صفحات الرأي

الشيوعيون العربُ والثورة السورية


عبدالله خليفة

1

صارت الثورة السورية مفصلا تاريخيا لتحديد تطور الاتجاهات الرأسمالية الحكومية المستوردة من الخارج أو الطالعة حديثا.

الأحزابُ الشيوعية العربية لم تستطع تطويرَ الماركسية داخلها، نظراً إلى تبعيتها للمركز الروسي أو للمركز الصيني، اللذين كانا شكلين لتشويه الماركسية في الشرق بسببِ نموهما بحسب رأسمالية الدولة.

لقد شرحنا مراراً كيف أن سياسات القفزات في التغيير قادت لهيمنة الدول، وكيف أن الجذورَ القوية للشموليات في روسيا والصين وإيران حاليا وغيرها من الدول التي جذرتْ سيطرات الدول في الاقتصاد والسياسة والثقافة والدين وضيّقتْ الخناقَ على التنوع والليبرالية تعدلا نماذجَ في حالاتِ أزمةٍ بنيويةٍ تاريخية، في حين استطاعت شعوبٌ عربية في بعض الدول أن تخترق الشموليات الرأسمالية الحكومية لأسبابٍ كثيرةٍ تم عرضها.

كثيرون لا يفهمون مثل هذا التعقيدات على المستويين العالمي والقومي، وعلاقاتها بالأحزاب والطبقات والطوائف.

التياراتُ التي تسمت بالشيوعية قفزتْ لمهماتٍ فوق قدراتها، وارتبطتْ بايديولوجيات خاطئة في رؤيتها لطبيعة التطور في الشرق، وقادها ذلك للتآكلِ التدريجي نظراً لقيامها بنضالات حادة، مضادة للتطور الحقيقي، وعدم قدرتها على القراءة الموضوعية والنقد وإعادة طرح تحليلات حية مع التطور.

الطريق الذي عبدتَهُ ضد الرأسمالية هو الطريق نفسه الذي أنشأ رأسماليةً حكومية شمولية، فلم يتحققْ التطورُ الديمقراطي، ولا هُزمتْ الرأسمالية.

قاد هذا التطرف إلى اشتباكاتٍ بين قوى التحديث القومية والاشتراكية والإسلامية، في تجارب لبلدان عديدة، بحيث صعدتْ هياكلٌ محافظةٌ قديمة كانت بعيدة عن تضحيات التحديث تلك.

في الثورات العربية السابقة لم تُطرح بحدةٍ مسائل الطائفية في حين تفجرت في الثورة السورية بقوة.

في الطائفة السنية هناك التنوع في المذاهب والدول، ولم تنشأ مركزياتٌ كاملة تامة مهيمنة على الطائفة، وإذا كان بعض الدول في الجزيرة يطمح إلى ذلك لكن هذا ليس كليا، فهي كذلك تعتمد على رأسمالية دول نفطية محافظة وتؤثر في العمليات السياسية والأحداث لكن قلبَ التطور الاجتماعي تشقهُ القوى الشعبيةُ في دول الثورات أساسا.

فيما الطائفةُ الشيعيةُ والطائفة العلوية تعيشان وضعا مختلفا، هنا جرى تمركُز لرأسماليتي دولةٍ شموليتين هما سوريا وإيران، عبر تاريخين مختلفين وفي بنيتين مختلفتين.

إن الوعي المذهبي ليس هو الذي يشكلُ رأسماليةَ الدولة، إنها تتشكل قبل هذا الوعي ومن خارجه عبر صعودِ تنظيماتٍ أو قوى اجتماعية سياسية شمولية تستولي على الدولة، وتحولها ضمن مشروعها السياسي، المشروع السياسي قد يكون (شيوعيا) أو (اشتراكيا قوميا) أو (ناصريا) أو (قوميا) أو غير هذا، فيجرى جعل الدولةَ رأسماليةً خاضعة لطبقة ما، بحسب تطور كل بلد وهي تستثمر الوعي الديني بحسب تطورها أو أزمتها.

الوعي المذهبي السني المتنوع لم يرفض الثورات العربية بكليته فهناك وجهات نظر كثيرة مختلفة، فلم يحدث فيتو من رأسماليات دول الخليج النفطية على الدول الحليفة لها في مصر وتونس خاصة، التي انتقلت لمسار سياسي آخر.

لكن رأسماليةَ الدولة الإيرانية مختلفة فقد دخلت في نفق مسدود بعدائها للتنوع الليبرالي والحداثي والقومي داخلها، وتداخلت مع النظام السوري في علاقة تحالف، لكونه هو نفسه يخضع لبنية شمولية تدهورت خلال عقود.

أحزابٌ عديدةٌ في العالم العربي وقفت من الثورات بشكل مؤيد عامة، لكن حول الثورة السورية اختلفت، فقد دخلت الثورة الشعبية مكانا احتكاريا لولاية الفقيه.

والمسألة ليست أشكالاً طائفية بل صراعات اجتماعية، عموم السنة وقفوا مواقف إيجابية تجاه الثورات، وعموم الشيعة وقفوا ضد الثورة السورية بشكل خاص.

إنها ثورةٌ توجه ضربة كبيرة للمركز الرأسمالي الحكومي الإيراني الذي أصبحوا يعيشون في ظله السياسي الاقتصادي، وهذا يجعل الأمر متماثلاً بين (شيوعي) وديني.

الشيوعي لم يعدْ ماركسيا منذ زمنٍ طويل، فتآكل المنهجُ المادي التاريخي من رؤيته، وكلستهُ الفورما الروسيةُ ذات الجذر الطبقي المشابه، مثلما كلستْ الفورما الماوية بعضَ القوميين الذين تحللتْ رؤاهم ولم يعودوا يفرقون بين الثورة والثورة المضادة.

الطبقاتُ الغنيةُ المسيطرةُ على رأسمالياتِ الدول الشمولية تتقارب وتتوحد، ولهذا ليس عجيباً أن تتوحد وزارات الخارجية في كل من روسيا والصين وإيران في تمرير قرارات ذبح الشعب السوري.

لا يعني هذا ان الشيوعيين كلهم في سلة واحدة، ثمة مناضلون رفضوا التكلس، أحياناً لأسباب طائفية كذلك، وأحياناً لرؤى سياسية موضوعية ولكن الذين يعيشون في ظلال الشموليات دخلتهم الطائفيةُ وصمتوا عن شعب يُقتل بدلاً من أن يسهموا في دعم ثورته.

2

هناك عيناتٌ من مواقف لأحزابٍ شيوعية رفضت الهجمة الفاشية على الشعب السوري، وأغلبها فصائلٌ راحتْ تنشقُ عن المستنقع الطائفي الذي يصورُ نفسه تقدميا. يقول تنظيمٌ في العراق:

(إن حزبنا الشيوعي العراقي – الاتجاه الوطني الديمقراطي، يتابع بقلق وألم وأسىً ما يجري في القطر السوري، على يد ذلك النظام الجائر المستبد، من قتلٍ وتنكيلٍ والاعتقالات والتعذيب وشتى صنوف القمع وإبادة جماعيّة مما لا يمكن تصنيفه إلا كواحدة من أبشع وأشنع جرائم الحرب النكراء التي تتنافى مع كل الأعراف والقوانين المتعلقة بحقوق الإنسان المعتبرة والمقررة في كل الشرائع السماوية والإنسانية).

إن عدم قدرة حزب تقدمي مفترض على أن يكون مع ثورة شعبية كاسحة تعود لكون تلك الرؤية التقدمية أفلستْ، وصار الأعضاءُ أشباحاً وظلالاً لا تمتلا إلى التيارات الديمقراطية بصلة.

إن رأسماليات الدول الشمولية الضارية ذات التاريخ الاشتراكي المزعوم من جهةٍ ذوبتْ التقدميين وأفلستهم من النظر الطبقي الشعبي وجاءتْ نظيراتُها الطائفيةُ فنفختْ في التيارات المذهبية السياسية وحولتها لمناضلين مزيفين يخربون النضالَ الوطني في كل بلد.

وبين السحل الفكري من جهة والنفخ الدعائي من جهة تكونتْ البالونات المعارضة لثورة الشعب السوري.

في لبنان نقرأ لكاتب وجهة نظر مسايرة لتلك الجماعة العراقية السابقة العرض التي أيدت الثورة السورية بقوة، يقول:

(وفي خضمّ حركة الاحتجاجات الثورية الواسعة، المطالبة بالحرية في كلّ أنحاء سوريا، التي وُوجهت بقمع مرعب انتهى حتى الآن إلى أكثر من ١١٠٠ قتيل وعشرة آلاف معتقل، جلّهم من الكادحين والفلاحين والعمّال السوريّين، يأتي البيان الأخير للمكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني الصادر بتاريخ ٢٠ ابريل ٢٠١١، ليمنّن الشعب السوري بأنّ من حقّه أن «يتحرّك بكلّ الوسائل السلمية والديمقراطية من أجل الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومواجهة الفساد»، لكنّه، في المقابل، يتجاهل أيّة تسمية للشهداء والقتلى في سوريا، و«يأمل أن تسارع (الحكومة السورية) إلى تنفيذ سائر الإصلاحات التي تقدّم بها الرئيس بشار الأسد، فنتبيّن موقف الحزب الموارب أكثر، عندما نرى كلاماً طويلاً عن «مواجهة سوريا للفتنة الداخلية التي تسعى اليها الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل بالتعاون مع بعض القوى العميلة والمغرقة في رجعيتها داخل سوريا وخارجها» لكنّنا لا نفهم شيئاً. أيّ «فتنة» يقصدها الحزب الشيوعي اللبناني؟)، خليل عيسى، جريدة الأخبار اللبنانية.

إن استخدام كلمة (فتنة) هو بحد ذاته فضيحة وتعبير عن عقلية دينية محافظة، لتوصيف صراع طبقي عصري، فهذه الكلمة تحيلنا لتراثنا التقليدي المتجاوَز حتى عند الدينيين المتعقلين، فبدلاً من وجود أدوات تحليل موضوعية لهذه الجماعة المدعية بانتمائها إلى الماركسية، وتقوم بالحفر في طبيعة رأسمالية الدولة السورية وتكشف عزلتها وأزمتها ولجوئها إلى أدوات قمع رهيبة تُوجز القضية في تعبير فتنة.

لكن كيف يتولد وعي طبقي منتم إلى الجماهير الشعبية في أناس تحللوا منه، وتقاربوا مع القوى المحافظة والرجعية والفاشية؟

يعودُ ذلك لوجودهم ضمن طائفتهم الشيعية في لبنان المأسورة عامة بولاية الفقيه الإيرانية وسيطرتها عليها، وعدم قبول تلك الولاية بتعدد وجهات النظر السياسية والفكرية في الطائفة، نظراً لتلك المركزية الشديدة.

كما كانت المركزية السوفيتية لا تقبل بمركزية صينية أو غيرها، و(الشيوعي) اللبناني كالشيوعي العربي عامة ذو الرؤية الشمولية الجامدة الذي تحلل من لافتات الماركسية المجردة بعد قيادتها له في صراعات حادة ضد المسيحيين والليبراليين ربما رآها من موقع الطائفة لا من موقع الطبقة العاملة، انهارت بقايا وعيه الاجتماعي الذي لم يتشكل وطنيا من خلال كل اللبنانيين، بل تقوقع في الجنوب وبين الطائفة، حتى اندثر.

فرقٌ كبيرٌ بين المحفوظات ومنهج التحليل، بين سياسات التبعية للشموليات وتطوير الديمقراطية وتصعيدها في الطوائف والجماعات والدول المختلفة، في تنمية النضال التوحيدي للشعب عبر ثورة شعبية كما في سوريا وتنميته في الشعب اللبناني لتجاوز الشموليات الطائفية المختلفة.

تقدميون وديمقراطيون سوريون انفصلوا عن الدولة وشاركوا في الحراك، فيما آخرون التصقوا بالأجهزة ودافعوا عن مشروعها الدموي بلافتات كاذبة، مثلهم مثل (اليسار) التابع للدكتاتوريتين الإيرانية والسورية في لبنان.

السبب الجوهري هو الانتهازية وليست المذاهب الإسلامية التي تُجيرُ عبر خداع لخدمة ذلك التوجه السياسي.

ما يجعل شيوعيين سابقين يدافعون عن نظام دموي بلغة سياسية هزيلة هو انتهازيتهم وخيانتهم للموقف السياسي النضالي، وهو أمر يُصّعد المشكلات ويُقوض أي تعاون بين شعبين، ويجرهما لصراعات وحروب خطرة.

ليس فقط النظام السوري المنهار هو الذي يطلق شرارته على شجرةِ الأرز اللبنانية بل العيون المعشية الانتهازية التي تلاعبتْ بالأفكار الماركسية والمذهبيات الإسلامية على جانبي الحدود لتجد نفسها الآن في مستنقع واحد مع الفاشيين القتلة في سوريا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى