صفحات العالم

سوريا: ارتباك الفسطينيين.. وهواجس الآخرين


  إياد أبو شقرا

«ثمة خير في هذا العالم، وهو يستحق أن نناضل من أجله»

(جي آر آر تولكين)

كتب كثير وقيل كثير في الإعلام العربي خلال الأشهر القليلة الماضية عن المواقف الفلسطينية، سياسيا وشعبيا، من الثورة السورية.

الضبابية التي ترافق أي محاولة تحليل جاد لمواقف الأقليات مما يجري في سوريا، أو مقاربة الموضوع من زاوية النضال «الكوني» ضد «الإمبريالية» و«الأحادية الأميركية»، ملموسة أيضا في المزاج الفلسطيني العام على مستويات مختلفة.

لا شك في أنه ظهرت تحولات في المواقف الرسمية الفلسطينية التي تعبر عنها قيادات التنظيمات الرئيسة خلال الفترة الأخيرة في ضوء شلالات الدم ومشاهد المعاناة الإنسانية على امتداد الأراضي السورية، غير أن المزاج الشعبي العام ما زال مرتبكا أو مبهما إلى حد بعيد، وما زالت بعض الأقلام الفلسطينية ملتبسة التوجهات.

من حيث المبدأ يحق لهذه الأقلام كتابة ما تشاء، مباشرة أو ما بين السطور، سواء من منطلق المصلحة الشخصية أو المنظور السياسي – الفكري، غير أن الرسائل التي توجهها هذه الأقلام إلى الشارع الفلسطيني تزيد الارتباك الحاصل، وتروج أحيانا لأوهام حان الوقت لفضحها.

من الأوهام التي يود بعض الفلسطينيين الاقتناع بها، أن النظام السوري – في جيلي الأسد الأب والأسد الابن – يعيش هاجس تحرير فلسطين، ولا يناور ولا يتحرك إلا من أجل التعجيل بالتحرير. وواقع الحال، بعيدا عن الخطابيات والشعارات الفارغة، أن العكس هو الصحيح. فالنظام السوري، مثله مثل أنظمة عربية أخرى، فتح «دكاكين» داخل حركة المقاومة الفلسطينية في مسعى منها لمصادرة القرار الفلسطيني المستقل، فأسهم في شرذمة الكفاح الفلسطيني المسلح، وفتح معارك جانبية، ونفذ تصفيات راح ضحيتها عدد غير قليل من القيادات الفلسطينية. ثم إن رموز النظام السوري، حتى قبل توليهم السلطة فعليا، خذلوا المقاومة الفلسطينية في الأردن في خريف 1970. ثم بعد أحداث الأردن كلفوا بمهمة تصفية المقاومة الفلسطينية في لبنان ونفذوا ما طلب منهم وأكثر بين عامي 1976 و1982، في «توارد خواطر» غريب مع السياسات الإسرائيلية. وفي حين ظلت جبهة الجولان صامتة منذ 1973 عمل نظام دمشق ما بوسعه لإفشال «اتفاق أوسلو» – على ما في الاتفاق من نواقص – وأمعن في شق صفوف الفلسطينيين تحت ستار دعم قوى «الرفض»، وواصل احتضانه في دمشق تنظيمات فلسطينية غريبة عن أيديولوجيته «العلمانية» المزعومة، مثل حركة «حماس»، بل يمنع نشاطها ونشاط نسخها السورية داخل سوريا مثل جماعة «الإخوان المسلمين».

إن نظرة موضوعية إلى علاقة نظام دمشق مع الفلسطينيين وقضيتهم تشير إلى عنصر استغلال القضية الفلسطينية في مناورات تصب في مصلحته الخاصة، ولا علاقة لها بمصالح الفلسطينيين وعلى رأسها تحرير فلسطين. فبعد مصادرة القرار الفلسطيني المستقل، كان دور تنظيمات فلسطينية بالاسم مثل «الصاعقة» و«الجبهة الشعبية – القيادة العامة» الترويج لسياسات النظام. وهذا ما حصل ولا يزال يحصل في لبنان. وكان من أبشع نماذج هذا الاستغلال خلال الفترة الأخيرة – قبل وصول الأمور إلى قصف مخيم اليرموك – دفع النظام في ظل اشتداد «عود» الانتفاضة الشعبية عليه شبان فلسطينيين قبل بضعة أشهر لاختراق أسلاك الهدنة المتطاولة في الجولان – لأول مرة منذ 1973 –، وكما كان متوقعا، سقط هؤلاء الشبان قتلى برصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي.. بصورة عبثية فقط لكي يوغل النظام تضليله في مسألتي المقاومة والتحرير.

وهم آخر يستحق الإشارة، وكانت تبعاته باهظة الكلفة على الفلسطينيين، هو أن القضية الفلسطينية هي القضية العربية الوحيدة، وكل ما عداها إلهاء للجماهير عن واجب تحرير فلسطين. أما الحقيقة فهي أن القضية الفلسطينية، على الرغم من مركزيتها في الضمير العربي، وكونها معيارا أساسيا لـ«شرعية» النظام السياسي العربي، فإنها تبقى جزء من نضال الإنسان العربي من أجل الحرية والكرامة وعيش إنسانيته كاملة غير منقوصة. وبناء عليه لا يجوز فصل حق الإنسان الفلسطيني في الحرية عن حق إخوته في كل الأقطار العربية في الحرية حيث يعيشون. وهذا أمر يستتبع تعاطف الفلسطيني المظلوم والمبتلى بالاحتلال الإسرائيلي، مع أخيه العراقي والسوري الذي ظلم ويظلم تحت حكم طغم فاشية وفئوية غاشمة، وأخيه اللبناني المجبر على العيش تحت هيمنة مشروع مذهبي قراره في الخارج، وكل ذلك تحت شعارات المقاومة التحرير. فلا صدام حسين غزا الكويت تمهيدا للتقدم نحو فلسطين، ولا حافظ الأسد وابنه من بعده هيئا الجيش السوري لمقاتلة إسرائيل.. بل أعداه ليفعل بمدن سوريا وقراها ما يفعله منذ نحو 17 شهرا.

بالمختصر المفيد على الأخوة الفلسطينيين أن يقتنعوا بأن المستقبل العربي المفعم بالحرية والكرامة وحقوق الإنسان يصنعه الإنسان الحر.. المتمرد على ترويض الأنظمة القمعية.

وهنا نصل إلى مسألة لا بد من مصارحة أهلنا في الثورة السورية بها.

إن الارتباك الفلسطيني إزاء تأييد الثورة جزء من ارتباك أوسع وأعم. ومن مصلحة الثورة السورية، ومن أجل تحقيقها أهدافها بأسرع وقت ممكن، عليها أن تعلم أن الأقوال بالأفعال فلا تكون هناك – كما يقال – «أجندات» خفية.

وبعيدا عن انفعالات الساعة، التي لا بد من تقديرها وتفهمها، يجب على قيادات القوى المنخرطة بالثورة السورية أن تعي حجم التحديات المحيطة بها. وهنا أقول إنني بالأمس شاهدت مقابلة تلفزيونية مع أحد أكبر قيادات الأخوان المسلمين، قال فيها بالحرف: «إن سوريا دولة عربية إسلامية». وتابع، رغم دبلوماسيته ولباقته، أن هذا ينبع من حقيقتي أن الإسلام هو دين غالبية السوريين والعنصر العربي يشكل غالبية مكونات سوريا العرقية.

هذا الكلام، وسط كل التبريرات المسوقة للامتناع عن دعم الثورة – بل والتآمر عليها – في غير محله تماما، وهو يستوجب مراجعة جدية. ومن دون مقارنة وضع سوريا اليوم بالديمقراطيات الغربية العريقة، أعتقد على قيادات «الإخوان» العاقلة أن تدرك واجباتها في المعترك السياسي.

إن نسبة غير المسلمين وغير العرب في سوريا أعلى بكثير من نسب غير المسيحيين وغير البريطانيين في بريطانيا، وغير المسيحيين وغير الفرنسيين في فرنسا. ومع هذا يتمتع هؤلاء في بريطانيا وفرنسا بالحقوق نفسها وعليهم الواجبات ذاتها في مجتمع مدني منفتح. وهنا أذكر بأن ملكة بريطانيا هي رأس الكنيسة الأنغليكانية، وأن فرنسا «الكاثوليكية» التي انطلقت منها دعوة الحرب الصليبية دولة علمانية بالكامل.. يوجد في حكومتها – كما يوجد في الحكومة البريطانية – وزراء مسلمون ويهود.

كلمة أخيرة، أرجو أن يحتفل السوريون في نظامهم المدني المقبل بأبطالهم الرياضيين من شتى الملل والنحل كما احتفل البريطانيون مساء السبت بانتصار بطلهم الأسود المسلم محمد فرح بذهبية سباق الـ10 آلاف متر في أولمبياد لندن.

إذ ذاك فقط نكون أهلا للتغيير.. ولا تكون تضحيات الشعب السوري البطل قد ذهبت هباء وراء سراب خادع.

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى