صفحات الرأي

“لماذا يخاف العرب الحداثة؟” لخليل أحمد خليل

يخافونها لأنهم يخشون تشغيل العقل النقدي في الواقع المعيش

    خالد غزال

ينطلق خليل أحمد خليل في كتابه الجديد “لماذا يخاف العرب الحداثة؟ بحث في البدوقراطية”، الصادر عن “دار الطليعة” في بيروت، من الاحداث التي تشهدها المنطقة، رافضاً قراءتها وفق الاحتفالية التي رافقت اندلاعها ورأت فيها ثورات تغيّر الانظمة وتُدخل المجتمعات العربية الى الحداثة، معتبراً أن “هذا التفكيك المتفاوت، السلمي قليلا والدموي غالبا، يجعلنا اليوم نتحفظ علميا عن وصف ما يحدث بأنه ثورات”.

من الحاضر المضطرب الذي يشهد انفجار البنى العربية ومكوّناتها، وانفلات العصبيات في كل مكان، يعود خليل احمد خليل ليقرأ هذه الاحداث انطلاقا مما عرفته المنطقة العربية منذ النصف الثاني من القرن العشرين، ومما يرمز اليه بقيام الدولة في اعقاب حركات الاستقلال، ثم تكوّن الانظمة العربية عبر الانقلابات العسكرية وصعود نخب جديدة، واصطراع المنطقة في ظل تضارب المصالح الخارجية، وصعود المشروع الصهيوني. هذا كله، ك تجري قراءته في ضوء البنى المجتمعية التي استقبلت هذه التحولات، والحدود او المآزق التي وصلت اليها خصوصا بعد هزيمة حزيران 1967 التي كانت بمثابة هزيمة شاملة لمشروع بناء الدولة ولارهاصات المشورع القومي والتحديثي الذي بدا انه يخترق البنى السائدة.

على امتداد اربعة فصول، يجول الكاتب في تعيين سمات الدولة العربية، فيستعمل مصطلحا جديدا يطلق عليه “البدوقراطية” في وصفها محاولة تزويج الديموقراطية لمجتمعات بدوية لا تزال تحمل سمات بعيدة عن الحداثة، بل ومضادة لها. “فالبدوقراطية هي حكم البداوة، الحكم التراثي –التوريثي بعقلية بدوية، بدائية، تقوم على مزاج تعاركي وثقافة غزوية، مقابل عقلية زراعية، رعوية متخلفة، ومتصلة بدرجة اقل بصناعات تقليدية، تفكك المجتمعات العربية ذات التركيبات التناقضية (بدوية وحضرية معا) التي تطمس اهداف كل خطوة الى الامام بالتراجع خطوات الى الوراء، وبذلك تشوّه نماذج الدول المقامة فيها منذ عقود، وحتى منذ عهد قريب، ناهيك بظاهرة “اللادولة” التي تبرز للعيان (الصومال مثلا)، او التي تتخفى وراء تنازع السلطات (لبنان، فلسطين المحتلة، العراق، الخ)”.

انطلاقا من هذا المدخل يُجري الباحث قراءة صارمة للتجربة العربية في بناء الدولة، ويحاكم المجتمعات العربية بسلطاتها الرسمية والحزبية والمدنية والعسكرية، ويسم ممارستها بالفشل، ويحمّلها مسؤولية الاقامة المدية للمجتمعات العربية في التخلف ووقوفها عقبة كأداء في وجه التقدم والحداثة التي لم يصل منها الى العالم العربي سوى قشرة هزيلة، تشهد منذ فترة اختفاء لصالح العصبيات الطائفية والعشائرية والقبلية والاثنية. وهو انفلات تقرأ في ضوئه الحروب الاهلية المنفلتة من عقالها اليوم في اكثر من مكان عربيا، وهي حروب سبقت اندلاع الانتفاضات العربية، ولكن هذه الانتفاضات تعمقها اليوم وتعطيها زخما كبيرا، على غرار ما شهدناه في اليمن وليبيا وما نشهده بفجاجة اليوم في سوريا.

على رغم السمة التشاؤمية التي تصبغ كتاب خليل احمد خليل حيال امكان حدوث تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية، تؤسس لمشروع نهضوي جديد في العالم العربي، وتسعى الى ادخاله في العصر في ظل العولمة التي تقطر المجتمعات وتجرها الى الالتحاق بالقوى الاعظم، فإن الكاتب “يغامر” بتقديم بعض الأفكار التي يرى في اعتمادها مدخلا “نحو عالم عربي اكثر علما وعلمانية”، فيقول: “لئن كان التاريخ يبنى على الجغرافيا، فإن “نحو” عالم عربي يفسر بالمنحى الذي ستتخذه العروبة في تأسيس الهوية العربية الحضارية الحديثة، وان انتقال العرب من “ثقافة اذا” التوهيمية الى “ثقافة اذن” التفسيرية، التعليمية، العلمية، يقتضي النظر في الاحداث- ومنها الافكار – بعدما غرق العالم العربي في مستنقعات “الاحاديث” و”الاحاديث المضادة”، ويستدعي التوجه الى المستقبل بعقلية تحديثية تتخطى التوهيمات التتريثية التي قلبت عادات الجماعات العربية عبادات ومقدسات، مما جعل الفقاهة اللفظية تطغى على الثقافة النقدية. يحتاج العالم العربي، على مدى القرن الحادي والعشرين، الى منحى تاريخي يكون هدفا في الواقع المعيش، بعدما أحيلت اهداف التطور او التقدم عند معظم العرب على المخبول، الموهوم او المنشود. ان استرجاع فكرة التقدم التاريخي الى مدارات الجغرافيا الحضارية العربية، يحد من مجالات اللاثقافة، اللارأي، اللاموقف، ويضع العرب المعاصرين امام مصالحهم المشتركة – المياه، النفط، الانتاج – بقدر ما يجعلهم في مواقعهم يفصحون عن دوافعهم ومواقفهم وآرائهم بثقافة جديدة، مقياسها العقل، ولا آخر سواه”.

في عالم عربي يشهد اليوم تحولات ضخمة عنوانها انفجار البنى العربية الموروثة وانهيار ما بقي من مشاريع التحديث، واندلاع انتفاضات لم تتجاوز في حدودها اكثر من قلب رأس النظام وعجز عن التحول ثورات، في ظل هذا الواقع يحتل كتاب خليل احمد خليل موقعا مهما في فهم وقائع هذه التحولات المتفجرة، لان وعي اسباب الاعاقة يشكل احد العوامل في عدم الوقوع في الاحباط واليأس.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى