صبحي حديديصفحات الثقافة

مساحات مونش / فان غوغ/ صبحي حديدي

 

 

لأسباب ترويجية، تسعى إلى اجتذاب المشاهد، ولكنها بالطبع لا تخلو من الأغراض التعليمية والتثقيفية، فضلاً عن نزعة المقارنة المشروعة؛ صار شائعاً، لدى متاحف العالم الكبرى، تنظيم معارض تجمع أعمال اثنين من أساطين الفنون التشكيلية. لعلّ الأشهر، في حدود ما أعلم، كان معرض «بيكاسو والأساتذة»، الذي احتضنته أروقة الـ»غراند باليه» في باريس، خريف 2008؛ وضمّ قرابة 210 أعمال متقاطعة في موضوعاتها وأزمنتها وأساليبها وأصحابها (إلغريكو، فيلاسكيز، غويا، زورباران، ريبيرا، ميلينديز، بوسان…)، لكنها تلتقي حول مصادر التأثير التي أتاحت تكوّن، ثمّ تطوّر، شخصية الفنان الإسباني الكبير.

وقبل أيام أتيحت لي فرصة زيارة معرض من هذا النمط، نظمه متحف فان غوغ في أمستردام، بعنوان «مونش: فان غوغ»؛ ضمّ نحو 80 عملاً على القماش، و30 على الورق، واستهدف عقد ما أمكن العثور عليه من تشابهات واختلافات وتناظرات بين قمّتَين في التشكيل التعبيري الأوروبي: الهولندي فنسنت فان غوغ (1853 ـ 1890)، والنرويجي إدفارد مونش (1863 ـ 1944). نقطة البحث الأولى التي أجهدت منظّمي المعرض كانت التنقيب عن مصدر يشير إلى أيّ لقاء بين الفنانين، الأمر الذي لم يثبت البتة، رغم أنّ دروبهما تلاقت في أكثر من مكان ومناسبة. وإذا كان فان غوغ قد رحل من دون أن يسمع باسم مونش، أو يشاهد عملاً واحداً له؛ فإنّ الأخير كان شديد الإعجاب بأعمال الأوّل، فتحدّث عنه بحماس، مراراً، ويصحّ القول إنّ بعض التناظرات اتخذت عند مونش وجهة التأثّر المباشر.

على سبيل المثال، زائر المعرض يقف أمام عمل مونش الشهير، «الصرخة»، وهو هنا النسخة الأولى المبكرة (من أصل أربعة نُسَخ، كما هو معروف) التي تعود إلى عام 1893؛ وإلى جانبها عمل فان غــــوغ «جســــر ترانكتاي»، 1888، حيث يتشــابه الجسران في اللوحتين، أسوة بالسماء في الخلفية، والأهمّ منهما هو العنصر البشري: فتاة تسير على الجسر، وكأنها تصرخ. عمل آخر من مونش، هــــو «اللبـــــلاب الأحــمر المتسلق»، التي رُسمت بين 1898 و1900؛ تجـــوز مقــــارنته مع عمل غوغ الشهير «البيت الأصفر»، 1888: الأمر، هنا، يتجاوز النسخ بالطبع، وينتـــهي إلى ما يشبه التصادي النفسي في علاقة الفنّانَين باللون والبيت معاً. المثال الثالث هو «صورة ذاتية للفنان»، 1887، عند غوغ؛ و»صورة ذاتية مع لوح الألوان»، 1926، عند مونش؛ ولن يجد الناظر صعوبة في إدراك مدى انطباع الأوّل في الثاني.

مدهش، في المقـــابل، أنّ المعـــرض يقـــود إلى خـــلاصة غير متوقعــــة، أو هي تســـير على نقـــــيض ما هو شائع عموماً: أنّ مونش، وليس فان غوغ، هو الأكثر إيحاءً بالاعتلال النفسي، والضنك الروحي، وتأزّم العلاقة مع العالم الخارجي. وليست «الصرخة» هي العلامة الأبرز على هذه الحال، بل ثمة الدار المصطبغة بالأحمر الدامي (تحت قناع نبات اللبلاب!) الذي ينزلق نحو الدرب الموحلة؛ و»الكآبة»، 1892، حيث القتامة الروحية لا تنبعث من الرجل الكئيب في الجزء السفلي الأيمن من اللوحة، بل في الشاطئ وراءه، والسماء، وحتى الجسر البحري الصغير المضاء. فان غوغ، في المقابل، هو سيّد الحقول الصفراء والشموس الساطعة والسماء المزنّرة بالنجوم والطبيعة البديعة الخلاقة.

وهذه الخلاصة ثمينة حقاً، أو هي أشبه باقتراح مقاربة مختلفة لفنّان فريد مثل فان غوغ، عاش فقيراً ومات خالي الوفاض، وأنتج أكثر من 2500 عمل على مدار تسع سنوات، ولم تتناوله سوى مقالة نقدية واحدة أظهر فيها ألبير آمييه حماسه لهذا «الفنان التعس في روحه، المتفائل في أعماله». وهذا الذي لم تُبع له سوى لوحتين، لا ثالثة لهما، في حياته؛ صارت أعماله تُباع، بعد وفاته، بمئات ملايين الدولارات، ويتسابق على اقتنائها كبار أثرياء الكون. وإذْ لا تكفّ هولندا عن استعادته، منفرداً أو مقترناً بسواه من كبار فنّاني الإنسانية، فلأنها وهبته إلى العالم ضمن واحدة من المفارقات الكبرى في تاريخ الفنون التشكيلية: هذا بلد مبعثر على هيئة جزر ـ دساكر، مسيّجة بالمياه من كل حدب وصوب، ينفرد أهله بمزاج رتيب مغلق؛ وهذا، فان غوغ، عبقري فذّ فتح روحه على الملأ، وكشف الذات الآدمية في مختلف أطوار ضعفها وقوتها، على امتداد 37 سنة من تفتّق موهبة عظيمة، وانكسار حياة مترعة بالأسى.

وبعض المغزى التربوي، والتثقيفي، في معرض «مونش: فان غوغ»، هو هذا الزجّ للعملاقين في حلبة متلاطمة من مساحات الاتفاق والاختلاف؛ حيث لا يقع الزائر تحت وطأة انجذاب شبه سحري إلى فنّ رفيع خالد، فحسب؛ بل ينفكّ أيضاً، لحسن حظّه، عن التنميط الشائع، وينساق إلى مراجعات متقاطعة، مقارنة، وصحية في نهاية المطاف.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى