إحسان طالبصفحات سورية

الثورة السورية والمأزق الأخلاقي


    احسان طالب

    النظام السوري يحاول نسج الحقيقة بواسطة مجموعة كبيرة من الأكاذيب بحيث يصعب التدقيق بجزئيات المشهد فتبدو الصورة المخادعة والكاذبة حقيقة حسب ما اعتاد على تسويقه طيلة عقود طويلة من حكم افتقر إلى أبسط معايير الشرعية وتعارض مع أوليات الحكم الوطني، يقف وليد المعلم الغائب عن المشهد طيلة شهور( عقد المعلم آخر مؤتمر صحافي له في أبريل (نيسان) الماضي في موسكو ) ليجدد من طهران مقولة الحرب الكونية التي يتعرض لها نظام سيده في دمشق( نحن نواجه كونا بأكمله يتآمر على سوريا) وإن كان ذلك المشهد البدائي والساذج المتعمد من قبل وزير خارجية النظام السوري معهودا وشائعا في كافة وسائل الإعلام الرسمي السوري فإن تكرار بلاهة المعلم من قبل علي أكبر صالحي وزير خارجية إيران، يدعو للنظر إلى أي مدى ذهبت الإدارة الإيرانية في معاداة المنطق ومحاربة العقل المجرد إلى أبعد حد ممكن ،حيث يبدو له الحديث عن نقل السلطة في سوريا وهما وخيالا، لكن لا يفوته القول بضرورة الإصلاح والتغيير ضمن النظام نفسه دون أدنى فرصة حقيقية للخروج عن آليات ووسائط الحكم الممارسة حاليا من قبل سلطة الأسد وفي ذات اللحظة لا نجد أي التفات لمئات الأرواح التي تزهق يوميا أو إلى تلك المدن التي تدك صبح مساء فوق رؤوس ساكنيها من مدنيين لم يحملوا السلاح أو يميلوا للعنف في صراعهم المرير مع نظام لا يدرك أي مستوى من الكراهية والنفور التي وصلوا إليها جراء ما يعانيه أبناؤهم من ويلات الحرب ومأساة الموت اليومي المتسارع. لا يمكن إدخال تصرفات السلطة السورية في أي خانة من خانات التصنيف الأخلاقي فهي خارج ذلك المنطق بل وفي مكان وجداني مختلف تماما عن أية تصنيفات إنسانية وأخلاقية وقيمية.

    تحاول إيران إعادة إنتاج نظام الأسد دون تبديل أو تغيير في بنية توجهات وإرادات سائدة اليوم ، بل ويروج الإعلام الإيراني عبر منافذه اللبنانية لمكانة عالية ترتقي لمفهوم العصمة الملحق بالأئمة ، تلحق بالرئيس الأسد ما يفيد بممانعة قصوى ومقاومة عتيدة لأي تغيير ملموس أو حتى ظاهري في هيئة وبنية السلطة السورية القائمة والحاكمة بمنطق الأمر الواقع ، تلك السلطة التي فقدت شرعيتها الداخلية والخارجية وفقا لمبدأ الحكم الديمقراطي الرشيد واستنادا لما تنادي به قمة عدم الانحياز التي عقدت مؤخرا في طهران ودعت إلى ديمقراطية الحوكمة العالمية ، فأي نظام أدانته أكثر من 80% من دول الجمعية العامة وأدانت ممارساته القمعية بحق شعبه بل واتهمته بجرائم ضد الإنسانية يحق له أن يدعي امتلاكه لشرعية دولية رغم الاعتراف الضمني لجميع دول العالم قاطبة بما فيها محور تأبيد الحكم الأسدي في سوريا ” إيران وحلفاؤها ” بضرورة التغيير وذلك على الأقل في ظاهر الكلام المعلن وظاهر مواقف متخذة في أطرها العامة

    السيد علي أكبر صالحي وزير خارجية إيران يقول : التفكير الساذج والمخطئ من يعتقد بحدوث فراغ في السلطة في سوريا، وأن حكومة أخرى ستصل ببساطة إلى السلطة، في اعتقادي ليس سوى حلم، إنه وهم. يجب أن ننظر بحرص إلى سوريا وما يحدث داخل البلاد) هذا موقف صريح وجلي ذو دلالة قطعية برسوخ قناعة إيرانية باستمرار وبقاء نظام الرئيس الأسد في سوريا ، لقد كان صالحي حريصا على ازالة أي غموض قد يعتري فهم كلامه حيث رفض اعتبار التغيير في سوريا حلم بل اعتبره وهم لماذا في سوريا فقط التغيير وهم وساذج ومخطئ وليس كذلك كما هو الحال في بلدان الربيع العربي وقبله في العراق وقبله في إيران ذاتها ، ألم يكن نظام الشاه فاسدا استبداديا يقوده حاكم مسيطر وقوي أكبر عدة مرات مما هو عليه نظام بشار الأسد وأن القوى الغربية بمجملها ساعدت الخميني بالإطاحة بنظام الشاه، بواسطة ثورة شعبية عارمة. إن النظر بتجرد وموضوعية لاستمرار السوريين في ساحات التظاهر بعد عشرين شهرا من بدئها وبعد دخول مرحلة الصراع المسلح مرغمة يأخذ بيد الباحث ليتبصر عمق الإصرار الشعبي على التغيير وقوة وصلابة العزيمة والإرادة الفاعلة بغية الوصول لغاية إسقاط النظام القائم بحكم قوة السلاح الغاشم والمفرط باستخدام قوة عسكرية باطشة وطائشة. قامت الدولة الإسلامية الشيعية الإيرانية على فكرة المظلومية التاريخية التي تعرض لها الإمام الحسين في عهد الخلافة الأموية، وكان من مبررات الثورة الخمينية رد الظلم عن الشعب الإيراني المضطهد وإعادة حقوقه المسلوبة والوقوف في وجه الظالم والمضطهد، في الحالة السورية لا يسع إيران إنكار انحياز الأغلبية الساحقة من السوريين لجانب التغيير الجذري الدال على وجوب رحيل النظام القائم بكافة رموزه وآلياته وهياكله، لكنها لأسباب مذهبية محضة تعارض حكم الأغلبية بذريعة المقاومة والممانعة المزعومة ، وهنا نلحظ اتهاما جليا للسوريين، كشعب وحضارة وتاريخ، من قبل القيادة الإيرانية بانحيازهم للمعتدي والظالم والقاتل على حساب الضحية والمظلوم، وذلك لمجرد مطالبتهم بإعادة كرامتهم الممتهنة ورفع الظلم والبغي المسلط فوق رقابهم. مفهوم المقاومة يعود إلى رد المظالم وإحقاق الحقوق المسلوبة ، إلا أنه في المنطق الإيراني يأخذ توجها معاكسا لمنطق المظلومية وخطابها الوجداني ، حيث القوة الإيرانية فاعلة ومحركة ومحرضة بشتى صنوف التدخل المباشر للوقوف إلى جانب الباغي والظالم والمفتري ، وهي بهذا التصرف تضاد توجهات القرآن الذي تؤمن به والقائل : (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون) سورة الحجرات الآية 10 . ألا يحق لنا استنادا لتلك الوقائع اتهام القيادة الإيرانية بانحياز لا أخلاقي وموقف مبدئي لا شرعي تعارض فيه بل تقاوم وتمانع رفع الظلم عن المضطهدين وإعادة الحق لأصحابه، ألا وهم هنا أغلبية ساحقة من السوريين من كافة المشارب والطوائف والقوميات يصرخون صبح مساء: الموت ولا المذلة ، واحد واحد واحد الشعب السوري واحد .

    على الطرف الآخر من العالم وربما في عالم آخر يقطنه أناس يلقون في سلة المهملات طعاما يقترب ثمنه من خمسة مليارات دولار سنويا، إنه ليس فائضا غذائيا أو ترفا ثقافيا يتعاطاه أناس متخمون من خلال سوق التفنن بإهدار موارد الأرض، إنها فقط بقايا طعام يلقيها الشعب الأمريكي في مكب النفايات، ربما لا يعلم أكثر من 90% من الشعب الأمريكي أين تقع سوريا وعليه لا تعنيهم أنهار الدم المراقة هناك، وربما يفسر ذلك تجاهل الرئيس الأمريكي لما يحدث في سوريا خلال خطاب قبول ترشيح الحزب الديمقراطي له في الانتخابات الرئاسية اٍلأمريكية القادمة في السادس من تشرين الثاني القادم، وربما عندها نستطيع فهم ما قاله جوشوا لانديز، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما والمتخصص في الشأن السوري: «كان أوباما مترددا للغاية، لأنه كان يعتقد أن ذلك منحدر زلق؛ فلكي تدخل إلى هناك وتعود منتصرا، يجب أن تكون على يقين من أنهم انتصروا بالفعل، ) جريدة الشرق الأوسط ؛30 -7- 2012-

    هم بانتظار المنتصر ليتفاوضوا معه على تحقيق مصالحهم ومصالح حليفتهم الإستراتيجية في المقام الأول.

    إنه بلا شك المأزق الأخلاقي المتجذر للحضارة الغربية، عندما كان أهم فلاسفة العصر الحديث ، ادموند هوسرل و مارتن هايدغر يناصرون الحزب النازي في ألمانيا كانوا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي وبذات الوقت يؤسسان لفلسفة حداثية تعيد كتابة الفلسفة باعتبارها علما دقيقا ماهيتها علم البدايات الصحيحة والأصول الحقيقية، ذلك المأزق ما زال مهيمنا على مواقف وسلوكيات الغرب وحضارته المدوية ، إنه نفاق بنيوي يعتري الثقافة الغربية وحملتها من الشرقيين، يكشف التاريخ في سياق الحرب العالمية الثانية ، رسالة بعث بها قائد ميداني بريطاني إلى زعمائه في لندن قوله : نتيجة المعركة فنيت الكتيبة الهندية ، خسائرنا لا شيء !!

    نفاق متأصل لم تستطع كل أنماط التقدم العلمي والإنجاز الحضاري تغييره ، سيول الدم المتدفقة في سوريا تشبه إلى حد كبير الكتيبة الهندية في فيلق لجيوش بريطانيا العظمى لو فنيت ما خسر الغرب شيئا.

    من البدهي في سياق نظمنا الأخلاقي تتبع مسار الانحيازات الروسية، فعورها مركب وتبريراتها أشد كذبا ونفاقا ومواربة، يميل القادة الروس إلى إحداث تغيير في النظام السوري لا يحدث تغييرا ولا يقدم بديلا، في مقابلة أجريت مؤخرا مع فلاديمير بوتن ، لم يشر خلالها لا من قريب ولا من بعيد للشعب السوري بل اعتبر العناصر الفاعلة في الحالة السورية المـتأزمة ثلاثة فقط ، النظام والقاعدة والغرب!، هل هو إرث الكي جي بي أم جينة الأرثوذوكسية الراديكالية المختلطة في دم بوتن ووزير خارجيته ، أم أنه الاثنان معا ما يعمي القيادة الروسية عن مشاهدة ولو خمسة مقاطع فيديو لأحياء سورية دمرت فوق رؤوس ساكنيها من النساء والأطفال العزل، أو مشاهد لطوابير لفقراء ومحتاجين سوريين يصطفون بالمئات للحصول على خبز ” وثقت منظمات حقوقية خمس حالات قصف خلالها النظام مدنيين يقفون بانتظار الحصول على قوت يوم من خبز وطحين “

    الثورة السورية الراهنة بكافة عناصرها ومكوناتها انبعثت من عمق وجداني وأخلاقي تراكم عبر عقود خمسة من القهر والظلم والبغي والفساد المنظم مارسته حكومات النظام الحالي المتعاقبة على الشعب السوري، ولن تتوقف تلك الثورة أو تهدأ حتى تصل لغايتها المنشودة بالتغيير الكامل الشامل. هي ثورة ضد الظلم والظلام وتوق نحو الحرية ورفض الذل والمهانة ، قد يشوب مسيرتها بين الفينة والأخرى عيوب وأخطاء ونقائص ، إلا أنها لا ترتقي لتطيح بالموقف الأخلاقي المستنير لمسيرة السوريين المذهلين ومذهبهم في نيل الحرية وإقامة دولة العدل والحق والقانون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى