صفحات سوريةعبدالناصر العايد

استراتيجية أميركية جديدة في المنطقة/ عبد الناصر العايد *

قد لا تكون التحركات الأميركية الأخيرة باتجاه طهران مجرد مناورات سياسية محدودة تتعلق بالقضية السورية مباشرة؛ فهي قد تكتنف تغيرات استراتيجية جديدة نشأت على خلفية الصراع على سورية، والذي كشف عن ضعف أميركي على الصعيد العالمي تبدى من خلال تحدي روسيا والصين لها في ما يخص القضية السورية ووقوفهما متحدتين ضدها بقوة؛ الأمر الذي يهدد موقع الولايات المتحدة الأميركية كقطب أوحد، ومصالحها على صعيد الكوكب.

فوقوف الصين وروسيا وثباتهما، في وجه أميركا وأوروبا في مجلس الأمن واستخدام الفيتو المزدوج مرتين، كان بمثابة إلقاء قفاز التحدي على الإدارة الأميركية الحالية، التي على رغم ما يبديه رئيسها أوباما من رخاوة، إلا أنها ليست رهينة شخصيته بالإطلاق من ناحية، ولديها من الوسائل غير العسكرية بما يكفي لتحقيق مصالحها من ناحية أخرى، فعلى سبيل المثال: يمكن لتحرك واسع باتجاه إرضاء إيران واستقطابها إلى صف الولايات المتحدة أن يقلب الطاولة بوجه كل الخصمين الكبيرين.

تشكل إيران حجر سنمار للمشروع الصيني – الروسي الصاعد بقوة، فهذه الدولة الغنية بالنفط، والتي تكاد تصبح ممثلة الشيعة في العالم كما خطط لها الخميني عندما قام بثورته، هي بالنسبة لروسيا أكثر من دجاجة تبيض ذهباً كلما ضغط عليها الغرب، فهي أيضاً صمام أمان للحدود الروسية الجنوبية ضد الخطر الإسلامي الشيعي السائد هناك، وهي أيضاً عرابة النفوذ الروسي في العالم العربي من سورية إلى العراق إلى لبنان، ودافعة أثمانه وكلفه، وبفقده لا تفقد روسيا شريكاً اقتصادياً مهماً وحسب، بل تصبح مكشوفة الظهر من الناحية الجيو ستراتيجية، من حدودها الجنوبية مع الدول الشيعية المرتبطة بإيران، امتداداً إلى أفغانستان شرقاً، وإلى العراق وسورية في العمق. وحل الولايات المتحدة هناك يعزل روسيا عن أبرز مناطق نفوذها، ويجعلها محاصرة بالتهديدات والأخطار.

أما الصين التي تشكل الخطر الاقتصادي الأكثر تهديداً للولايات المتحدة الأميركية، والتي أصبحت بفضل وتيرة الإنتاج العالية ثاني أكبر اقتصاد في العالم وتتقدم لتحل أولاً، وهي أيضاً وبسبب ذلك أضحت المستورد الأول للنفط في العالم، وتعتمد على كل من إيران والسعودية في تأمينه، ووصول النفوذ الأميركي إلى إيران التي طالما استخدمت النفط كسلاح، يمكنه ليس فقط أن يهزَّ الاقتصاد الصيني، بل يشجع فرقاء آخرين، مثل السعودية، على استثمار هذه الورقة، وابتزاز الصين سياسياً؛ الأمر الذي سيؤدي إلى وهن قوتها إلى درجة بعيدة.

ولكن ما هي المغريات التي يمكن لأميركا والغرب أن تقدمها لإيران، لتتجاوز هذه الأخيرة عقبة الأيديولوجيا الكأداء، التي وضعت منذ أيام الخميني فيما يتعلق بالعلاقة مع الشيطان الأكبر، أي الولايات المتحدة الأميركية؟!.

يبدو أن المغريات كثيرة وأكبر من أن تقاوم، فإيران اليوم رغم كل ما تستثمره في علاقتها مع روسيا والصين هي في أضعف وضعية لها منذ عقود؛ إذ إنها على وشك أن تفقد النظام السوري، سندها الأهم في المنطقة، والذي لا يعوضه استيلاؤها على العراق، أما على الصعيد الاقتصادي فهي في الحضيض أيضاً؛ إذ إنها تنتج ثلث ما تستطيع إنتاجه من النفط بسبب العقوبات المفروضة عليها، وتعاني بطالة تبلغ الثلاثين في المئة تنذر بانفجار اجتماعي، وتخضع بشكل يومي لابتزاز حليفيها الروسي والصيني، والطلبات المتزايدة للنظام السوري الذي تموله منذ ثلاث سنوات في حربه ضد الشعب ولا يعرف أحد متى تنتهي، ناهيك عن متطلبات إدامة النفوذ في لبنان والعراق وسواهما.

الحلم الخميني في خطر، فهو لم يفلح في انتزاع قنبلته النووية الحامية، ولا يبدو أنه سيتمكن من تصنيعها وسط كل هذه الظروف السلبية والممانعة الغربية والإسرائيلية والعربية الشديدة، بخاصة بعد استخدام حليفه السوري سلاح الدمار الشامل وما أثاره ذلك من مخاوف جديدة بخصوص سلاحها النووي؛ ولا هو استطاع أن يكون قوة اقتصادية أو ينجز ثورة صناعية مستقلة تدعم طموحات قادة نظامه لجعل إيران قوة عالمية تستند إلى نفوذ إقليمي يتمثل في رص صفوف الشيعة في العالم من خلفها.

وتبدو اللحظة مواتية جداً للإدارة الأميركية لاقتناص نصر تاريخي على الصعيد الدولي، قاوم أوباما كثيراً إغراء تحقيقه من خلال القوة العسكرية. فترويض إيران، ولجم الدب الروسي، وشل السلحفاة الصينية الدؤوبة، ووضع منبع رئيسي آخر للطاقة في العالم تحت نفوذها، واستعادة زمام المبادرة في منطقة الشرق الأوسط، واستخدام تكتيكات المفاضلة بين المتناحرين للسيطرة عليهم جميعاً، كل ذلك متاح الآن ولن يكلفها سوى بعض المناورات الديبلوماسية لتبرير رفع العقوبات عن إيران «الجديدة»، ومساعدتها في بناء برنامج نووي سلمي بإشراف دولي، أي ضمنياً برعاية أميركية، من أجل ما سيسمى خير الشعب الإيراني الطيب ومصلحته، نازعة هذه الورقة من يد روسيا.

أما بشأن القضايا الخلافية بين إيران وحلفاء أميركا في المنطقة، فإنها ستحلُّ بالتفاهم و»الضمانات» الأميركية، سواء في ما يتعلق بالصراع على طرفي الخليج العربي، وصولاً إلى تسوية ممكنة في سورية، لا غالب فيها ولا مغلوب، تُمنح إيران بموجبها دور الضامن والحامي للطائفتين العلوية والشيعية، فلا تخرج بذلك من الملعب السوري، أو يهدد نفوذها الذي رسخه حزب الله في لبنان، على أن يستمر النزاع البازغ على المحور السني- الشيعي، من الخليج إلى مصر إلى سورية ولبنان والعراق وتركيا وإيران، بصيغة استثمار أميركي طويل الأمد ومسيطر عليه.

* كاتب سوري.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى