صفحات الرأي

الإعلام الاجتماعي… و”تهديد” الحقيقة


أمبرتو إيكو

خلال الشهر السابق، وردت مئات التقارير الإخبارية على شبكة الإنترنت حول وفاة الكاتب الكولومبي جابريال جارسيا ماركيز المزعومة، وقد ذكرت بعض هذه المصادر حتى أن أول إعلان عن وفاته صدر عن حسابي الخاص في “تويتر”.

طبعاً، لم يمضِ وقت طويل قبل أن تكتشف المصادر ذاتها – وغيرها التي تضم بعض أكثر الوسائل الإعلامية الجديرة بالثقة – وتورد أنني لست في الواقع مسجَّلاً في “تويتر”، وأن أحدهم كان يرسل “تغريدات” مستخدماً اسمي عبر هذا الموقع.

وعلى الرغم من أن بعض الأغبياء – الذين التقطوا أول خبر من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التأكد منه – واصلوا الوعظ بشأن دعابتي المفترضة (تعلمون كيف نكون أحياناً نحن الكتاب، بصداماتنا وخصوماتنا الحادة)، كشفت تقارير لاحقة أن عدة حسابات “تويتر” تحمل اسمي كانت قد فُتحت من دون علمي.

وتجدر الملاحظة أن هذا الأمر ليس استثنائياً إذ يمكنكم أن تسجّلوا أنفسكم على العديد من المواقع الإلكترونية باسم “ليوناردو دا فينشي” من دون أن يردعكم أحد عن فعل ذلك. وبالتالي، بإمكانكم أن تتخيَّلوا ماذا يحصل عند استخدام أسماء الكتاب المعاصرين. في هذه الحالة بالذات، اعتبر البعض أن صاحب الإشاعة الكاذبة كان تومّازو دي بينيديتّي، مبتكر العديد من الخدع المماثلة، فهو يعدّ المقالب ليُظهر تحديداً، كما أفصح عنه ذات مرة لصحيفة “ذي جارديان”، أن “وسائل الإعلام الاجتماعي هي أكثر مصادر المعلومات التي يتعذَّر التحقُّق منها في العالم”.

ولا شك أن الدليل قد أقيم على حقيقة الأمر منذ فترة طويلة، إذ يكفينا التفكير بهذا الشخص البسيط النموذجي الذي يقع في غرام فتاة شابة جميلة من خلال مراسلات على الإنترنت، ليكتشف عند لقائها أنها ليست سوى موظفة جمارك متقاعدة مسنّة مصابة بحالة سيئة من داء القوباء الجلدي، أو حتى أسوأ من ذلك، حين يستخدم الشاذّ الذي يستغل الأطفال جنسياً، هوية زائفة على شبكة الإنترنت ليوقع في شباكه قاصراً ساذجاً ينال ثقته.

كما أن حادثة “تويتر” هذه أعادت إلى ذاكرتي ما حصل في أواخر ستينيات القرن الفائت– قبل ظهور تكنولوجيا الرسائل الإلكترونية والفاكس – حين أرسل أحدهم عبر البريد مقالاً إلى الصحيفة الإيطالية “كورييرا ديلا سيرا” يحمل توقيع منتج الأفلام “بيير باولو بازوليني”، تم نشر المقال ليتحوَّل إلى فضيحة كبرى حيث إنه كان زائفاً ولا يتعدى كونه مجرد دعابة سمجة لم يعلم شيئاً عنها بازوليني بنفسه. وجاء ردّ الفعل الأول بموجة من الذعر: من الآن فصاعداً، كيف تستطيع أي صحيفة التأكد من أن أي مقال مكتوب، إن لم تتسلمه شخصياً من صاحبه، كان مصدره فعلياً الكاتب الذي يرد اسمه عليه؟

لقد كتبتُ آنذاك مقالاً أطمئن فيه قرائي أنه ليس عليهم خشية أي شيء، إذ أن المجتمع قد يتقبَّل وجود الكاذبين والتزييف، ولكنه يرتكز على اتفاق أساسي مشترك مفاده أن الناس سيواصلون عموماً قول الحقيقة.

وبخلاف ذلك، سيستحيل علينا أن نستقلّ أي قطار، لأننا لن ندرك إن كانت جداول السكك الحديدية مليئة بالأكاذيب. وحين سنتصل برجال الإطفاء ليهرعوا إلى إخماد حريق في منزلنا، قد يشتبهون بأننا نعدّ مقلباً لهم ويقررون عدم المجيء. قد نتحاشى إيداع أموالنا في المصرف، خشية أن يكون مكاناً وهمياً هدفه استدراجنا إلى فخ (أشبه بنادي القمار في فيلم “اللدغة” The Sting). قد نجد أن طبيبنا “حاز” على شهادته في أحد البلدان التي يمكن شراء الشهادات فيها، أو أن أمّنا كذبت علينا حين قالت إننا وُلدنا من رحمها.

وكما كتبتُ في حينه، يدرك المجتمع تمام الإدراك أن الالتزام المتبادل بقول الحقيقة هو عنصر أساسي لكل إنسان، وأن افتقاده سيؤدي إلى ضياع الجميع. ولهذا السبب بالذات، يمكن إعداد الخدع والمقالب الشبيهة بمقال السينمائي “بازوليني” الزائف مرة واحدة، ليتوقف الناس عن ذلك الأمر لاحقاً، انطلاقاً من غريزة اجتماعية نوعاً ما. وهذا ما حصل حقاً على أرض الواقع.

أما اليوم، وفي عصر الإنترنت، أصبحنا نشهد قبولاً واسع النطاق للتواصل من خلال ادعاءات كاذبة وواهية، وبات الناس غير جديرين بالثقة أكثر من أي وقت مضى. يكفي أن موقعيْ “تويتر” و”فيسبوك” أصبحا حافلين بحشد كبير من السياسيين والشخصيات العامة الأخرى التي اعتدنا الارتياب منها.

ولكن مع مرور الوقت، حتى الأشخاص الذين يشعرون بالوَحْدة ويلجأون إلى الإنترنت لتلبية حاجاتهم المحتّمة للتواصل البشري سيدركون أنهم يعيشون في عالم مليء بالشبهات، وسيبدأون بالتشكيك بكل من يحيط بهم. قد يكون الأمر أشبه بالعيش في عالم خيالي فكاهي، حيث يتعيَّن على المرء أن يكون مستعداً لاحتمال أن يظهر، وفي أي وقت من الأوقات، أحد معارفه الجديدة في مظهر الشرير الشيطاني.

أومبرتو إيكو

روائي إيطالي مؤلف رواية “اسم الوردة”

ينشر بترتيب مع خدمة “نيويورك تايمز”

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى