صفحات الرأي

بين «ثورة» محجوزة وتاريخ جديد: هل العرب كائنات دينية فقط؟


فؤاد خليل

ان جريان الحراك الشعبي الذي ابتدأ في نهاية العام 2010 ولماّ يزل، افصح عن أن البلاد العربية شرعت في الدخول في تاريخ جديد. وقد اتجهت جدِته الى القطع مع دهر الاستبداد العربي والعمل على الانتقال الى مرحلة مدنية وديمقراطية تحررّ الفرد العربي من قيود أمسه الأزلي وتصيّره مواطناً يتاح له أن يحقّق كينونته الانسانية الحقة.

والتاريخ الانتقالي كما هو معروف، يشهد اعراضاً متنوعة من الصعوبات والآلام والمآسي. وتنجم هذه الاعراض عن الصراع المركّب بين قديم يعاند بكل قوة، من اجل ديمومته والحفاظ على نفسه؛ وجديد يكابد بوسائل شتى من اجل ان ينجز تشكّله ويبني مسار تاريخه المأمول….

ومع تنامي هذا الصراع، تعقّد مجرى الحراك او «الثورة»، فتداخلت قواه وتشابكت عوامله وابعاده بكيفيات مختلفة. لكن انتظامه الإجمالي بقي يتحرك بين القوى «الثورويّة»، والقوى المضادة لها، او بين داخل يستمد شرعيته «الثورويّة» من ذاته، وخارج يجهد في احتواء الحراك واستيعابه او حرفه عن مقاصده وغاياته المنشودة.

وفي كنف الانتظام المذكور، ظهر أن قوى الحراك تتباعد في المنطلقات والرؤى، او تفتقد التجانس الفكري والسياسي. فكان ان توزّعت بين قوى «التقليد» وقوى «الحداثة». وجاء توزعها على هذه الصورة العامة، يعكس تأثيراته في المجرى الحراكي بالذات. وقد تبدى الامر في وتيرة المشاركة لدى كل طرف، وفي أهدافه ومراميه، وفي حدود التغيير الذي يتطلّع اليه. وعلى هذا، كانت قوى التقليد التي تدّعي «التحديث النسبي»، او قوى الاسلام السياسي، تلتحق بالحراك وتضبط مشاركتها فيه على إيقاع مشروعها السلطوي. ذلك أن التغيير في نظرها يتوقف على تغيير قوى السلطة أو شخوصها. وهو لا يطال بالطبع المستويين المجتمعي والاقتصادي. وهذا ما أعلنه قادة من حركاتها حين قدّموا «أوراق اعتمادهم» للغرب الكولونيالي، وأكدّوا له أنهم مؤمنون بقوة بالاقتصاد النيوليبرالي، أي انهم على إيمانهم الراسخ بتأييد المشهدية العربية بين»الكوخ والقصر»!. مثلما هو ايمانهم بأن العربي كائن ديني يحتاج دائماً الى شيء ما من خارجه لكي يحقّق ذاته الانسانية.

ولقد ظهر أيضاً، إن الانظمة السلالية في الخليج العربي تقود بدعم من الغرب الكولونيالي، حلفاً غير مقدس ضد الكتلة المدنية الديموقراطية، أو قوى التغيير الجذري، لئلا ينشأ نظام مدني عربي فاعل وقادر على ترسيم حجمها الحقيقي وحدود دورها الاقليمي والدولي. ولذلك، انتهجت السبل كافة كي تحتوي الحراك وتحرفه عن مآله الثوروي، ومن أجل أن تتبوأ صدارة النظام العربي. وبالفعل، فقد امكنها «أن تشمل الإسلام السياسي «بعطفها السلطاني ذي اللونين الاخضر والاصفر»، وأن تستتبعه وتدعم شبقه السلطوي بعدما اشاح عن فلسطين والعروبة في خطابه «الحديث»!

وتساوق التدخل الخارجي مع سياسة هذه الأنظمة. فأسقط الغرب «الحّرم» عن الإسلام السياسي بعد ان كان قد القاه عليه طيلة عقود بذريعة دالة اسمها «اسطورة الإرهاب» . وهي الأسطورة التي اصطنعها بإتقان شديد كي يجدّد سيطرته على البلاد العربية ويحمي أنظمتها الإستبدادية. وها هو اليوم يجد في هذا الاسلام ضالته الثمنية. اذ لم يعد الغرب»البصير»! يتحرّج من أن يغمض عينيه عن موروث اسطورته، وان يحدّق في منفعته الكبرى. وقد وجدها تتمثل في دعم الاسلام»الحديث والديمقراطي»، وفي إقامة علاقة وطيدة بينه وبين الجيش المؤسسة الضامنة «للمصالح العليا»! او بتعبير آخر، لقد تمثلت لديه في السعي الى بناء انظمة تقوم على ركيزتي الاسلام السياسي والجيش، وتلقى الرعاية والتأييد من مجلس التعاون الخليجي الذي يتعاضد بكفاءة عالية على ضرب المصالح القومية للأمة. كذا، تتعزّز قدرة الغرب على التأثير في الاحداث الجارية. وفي احتضان مشهد عربي رسمي يحظى بعضه بشرعيته الديموقراطية المتأتية من صندوقة الاقتراع، كما يحظى بقابلية قوية لتجديد علاقات التبعية بما يخدم المصالح الغربية الاستراتيجية في المنطقة..

لكن قوى التقليد التي ظفرت بشرعية سلطوية بدعم من الغرب والخليج، ليست وحدها في المجرى الحراكي أو في الانتظام الانتقالي. فالتعقيدات والصعوبات المشار اليها أعلاه والتي تطبع الحراك راهناً؛ تقابلها آمال وطموحات كبرى تحملها قوى حداثية او للدقة قوى التغيير الجذري. وهذه قوى ما فتئت تجدّد شرعيتها الثوروية بإنتظام. إذا ما زالت تشغل الميدان والساحة، وتدعوالى تغيير بنيوي شامل. فهي لم تتوقف عند تغيير المستبد أو رأس النظام أو شخوص السلطة؛ بل تنشد تغييراً يطال بنية النظام الإستبدادي، ويقطع فعلياً مع دهر الإستبداد كله. ومن يعمل على هذا القطع لن يرضى في أن يكون الجيش ركيزة من ركائز النظام الوليد، ولن يوافق على تجديد علاقات التبعية الى الغرب تحت عنوان من هنا أو آخر من هناك، وسوف يواجه محاولات الغرب والخليج لاحتوائه أو تطويعه من خلال تجذير شرعيته الثوروية في الميدان ورفض أي شكل من أشكال التدخل المضاد «للثورة»..

إن هذه القوى تعبّر عن شرعية الداخل وأصالته في الحراك. وهي تشكل صمّام الأمان في التاريخ الانتقالي، أو ضمانته من أجل ولادة جديدٍ ثوروي معافى مدنياً وديمقراطياً، وحتى لا تغرق قوى «التقليد المزيّنة» بالتحديث في دائرة المآسي والآلام، أو تركن الى «ثورة» محجوزة عند الدرجة التالية بعد رأس النظام الاستبدادي…

وإزاء هذا التناقض بين قوى الحراك وقع فكر البعض من أنصار «التقليد والحداثة» على السواء، في نوع من الحيادية بحجة أن الكل قد ربح في الحراك، أو أن الفرصة التاريخية متاحة للجميع، أو أن ما سوف يكون هو في مطلق الأحوال، أفضل مما كان. ومع تبريرات كهذه تجد ذاك البعض قد صمت عن دور القوى المضادة «للثورة»، أو حاذر الحديث عن التدخل الغربي، أو وافق ضمنياً على استدعائه من قبل بعض آخر..

هنا يكون هذا النوع من الحياد الفكري قد أسر الحراك داخل أهواء أصحابه. أو بمعنى آخر، ان الفكر التبريري يحجب تاريخ الحراك وحقيقته. أما الفكر النقدي، فإنه يكشف أن الحراك في طوره الإنتقالي، ينفتح على تاريخ جديد غايته حرية الفرد والجماعة.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى