صفحات العالم

الغاز والبعد الجيوستراتيجي في الصراع على سوريا


زياد حافظ

كثرت التحاليل حول الأزمة في سورية. فإضافة للبعد الداخلي ومشروعية الحراك الشعبي هناك أيضا البعد القومي للمعركة. فمنذ أن جاء كولين بوويل إلى دمشق عام 2003 وسلّم للقيادة السورية ‘دفتر الشروط’ التي يجب أن تلتزم بها للبقاء وسورية مستهدفة من قوى إقليمية ودولية لفك إرتباطها مع إيران والمقاومة في لبنان وفلسطين. كل هذا معروف وكُتب عنه بكثافة وتمعّن. إلاّ أن ما يهمّنا في هذا العرض إلقاء الضوء على البعد الجيوستراتيجي للأزمة السورية. أي بمعنى آخر لماذا هذه الشراسة ضد سورية من قبل بعض الدول الإقليمية وخاصة قطر من جهة وتركيا من جهة أخرى وبعض الدول الأوروبية وخاصة فرنسا ومن ورائها الولايات المتحدة؟

صحيح أن العنواين التقليدية لتفسير أسباب الصراعات في المنطقة ما زالت قائمة كالصراع العربي الصهيوني والصراع على النفط والصراع على النفوذ من وبين الدول الغربية في المنطقة عبر أدوات محلّية كأنظمة تابعة وقوى سياسية منفّذة ومروّجة لمقولاتها وأهدافها. والكلام الذي قرأناه وسمعناه حول يقين الموقف الروسي في دعمه لسورية قيادة وحكومة وشعبا منه صحيح وكثير منه غير دقيق لا يخلو من التسطيح والتبسيط لأمور معقدّة ومركّبة. فعلى سبيل المثال قرأنا أن روسية ‘تدافع’ عن موقعها في سورية وتريد أن ‘تحافظ’ على التسهيلات المرفأية لأسطولها في طرطوس. أو أنها تريد ‘إيقاف’ الأحادية والإنفراد الأميركي بالقرار ومقدّرات العالم وخاصة في الشرق الأوسط. أو أن المنظومة الصاعدة من دول ‘البريكس’ تريد أخذ مكانها الوازن بين الأمم والدول.

كل هذا صحيح إلى حدّ ما ولكن يُخلط في كثير من التحاليل بين السبب والنتيجة. ف’صعود’ روسيا له أسباب لا يُفصح عنها في تلك المقاربات. كما أن أهداف روسيا في ‘المياه الدافئة’ حلم قديم منذ عهد القياصرة وإعادة إثارة الموضوع لا تأتي بجديد. فعنوان صعود روسيا هو النفط والغاز وهذا ما يغيب في معظم التحليلات العربية في مقاربتها للموقف الروسي. لذلك لا بد من مراجعة ماذا حصل في روسيا بعد سقوط الإتحاد السوفيتي وحقبة بوريس يلتسين لنفهم ما قام به منذ عام 1995 فلاديمير بوتين. أنكّب الأخير على إعادة تحصين روسيا من مطامع الغرب وخاصة الولايات المتحدة في نهش ثرواتها بتشجيعها للأوليغارشية اليهودية في نهب المرافق الإستراتيجية عبر ‘خصخصتها’. وقصة محاربة بوتين لتلك الأوليغارشية طويلة نقصّها في مكان آخر لكن المهم هو أن إعادة بناء روسية لم يكن ليحصل لولا لم يكسر بوتين نفوذ الأخطبوط المافياوي لتلك الأوليغارشية. الجدير بالذكر أن عددا من أفراد تلك الأوليغارشية لجاء إلى الكيان الصهيوني ووزير خارجيته الحالي هو من أتباع تلك ‘السلالات’!

أما بوتين فبدأ في تحديد إستراتيجية شركة غازبروم الروسية التي أنشأت في بداية التسعينات بعد سقوط المنظومة السوفيتية. كان الفضاء المحدّد لإنتاج وتسويق الغاز روسيا وأزربدجيان وتركمنستان وإيران وطبعا الشرق الأوسط. لذلك أنشأ خطين: خط التدفّق الشمالي (نورستريم) وخط التدفّق الجنوبي (سوثستريم). الخط الشمالي يزوّد ألمانيا وأوروبا الشمالية بينما الخط الجنوبي يزوّد اوكرانيا واليونان. بالمقابل حاول الأميركيون إنشاء خط تحت اسم نابوكو من بحر القزوين إلى أوروبا عبر تركيا. لم يكتف بوتين بإنشاء الخطّين المذكورين بل سارع إلى إنشاء محور إقتصادي مع الصين وهو ما يعرف بمنظومة شانغهاي التي تؤمن تعاون ونمو إقتصاد عبر اوراسيا. بالمناسبة كانت وما زالت أهداف الدول الغربية في السابق والحاضر السيطرة على ما نعرفه باوراسيا التي تضّم الشرق الأوروبي وكافة القارة الآسيوية. من هنا نفهم الصراع حول أفغانستان وايران والعراق واليوم سورية.

أهمية الغاز تكمن في الكمّيات الهائلة في مخزون مناطق شرق الأوسط بدأ من أيران وثم قطر والآن شرق البحر المتوسط بخط يبدأ مقابل شواطئ غزّة ويمتدّ شمالا حتى سورية وجنوب تركيا. على ما يبدو فإن الإحتياطات الكبيرة تقع أمام الشاطئ السوري. ليس هناك من تقديرات منشورة ولكن ما استطعنا الحصول عليه من عدّة مصادر تفيد أن الإحتياطات الأولوية في الحوض الشرقي للبحر المتوسط يوازي وربما يفوق إحتياطات ايران المقدرة بأربعين تريليون متر مكعب. لنفهم قيمة هذا الأحتياط نشير أن الإستهلاك العالمي للغاز في العالم قارب 114 ترليون متر مكعّب عام 2010. تستهلك دول الحلف الأطلسي ما يوازي 42 بالمائة من الإستهلاك العالمي أي 48 تريليون متر مكعب. أما إنتاج دول الحلف الأطلسي فهو يقارب 38 تريليون متر مكعّب مما يجعلها تستورد حوالي 10 تريليون متر مكعّب معظمها من منطقة شرق الأوسط وآسيا الوسطى. أي بمعنى آخر أن إضافة إلى التبعية للنفط الشرق الأوسطي تنكشف دول الحلف الأطلسي تجاه الغاز بشكل يوازي 20 بالمائة من استهلاكها للغاز. وهذه الأرقام إلى تصاعد أي إلى المزيد من الإتكّال على ذلك الغاز الشرق أوسطي. من هنا نفهم البعد الإستراتيجي للغاز الشرق أوسطي وخاصة الغاز السوري الذي لم يعلن بشكل واضح حجم حقوله. لنعطي فكرة بسيطة فإن الكيان الصهيوني الذي يستخرج الغاز من حوض لفياثان قريبا من الحدود الإقليمية البحرية مع لبنان يستطيع أن يغطّي حاجاته لمدة عشر سنين ويصدّر إلى الخارج. فإذا كانت الحقول في شرق البحر المتوسط أكثر من إحتياطات إيران فهذا يعطي أهمية لتثبيت المواقع والنفوذ. أوروبا بشكل عام على وشك الإفلاس وبحاجة ماسة إلى مصادر طاقة كالغاز. اليونان تتغّذى من غاز إيران وكل من فرنسا وإيطاليا واسبانيا بحاجة إلى الغاز الشرق أوسطي. استطاعت فرنسا عبر الباب الليبي تثبيت موقع وكأنها أشترت بولصة تأمين للغاز في دعمها للسلطة الجديدة الضعيفة في ليبيا.لذلك تريد أن تكرّر السيناريو في سورية. لكن سورية ليست ليبيا ومستعصية على الإرادة الفرنسية. من هنا نفهم شراسة الهجوم الفرنسي على سورية.

أما تركيا فتأخرها في حسم أمرها بالمشاركة في شركة نابوكو حيث كان من المتوقع أن يمر الخط في أراضيها وأن تكون مستودعا لنقل وتسويق الغاز القازويني بمستوى ما يقارب 40 تريليون متر مكعّب جعلها ‘تخسر’ موقعا إستراتيجيا. أضف إلى ذلك القرار الإيراني بتجنّب تركيا والمرور بسورية يزيد من ‘الخسارة’ الإستراتيجية التركية. هنا أيضا نفهم شراسة الهجوم التركي وطموحها بإيجاد نظام حكم تابع للمشئية التركية على الأقلّ فيما يتعلّق بالغاز.

أما قطر فكان طموحها إمداد خط يصل إلى تركيا عبر سورية ليكون لها ‘رأي’ في منسوب الإنتاج والتسويق لحقول سورية المرتقبة وذلك حفاظا على مصالح غازها. لكن المرور عبر سورية أصبح أمرا متعثّرا بعد الموقف المعادي تجاه سورية. من هنا نفهم مرة أخرى شراسة الموقف القطري.

هذا على صعيد اللوحة العامة. إذا أخذنا بعين الإعتبار الإتفاق الذي تمّ عام 2011 بمرور خط للغاز من إيران عبر العراق إلى سورية لتغذية أوروبا، وإذا أخذنا بعين الإعتبار أن الخط الجنوبي (سوثستريم) الروسي يغذّي جنوب أوروبا وذلك بغياب خط نابوكو الأميركي الذي تأخّر وما زال متأخرا في نقل الغاز من القازوين إلى تركيا لتغذية أوروبا نفهم مدى أهمية الدور الروسي في تغذية أوروبا بالغاز.

فإذا أرادت اوروبا وخاصة الدول الأطلسية التحرّر من الإبتزاز الروسي فلا بد من السيطرة على الغاز الشرق الأوسطي. والغاز الإيراني ‘محاصر’ أو يخضع لحصار من قبل بعض دول المجموعة الأوروبية مما يجعل تزويد أوروبا بالغاز أمرا صعبا. فاكتشاف الحقول في شرق البحر المتوسط فتح آفاقا جديدة. من هنا نفهم شراسة الهجوم على سورية لتقويض إرادتها من جهة وللهيمنة بشكل أو بآخر على غازها المستقبلي.

لهذه الأسباب نجد أن الدعم الروسي لسورية في مواجهتها مع الغرب والمحور التركي القطري السعودي هو حاجة روسية بمقدار أنه حاجة سورية. من هنا نفهم لماذا لن تتخلّى روسيا في المدى المنظور عن سورية لأن أمنها الإستراتيجي والطاقوي يحتاج إلى أن تكون سورية داعمة لسياساتها.

فالمحور السوري الإيراني الذي ينضم إليه اليوم العراق له عمق إستراتيجي يمتد شمالا إلى بحر البلطيق وشرقا إلى فلاديفوستوك وبحر الصين. ويبقى السؤال: هل تستطيع سورية ومعها العراق الإستفادة من هذه الظروف الإستراتيجة المستجدّة لتكوين كتلة جغرافية سياسية بين بلاد الشام وبلاد الرافدين لترتقيا إلى دور رائد في الأمة والمنطقة؟ أليس الوحدة بينهما حلاّ إستراتيجيا لكل ما يمكن أن تواجهانه؟

‘ أمين عام المنتدى القومي العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى