حسان عباسصفحات سورية

التمثال والذاكرة الجمعية

 

حسان عباس

 تمثل المشيدات مطرحاً من أكثر مطارح الذاكرة الجمعية رسوخاً. وسواء أكانت تلك المشيدات دينية أم تاريخية أم ثقافية أم سياسية، وسواء أكانت تحظى بهوى في نفوس غالبية الأفراد أم بعضهم فقط، يصعب على المنتمين إلى الجماعة التي تحتلّ المشيدات حيزا من فضائها المشترك أن يحرّروا أذهانهم من ذكراها.

وتشكل التماثيل والنصب التي تقام في الأماكن العامة من ساحات وحدائق وطرقات نموذجا لما يمكن أن تحظى به المشيدات من حضور وتأثير في حياة الجماعة وفي شكل العلاقة التي يبنيها الناس مع تاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم. حين تجتمع الحشود في ساحة الجمهورية في باريس للاحتفال بمناسبة سياسية ما فلأن ثمّة رابطة وجدانية تربطها برمز “ماريان” التي يتوسط تمثالها الساحة. وكذلك عندما يقوم جمهور بهدم تمثالٍ لحاكمهم فهم يقلبون، رمزيا، صفحة من تاريخهم.

يتبع انتشار التماثيل والنصب التذكارية في فضاء الجماعة، كما يتبع عددها، وكثافتها، وخارطة توزعها، إلى طبيعة السلطة المسؤولة عن تنظيم أمور الجماعة وأمور حياتها. فهي تعبر عن حاجة السلطة لوجود ذاكرة جمعية تؤلِف بين الناس وتعزز انتماءهم إلى الجماعة من خلال تذكيرهم الدائم بالمشترك بينهم. أما في حال سلطة الاستبداد فهي تعبر عن رغبة السلطان في اصطناع ذاكرة جمعية مستلَبة، مسكونة بصورته دون أي شيء آخر. في ختام جولة التحقيق مع “وينستون”، الشخصية الأساسية في رواية “1984”، يقول الجلاد أوبريان: “لن يكون بمقدورك بعد اليوم أن تعرف المشاعر الإنسانية العادية. كل ما فيك سيفنى. […]. ستكون خاويا. سنعصرك حتى تصبح خاويا ثم نملؤك من ذاتنا”. ولبلوغ ذاك الهدف يجب إغراق المواطن بحضور السلطان، ليصبح حاضرا حتى في ذاته. هكذا تصبح تماثيل السلطان، والجداريات التي تتضمن صورته، عنصرا بصريا طاغيا في الفضاء العام. ويغدو من المستحيل أن تجد مدينة كبيرة أو بلدة صغيرة لا تفرد أفسح ساحاتها لها. ويصبح من المستحيل أن تجد صرحا حكوميا على طول البلاد وعرضها لا يُفرد في مدخله أو في ردهة استقباله تمثالا نصفيا أو بالقامة الكاملة للسلطان، الذي يتحول في أنظمة الاستبداد إلى “قائد خالد”. ولعله ليس من المصادفة أن برامج تعليم اللغات، في وزارة التربية السورية على سبيل المثال، تعتمد لترجمة صفة “الخالد” في العبارات المنقولة من خطابات الرئيس كلمة (omniprésent) التي تعني حرفيا “كليّ الوجود”، أو “الموجود في كل مكان”. وكأن الصفة العربية التي ترخي بظل القائد على الزمان تستكمِل في الصفة الفرنسية هيمنته على المكان لتحقق طموح الألوهية على إحداثيات الوجود.

للنصب والتماثيل والجداريات تأثير نفسي مباشر على المواطنين لأنها تحوّل فكرة الوجود الكلّي للسلطان إلى أمر ماثل في الواقع. تنقلها من مستوى المتخيّل إلى مستوى المحسوس المادي. وعندما تملأ تماثيل السلطان ونصبه الفضاء المحيط بالمواطن، ترتسم أيضا كصورة مهيمنة على فضائه الداخلي، تملؤه، تحتل خياله، وتصيب روحه بالتخمة، فتحيله إلى إنسان مسكون بشخص السلطان، ويصبح جاهزا ليحقق النظام سيطرته الخفيّة عليه.

لم تكن عملية إسقاط التمثال في الرقة إلا عملية أخرى، ولن تكون الأخيرة، في سلسلة عمليات مشابهة تقوم بها الجموع الثائرة منذ الأيام الأولى لاندلاع انتفاضة الكرامة في سورية. مما دفع عددا من البلديات إلى رفع التماثيل وركنها في مواضع آمنة.  ولم تكن الجموع في دأبها هذا تفرغ شحنة حقدها على النظام الذي ثارت ضده فحسب، بل كانت أيضا تقوم بعملية “تهوية” لذاكرتها الجمعية. فالذاكرة مختنقة بصورة السلطان، وفي الحياة صور كثيرة أخرى من حق الناس أن يتعلقوا بها ويركنوا إليها.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى