة بانتخاب مكتب تنفيذي جامع لكل السلطات ثم يقوم المكتب التنفيذي بانتقاء المكاتب الأخرى الفنية. وبهذه الطريقة تضيع المسؤولية وتغيب المحاسبة لأن المكاتب معينة من المكتب التنفيذي ومسؤولة تجاهه وهذه المكاتب قد اختارها المكتب التنفيذي وفقاً للولاء ولمبدأ المحاصصة.

تتكلم دائماً عن المؤامرة الخارجية لأنها تعرف أن كل مكوناتها مرتبطة بدول متعارضة المصالح تحاول الإلتفاف على بعضها البعض. ولذلك تراها تصاب بالهلع عندما تصرح دولة عظمى عن تغيير مواقفها أو سياساتها في سوريا، لان هذا التغيير يعني تغييراً في تركيبة مكوناتها ويعني فقدها لمصادر التمويل.

تخلق هيئات جديدة وتزعم أنها تمثل المكون الناقص في الإئتلاف القديم وتدخل معها في إئتلافات جديدة هي في الحقيقة إعادة إنتاج للمحاصصة الاولية ونسبها.

تسعى لاختراق أي مكون ناجح من مكونات الحراك الثوري حتى لا ينافسها ويخرب تركيبة المحاصصة ونسبها.

تعتمد على نجوم الإعلام الذين تصنعهم الفضائيات باستضافتهم وإبراز أسمائهم.

تقبل بقوات حفظ السلام مدعية بأنها تضع بذلك نهاية لمأساة القمع والموت في سوريا. لكنها في الحقيقة تنقذ النظام من السقوط على أيدي القوى الثورية، هذه الحقيقة التي لا يريدها الغرب ولا تريدها هذه النخب المتسلطة. إنها تريد الوصول إلى الحكم لكن ليس بشرعية ثورية لأنها لا تمتلكها وإنما بشرعية دولية مزيفة.

ما هو شكل الدولة التي ستنشئها هذه المجموعات الفوقية؟ نتوقع السمات التالية لمثل هذه الدولة:

دولة النخب: تتقاسم هذه الدولة أوليغارشيات (نخب) سياسية واقتصادية متحالفة مع بعضها تعيد إحتكار السلطة والثروة الذي عهدناه في نظام الأسد. ونرى الآن ظهور تحالفات بين هذه النخب خاصة في الإئتلاف الجديد الذي هو تحالف بين بعض الإسلاميين وبعض رجال الأعمال المغتربين.

دولة المحاصصة: بدعوى تمثيل الجميع ويعنون الأقليات والأكثريات الطائفية والقومية يتم تكريس نفوذ النخب من أمراء السياسة وأمراء الطوائف والعشائر والقيادات التقليدية (رجال دين، عوائل متنفذة، عشائر).

دولة حكومات الإئتلاف: باعتبار اللعبة السياسية في هذه الدولة هي لعبة محاصصة فإن الأمراء سيقتسمون المناصب التشريعية والتنفيذية، وبالتالي ستكون أية حكومة مجرد حكومة أئتلاف تسقط بانسحاب أحد الوزراء أو انفراط أحد التحالفات مما يؤدي إلى عدم إستقرار سياسي على غرار ما رأيناه في سوريا الخمسينات والستينات.

دولة التبعية: باعتبار أن هيئات الفوقيين تستقوي بالدعم الخارجي وليس بالثورة فإن سوريا ستفقد إستقلالية قرارها وتصبح ملعباً للمصالح الدولية.

دولة الإستثمارات الخارجية: ستكون الأولوية في الإقتصاد “لأبطال إعادة الإعمار”، أي المقاولين الجدد القادمين على أمواج من المال الخليجي المتعطش للمضاربات العقارية. لن يكون للصناعة المحلية أية أولية ولا للبنية التحتية الوطنية، وبالتالي فالأعمال التي ستخلقها إعادة الإعمار ستكون في قطاع المقاولات والخدمات والسياحة وهي كما نعرف أعمال تموت مع موت الفورة العقارية.

المجالس الثورية – تمكين التغيير

يجب أن تضع المجالس الثورية صيغة واضحة تحدد دورها وأهدافها. إنها أدوات ثورية وهيئات إدارة لمرحلة الثورة من خلال:

تمكين المقاتلين من إسقاط النظام وتفكيك هياكل القمع وذلك بتفكيك المكونات الخمسة المذكورة أعلاه.

تمكين المجالس المحلية من توفير الخدمات الأساسية للمواطنين وتأمين السلم الإجتماعي والإبتعاد عن تسييسها.

التحضير للحياة الإنتخابية القادمة وبناء النظام الديمقراطي.

تحقيق اللامركزية الإدارية التي هي من أوليات الديمقراطية فهي التي تمنع تمركز السلطة وإحتكارها.

خلق الوعي بأن الثورة هي محرك التغيير وخلق الإيمان بقدرتها على تحقيقه.

وضع تصورات للمراحل المقبلة (شكل التغيير) وخلق حوار وطني حولها وتحقيق الإجماع على مبادئ أساسية تقوم عليها الدولة الجديدة والمجتمع الجديد.

العمل على خلق مؤسسات تحتية تمثل الثورة ومنع إلتفاف المجموعات الفوقية عليها.

وبناء على هذه الأهداف يتم الحكم على أداء أدوات مشروع التغيير وهي المجالس الثورية.

المجالس المحلية – تسيير الحياة اليومية

اليوم أصبحت فكرة المجالس المحلية موضة يلهث وراءها الجميع. المجالس المحلية لا يجب أن تكون شكلاً من أشكال المجموعات الفوقية التي تدعي تمثيل الثورة والتحدث باسمها. ولا يجب أن تكون وسيلة للحصول على الشرعية الشعبية (مثلاً بإدخالها في الإئتلاف الجديد كممثل عن المحافظات) أو للحصول على التمويل الدولي. إن المجالس المحلية هي إحدى الضمانات الأساسية والقليلة لنجاح الثورة السورية في إحداث التغيير. إنها أدوات إدارية وليست سياسية تضمن إدارة حياة المواطنين اليومية وتأمين الخدمات الاساسية والحفاظ على السلم وحل النزاعات. إنها أساس اللامركزية الإدارية والتي ستسمح مستقبلاً لكل قرية وبلدة ومدينة بأن تنتخب مجالسها البلدية التي تدير شؤونها بمعزل عن الحكومة المركزية. هناك دوائر إنتخابية وإنتخابات تشريعية وتنفيذية للحكومة المركزية وهي مختلفة عن إنتخابات المجالس البلدية المحلية. هذه المجالس البلدية ستسمح لتجمعات الأقليات الدينية والقومية بأن تنتخب حكوماتها المحلية وستسمح للمناطق المتناغمة ايديولوجياً أن تضع قوانينها المحلية الخاصة.

لا يجوز الخلط بين المجالس المحلية وبين المجالس الثورية. المجالس الثورية هي مجالس سياسية لأن غرضها التغيير العام وخاصة تغيير الدولة المركزية وهي أيضاً مجالس مؤقتة ينتهي عملها بانتهاء الثورة والمرحلة الإنتقالية وعودة الدولة المركزية وبناء الإدارات المحلية. المجالس الثورية يمكن أن تتحول إلى مجالس تمثيل مؤقتة تنتخب ممثلين عن مناطقها في الحكومة المركزية، أما المجالس المحلية فهي خاصة بالمناطق تخدمها وتضمن لها نوعاً من الاستقلالية التي نسميها اللامركزية الإدارية. إن أية محاولة لخلط هذه المجالس سيؤدي إلى تسييس الإدارات المحلية وربطها بالحكومة المركزية على الطريقة البعثية وتسييس الخدمات الأساسية بربطها بالولاء السياسي.

http://www.therepublicgs.net/?page_id=1217

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى