صفحات العالم

من الديكتاتورية العسكرية إلى.. ديكتاتورية «انعدام الأفق»


ليس هكذا.. تحيا سوريا

نصري الصايغ

دمشق، حلب، حمص، درعا، دير الزور، القصير، حماه، ادلب، أسماء لمدن سورية. يتكرر ذكرها وتناول أحداثها، كل يوم، بالصوت والصورة، إلى جانب أرياف لصيقة ونائية، يمكن التعرف عليها ومعرفة ما فيها، وما تبقى منها… ماذا بعد؟

النظام السوري، نظام الأسد، الجيش النظامي، الجيش السوري الحر، الشبيحة، المعارضة، المجلس الوطني، التنسيقيات، هي أسماء لهيئات، يتكرر ذكرها، كل يوم، بالصوت والصورة، إلى جانب تصريحات وبيانات ومواقف، يمكن التعرف عليها ومعرفة ما فيها من صدق قليل وكذب وفير، وإدراك ما تبقى من سوريا في ظلها… ماذا أيضا؟

المعارك، البيانات، الاحصاءات، أعداد القتلى، أعداد الشهداء، أعداد النازحين، أعداد الرمايات، أعداد القذائف وأحجامها، أعداد المعارك، أعداد الجنود، أعداد لا تتوقف عن سرد مجموع المأساة وما حصدته من بشر، وما تبقى من الأهالي، في فيافي الركام… ما كل هذا؟

أسماء.. أسماء.. وأعداد.. أعداد.. وكلمات كلمات، كأن سوريا تحولت إلى مضبطة لأحوال القتل والتهجير، من دون أن يتسنى لأصحاب المشاعر الإنسانية أن يتعرفوا على أسماء القتلى وأسماء عائلاتهم، من دون أن يدركوا الآلام الفظيعة والدموع المسفوكة والضياع والمنافي والزوغان ومذلة اللجوء وجبن الاحتماء. حرب بأسماء كثيرة، والقتلى لا يحملون أسماء، ينقلون بصيغة الجمع إلى قبور مشاعية، بلا حرمة للألم والدمع وأصوات الوداع… موتى لا أسماء لهم. حرب، تحضر فيها الأعداد، ويغيب عنها الاحتفاء بالمأساة، مأساة الفقدان.

لا شيء يمنع أن نتعرف على الإنساني في الحروب، على وجوه أبناء وبنات وأحفاد وأطفال وشيوخ ونساء جنود، يُقتلون يوميا، ويتحولون إلى أرقام في معركة، أو أعداد في مقتلة، أو جماعات في مجزرة. لا فرصة لإقامة مراسم الحزن الكبير، الحزن النبيل، الحزن العمومي.

الناس مجرد أرقام. بعضها يرتقي إلى مصاف الجثة المرمية على قارعة الركام، لتتصيده كاميرا، وتسرقه لقطة، وتعرضه شاشة كبضاعة حربية، تباع ويعرف ثمنها في معارك الاتهامات المتبادلة بالارتكاب.

مخجل جداً وفاضح كثيرا أن لا نخجل وأن لا نشعر بالفضيحة وأن تستمر حياتنا، كأن القتل عادة، وكأن المجزرة صارت مشهداً ألفناه، وكأن الحرب برمّتها، تمرين وتدريب بالرمايات الحية، بكل الأعيرة والأسلحة، الجوية والبرية و… البربرية…

مخجل أن نستمر في الذهاب إلى أعمالنا، ونتنكب واجباتنا، ونستمع إلى نشرات الأخبار، ونصغي إلى تصاريح المسؤولين عن الارتكاب، ونتصفح بعيوننا الزجاجية مشاهد المجازر والأحياء المدمرة والمدن المقتولة، من دون أن نشعر بوخزة عاطفية، من دون أن نقول: «والله حرام»، من دون أن نذرف دمعة. أو أن نسأل عن المعنى. من دون أن نشتم ونسبّ، من دون أن نغضب ونلعن الساعة، من دون أن نتصرف بنزق، من دون أن نبكي ونجهش، من دون أن نبلغ حدود الاستقالة من هذه الحرب، التي أخذت سوريا، كل سوريا، بمجرميها وأبريائها، إلى جهنم.. وبئس المصير.

كأننا تحولنا إلى كائنات، تسطّحت لديها عتبة الإحساس، وتمجدت لديها المشاعر، وتقلصت إنسانيتها إلى حدود ممارسة الأكل والشرب والجنس، بلا شهية أو شهوة.

أما زلنا بشراً؟ ان كنا كذلك، فلنصرخ، ولو كان صراخنا عبثاً، لنصرخ رفضاً، ولو فرادى. لنقل على الأقل: جريمة ان تكون لا مبالياً: (أتذكر أغنية جيلبير بيكو التي يضع فيها اللامبالاة في مرتبة الجريمة الوسخة). جريمة ان تشحذ كلامك مع هذا ضد ذاك. فلا هذا ما زال هذا، ولا ذاك هو ذاك…

نشرح قليلا «هذا» و«ذاك»:

المعارضة، الثورة، التنسيقيات، الجيش السوري الحر، «الاخوان»، السلفيون، خسروا المعركة. السلاح الذي حملوه، قتل الحرية وسفك الديموقراطية. لم يعد مجدياً ذكر الأسباب التي دعت المعارضة إلى حمل السلاح… النظام بارتكاباته المذهلة نجح في تسليح المعارضة، وكان له ما أراد. والسلاح لا يفكر، يقتل إذا استنقع. السلاح لا يأمر، بل يأتمر. وقد انتقلت إمرة السلاح إلى أمراء النفط، شركائهم المحليين والاقليميين والدوليين. لم يعد سلاح الثورة نظيفاً. انه، وهو يقاتل النظام، يقتل كالنظام. يا لفداحة الثورة! خسارة هذه المعركة، خسارة للمستقبل في سوريا.. سوريا الراهنة، لا مستقبل لها.. لقد قتلت. لم تعد قابلة للحياة.. الموت حدودها، الموت تخومها، الموت هو ما تبقى لها وفيها.

هذه النتيجة، يمكن قراءتها في يوميات «الثورة» السورية: لا أفق لها في الداخل: كرّ وفر بلا هوادة، قتل وقتل مضاد، قصف وقصف مضاد، مجزرة ومجزرة مضادة، تختلف النسب فقط، والتفوق للنظام في هذا المضمار.

النظام يراكم الخسائر، وخسرت القضية التي كان يحميها، عندما احتمى بها… النظام خسر معاركه كلها، وهو لا ينفك يكررها في المدن والأرياف، مرة تلو مرة، بطائل كارثي. هذا نظام يستميت للبقاء. بات مميتاً وميتاً، بإعلان وفاة مؤجل.. نظام الأسد لا مستقبل له، حتى إذا هزم المعارضة وقتل «الثورة». سوريا، مع هذا النظام، غير قابلة للحياة، ولو استقر له الحكم بعد «خراب البصرة» الشامية.

الرأي الغالب عالميا: النظام أمره محسوم. فمن يحكم سوريا بعد بلوغ نهاية النفق؟ لا أحد البتة، لبنان أنموذج. العراق ثانيا، لقد خـسرت فلسطين في سوريا، بخسارة النظام في حراسة القضية. وخسرت المعارضة ثورتها من أجل الحرية والعدالة والديموقراطية والكرامة والمسـاواة. الخسران هو رصيد المعارضة. قتالها، هو دفاع عن النفس، وحماية للمقاتلين. فمن يحق له ان يأخذ الشعب السوري رهينة عبثية، ويكلفه ثمنا باهظاً بلا أمل، يكلفه موتاً بلا قيامة. التضحية المجانية جريمة، الناس ليسوا نعاجاً للذبح.

انعدام الأفق، ديكتاتورية لا طاقة لأحد على مواجهتها وهزيمتها. عندما عدد نعوم تشومسكي الديكتاتوريات التي برزت في القرن العشرين، سمّى الستالينية والفاشية وانعدام الأفق، وفي ظل انعدام الأفق، يصير النضال عبثياً، وجر البلاد إلى المزيد من العنف، يحوّل المجتمع إلى ذبيحة، يقتل فيها الأخ أخاه، إن كان من غير ملته أو عرقه أو طائفته أو منطقته.

هل ما زال مسموحاً أخذ السوريين إلى التهجير والتعذيب والاقتلاع والنفي والموت، دفاعاً عن مستحيلين: مستحيل المعارضة ومستحيل النظام؟

لن ينتصر أحد. الثورة انتهت والنظام منته. هكذا شاء القدر العسكري المزدوج. عسكرة الثورة في مواجهة العسكرة المستدامة للنظام، منذ نشأته. هذه الحتمية، ليست أبدية. هي حتمية مؤقتة، أنتجتها الشهور الدامية التي بلغت الثمانية عشر شهراً، والتي قد تجرجر حتى شهور تتناسل بلا توقف. العالم عاجز عن إيجاد حل. أميركا وروسيا على ضفتي الصراع. الاقليم متورط في القتال، فلا حل يُرتجى منه. الهيئات الدولية معطوبة بالانقسام الدولي. «الفسطاطان» السوريان، لا يلتقيان…

بل أكثر من ذلك. ما زال الدفع إلى المزيد من القتال على قدم وساق. روسيا وإيران مع النظام إلى النهاية. السعودية وقطر وتركيا، مع دعم المعارضة لمنع هزيمتها مهما كلف ذلك من نفط عربي ودم سوري…

ألا يجدر بأحد أن يقول: كفى.

سوريا، ليست حالة خاصة. لها خصوصية ولكن حربها متصلة بأوجه شبه كثيرة مع لبنان والعراق.

في لبنان، رفعت شعارات القوى كافة، وكانت شعارات مبررة وبراقة لأصحابها: حماية لبنان، سيادة البلد واستقلاله. الحفاظ على السلطة وهيبة الدولة، منع الفلسطينيين من انتقاص السيادة، وقف النفوذ السوفياتي ومحاربة اليسار المحلي والاقليمي… تلك كانت قضايا الجبهة اللبنانية، التي ضمت «الكتائب» و«الأحرار» و«حراس الأرز» و«القوات» والشخصيات السياسية المسيحية والرهبانية الكسليكية… فماذا بقي منها، بعد حرب السنتين؟ واستمرت الحرب ثلاثة عشر عاماً، بقضايا وشعارات مستأجرة وعبثية، انتهت إلى سقوط لبنان نهائياً.

شعارات الحركة الوطنية كانت أكثر جاذبية وحداثة: إلغاء الطائفية السياسية، المشاركة في السلطة، منع المارونية السياسية من احتكار الدولة ومؤسساتها، دعم المقاومة الفلسطينية، تشريع الأرض اللبنانية للسلاح الفلسطيني، داخل المخيمات وخارجها… وانتهى كل ذلك، ولم يبق منه شيء.

العالم كله اشترك في الحروب اللبنانية العبثية… الدول العربية، مالاً ورجالاً وسلاحاً، حلف شمال الأطلسي، المارينز، قوات الردع العربية، القوات السورية، المنظمات الفلسطينية… إلى جانب سلاح الميليشيات التي فرّخت في لبنان، كما تفرخ التنظيمات في سوريا، بأسماء لا حصر لها ومرجعيات لا عد لها.

ماذا بقي من هذه الشعارات؟

لقد سقط لبنان برمّته. عرف حروب الجميع ضد الجميع. تهجير، اقتلاع، نفي، تدمير، قتل، خطف، سحل، قصف، اغتيالات، سيارات مفخخة… حتى القادة الذين باشروا الحرب، قتلوا، ومن نجا منهم، كان قد تعرض لمحاولة اغتيال.

كانت النتيجة أن تم تدمير المجتمع. وعندما يدمر المجتمع، تصبح الدولة غير صالحة لأن تحكم من أبنائها. لذلك انتهى لبنان، بعد تدمير المجتمع، وفرزه إلى قوى طائفية، بذخيرة إقليمية دولية، إلى وصاية عربية ثلاثية، انتهى إلى وصاية سورية، برضى أميركي، ولم يتمكن لبنان من حكم نفسه بنفسه حتى اللحظة. فبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وانسحاب الوصي السوري، أدار شؤون الدولة الثنائي الأميركي الفرنسي، فيلتمان وايمييه. وبعد ذلك بات عصياً على الحكم. والحكومة الراهنة اليوم، محكومة بالبقاء، لأن سقوطها يعني سقوط لبنان في الفوضى.

لم يدمّر النظام في لبنان. لم تدمر السلطة. لم تدمر الدولة. هذه أصيبت بشظايا اقتضت تحسينات في الطائف. ما دمرته الحروب اللبنانية، هو المجتمع اللبناني. الذي بات اليوم، قبائل وطوائف ومذاهب، تتناحر في نفق منعدم الأفق.

العراق، لم يشذ عن القاعدة، دمرته البربرية الديكتاتورية، ثم استكملت تدميره كدولة وجيش ومؤسسات وقدرة، القوات الأميركية الغازية، ونتج من سقوط الديكتاتورية، تدمير المجتمع، بأيدي أبنائه، فاندلع المجتمع طوائف وأقواماً، ولما يهدأ بعد… العراق اليوم بحاجة كي يستقر حكماً وسلطة وأمناً إلى وحدة مجتمعه.

سوريا على حافة فقدان شعاراتها… والدخول في مرحلة تفتيت المجتمع. من سيحكم سوريا بعد انتهاء القتال؟

لا أحد.

السلاح المنتشر في أيدي قوى المعارضة، من يلمه؟ من يجمعه؟ أي سلطة سيرضى عنها المسلحون؟ هل سيحكمه «الاخوان»؟ ما حصة الآخرين، وهم مسلحون ومنظمون؟ هل من أفق لقيام حكم بالوفاق؟ لا دليل على ذلك. والبرهان صراعات «المجلس الوطني»، وقوى الأمر الواقع.

هل يستطيع النظام أن يحكم وحده؟ مستحيل! مع من؟ لا أحد!

لذا… وجب على من يعنيهم الأمر، أن لا يسألوا كيف ننتصر، بل كيف ننسحب، لإنقاذ سوريا. أو ما ومن تبقى منها.

قد لا يسأل أحد هذا السؤال… لذا، سوريا ذاهبة إلى المحال، إلا إذا حدثت معجزة، أو كان كل هذا الكلام الوارد أعلاه، أضغاث كوابيس، لا أكثر.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى