صفحات العالم

مقالات تناولت القمة العربية وتأثيرها على المسألة السورية

الكويت: ما أشبه قمة اليوم بقمة البارحة!/ عبد الرحمن الراشد

قبل خمس سنوات، استعرت معركة المحاور، نتيجة التجاذب السعودي – المصري من جانب، والقطري – السوري من جانب آخر. واستباقا لقمة الكويت، أصرت الدوحة على أن تعقد قمة عربية سياسية منافسة، بدعوى دعم الممانعة والمقاومة في غزة. وانطلق سباقان على قمتين، تفصل بينهما فقط بضعة أيام، وبين عاصمتين مضيفتين في نفس الحي الخليجي. معظم الدول العربية وجدت أن قمة الدوحة صممت لتخريب قمة الكويت التي ستحل بعد أيام. على أي حال، قصة القمتين طويلة، أختصرها بالقول إنه حضر قمة الدوحة العربية ستة زعماء فقط معظمهم أشرار المنطقة.. رئيس سوريا بشار الأسد، وعمر البشير رئيس السودان، وانقلابي موريتانيا الجنرال ولد عبد العزيز، وكانت الصدمة أكبر بدعوة إيران! فشلت الدوحة في تحقيق النصاب، والتأمت القمة كندوة تلفزيونية.

أما في الكويت، فقد كانت القمة بكامل نجومها، وجاء الجميع متحفزا لمشاهدة واحدة من أهم المعارك السياسية في تلك الفترة. المفاجأة تجلت في خطاب العاهل السعودي، الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي عرض المصالحة على الأسد والقذافي والبقية، بدل المواجهة، في سبيل إنهاء الخلافات. وجاء ذلك مناقضا لما تحدث به الحليف الرئيس المصري حسني مبارك الذي حذر الأسد من التمادي. لتفعيل المبادرة السعودية انتقل أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد مع خمسة قادة إلى فيللا الضيافة، حيث الملك عبد الله، لإتمام المصالحة، بينهم الأسد وأمير قطر. لكن ذهب مسعى الملك مع الريح، بعد بضعة أسابيع، حيث استمر الأسد وحلفاؤه في ارتكاب المزيد من المشاكل في لبنان والمنطقة.

قمة الكويت هذه، تعقد أيضا في سماء ملبدة بسحب من الخلافات، أعظم من تلك التي غطت سماء قمة الكويت الماضية. والحقيقة، نحن لا نتوقع الكثير منها، لأن قبول الدعوات لا يكفي لإنجاح الحفلة، بل لا بد من النية الصادقة والاستعداد للتضحية.. فهل العرب مستعدون لمواجهة المذبحة المستمرة في سوريا؟ هل قطر مستعدة للتخلي عن سياسة عقد ونصف العقد من تمويل الفوضى؟ هل حكومة المالكي مستعدة للانخراط في منظومة الاعتدال، أم الانحراف أكثر باتجاه إيران؟

المعارك لا تزال محتدمة، لذا أستبعد كثيرا أن تحدث مفاجآت في الكويت، بخلاف قمتها في عام 2009، عندما قرأ الملك عبد الله خطابه معلنا تقديم تراجعات مهمة في صالح الجميع. ما الذي يمكن أن يحدث هذه المرة؟ لن نسمع رسالة من الأسد معلنا خروجه من الحكم ووقف المذبحة السورية. ومن المستبعد أن تتخلى الدوحة عن دعمها للجماعات المضادة للسعودية والإمارات والبحرين ومصر واليمن، وتفضيل جماعة ضد أخرى في تونس وليبيا وغيرهما.

إن لم تضئ أنوار الكويت أجواء القمة هذه المرة، فلا بد أن يأتي اليوم الذي تشرق فيه الشمس، وننتهي من هذه الأزمات التي لم تتوقف عن منطقتنا منذ قيام الدولة العربية الحديثة. ولا يبقى علينا سوى أن نتفاءل، أن يأتي هذا اليوم لتبذل الجهود وتنفق الأموال في سبيل تنمية المنطقة والارتقاء بها، وإسدال الستار على مسرح الأزمات.

الشرق الأوسط

وقف القمم العربية… حتى إشعار آخر/ جمال خاشقجي

غطى «بيان الكويت»، الذي اختتمت به القمة العربية الأخيرة، كل ما يمكن الاتفاق عليه في عالم العرب، من الدعوة إلى تحرير جزر الإمارات الثلاث التي تحتلها إيران، إلى تحرير جزيرة مايوت القمرية التي تحتلها فرنسا، ولكنه لم يهدد ولم يتوعد، ولم يلزم أحداً باتخاذ أي إجراء لتحقيق أي من المطالبات التي أحصيتها في 18 مطلباً قابلة للزيادة قليلاً أو النقصان بحسب قراءة المتلقي، بدا البيان وكأن مقرره جال في قاعة القمة الأنيقة وطلب من كل وفد أن يعطيه ما عنده من مطالب فصاغها في بيان واحد بعدما استبعد ما يمكن أن يؤدي إلى خلاف بين الإخوة والأشقاء وما أكثر ذلك.

المهم أن تنجح القمة في ذاتها لا أن ينجح العرب، ذلك أن القمة ومن اجتمع هناك يعلمون أن هذا مستحيل، بل إن عدم حصول خلافات أو مواجهات كلامية في حد ذاته نجاح، فالجميع يعلم أن ثمة اختلافاً كبيراً بين الدول والزعماء، وقد رسمت خطوط تماس جديدة، تختلف عن خطوط تماس الستينات التي قسّمت العرب بين ملكيات وجمهوريات، أو بحسب تسمية الثوار «قوى تقدمية وأخرى رجعية». وفي السبعينات والثمانينات انقسموا حول «السلام مع إسرائيل»، فكانت جبهة الرفض في مواجهة قوى الاعتدال. وفي العشرية الأولى من هذا القرن حلّ معسكر الممانعة محل جبهة الرفض، واستمر هذا العبث حتى حلّ الربيع العربي، فاختلطت المعسكرات أكثر ولم تعد تبين، فؤجلت قمة ثم استؤنفت مسيرة «العمل العربي المشترك» ببعض التفاؤل، فدخلت إلى أروقتها مصطلحات الإصلاح، والمشاركة الشعبية، وتطلعات الشعوب والشباب، وحقوق الإنسان، والعمل والتنمية، ثم انتكس الربيع العربي، وعاد البعض القهقرى، فاختلطت خطوط التماس مرة أخرى، ولم يعد هناك معسكران بل معسكرات عدة، وزاد عدد الصامتين واللامبالين الذين ينادون سراً «نفسي… نفسي»، فهم يعلمون أن ما يحصل ما هو إلا مرحلة انتقالية نحو عالم مختلف لا يعلمون هل يكون خيراً أم شراً؟

هذه المرة نجحت الكويت بحكمتها في أن تمرر القمة بأمان، فهل تستطيع مصر أن تمررها بأمان العام المقبل؟ وهي مقبلة على قيادة جديدة وأعوام صعبة باعتراف رئيسها القادم الذي لم يفز بعد بالانتخابات ولكنه فائز بها بالتأكيد!

لماذا نجح الاتحاد الأوروبي في المضي حثيثاً نحو «العمل الأوروبي المشترك» ونعجز نحن عن ذلك؟ المقاربة غير عادلة، ولكن يمكن حين إجرائها أن نسبر أسباب العجز العربي في بناء منظومة دائمة مستمرة للعمل العربي المشترك، هذا المصطلح الذي فرغ من محتواه، على رغم أنه لا يغيب عن كل بيانات القمم العربية، وتصريحات مسؤولي الجامعة العربية.

دول الاتحاد الأوروبي بنت بنية فلسفية وقانونية تحتية مشتركة، ووضعت معايير للاتحاد لا تقوم على الجغرافيا، ولا على قومية أوروبية، وإنما على التشابه بل ربما التطابق في مسألة نظام الحكم الذي هو الديموقراطية، والتبادل السلمي للسلطة، وحقوق الإنسان، والقضاء العادل، ولم تقبل أيٌّ من دول الاتحاد الـ28 فيه إلا بعد تحقيق الحد المقبول منها، بل شكلت برلماناً حقيقياً يجتمع بشكل يومي يعدّ جهة تشريعية ملزمة للجميع، وله أن يراجع تشريعات كل دولة، وثمة محكمة أوروبية لها أن تراجع التشريعات والحريات في الدول الأعضاء ويمكن التقاضي عندها، لقد كان للاتحاد الأوروبي ومعاييره الفضل في رفع منسوب الحريات والحقوق في تركيا بعد وصول حزب العدالة والتنمية للحكم فيها عام 2002، ويعتقد على نطاق واسع أن رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان استخدم ورقة الانضمام للاتحاد – الذي هو مطلب شعبي في بلاده لما فيه من وعود بمزيد من الرخاء – في تدافعه مع الجيش الذي كان مهيمناً على الحياة السياسية بتوسيع رقعة الحريات وإصلاح القضاء وإلغاء كثير من المواد المقيّدة للحريات في الدستور، حتى أعاد الجيش في النهاية إلى ثكناته تحت ذريعة الاستجابة لشروط الانضمام للاتحاد الأوروبي.

هذه البنية «الفلسفية» المشتركة، هي التي مكّنت الأوروبيين من البناء عليها حتى حققوا أعظم إنجازاتهم عام 1993 باتفاق الاتحاد الأوروبي الذي ضمن حرية تنقل الأفراد، والسلع، والخدمات، ورأس المال، مع بقاء الدول وحدودها التي لم تعد سبباً للصراع، وأنظمة حكمها الخاصة، وجيوشها، وأحزابها السياسية، وضرائبها، وحافظ كل بلد على سياسته الخارجية «لم تتحمس ألمانيا مثلاً للتدخل في ليبيا عام 2011 ولكنها لم تمنعه»، ومع هذه الاختلافات وهذا التفرد يبقى دوماً حد أدنى مشترك في الالتزام بالحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان والعدالة.

هذه المفاهيم لم نتفق عليها بعد في عالمنا العربي، ونريد أن نقفز فوقها بأفكار نبيلة لتحقيق «عمل عربي مشترك» لا نستطيع تطبيقه على أرض الواقع، ولكن نرضي أنفسنا بعبارات فضفاضة حالمة. ولكن لم يعد ذلك مقبولاً للشعوب العربية التي بدأت بفضل الوعي وحرية الإعلام وقدرتها الجديدة على التعبير عن نفسها، تطمح إلى الأفضل، وتمارس انتقاداً للأوضاع القائمة، لم تعد الشعوب مستعدة أن تصفق للقادة وهم يدخلون متشابكي الأيدي إلى قاعة القمة، بل إنها ستصرخ فيهم، ماذا قدمتم لنا؟ أين هي حقوقنا، فحتى لا تصبح القمم العربية سبباً آخر للغضب والإحباط العربي، أجّلوها حتى ينتهي المخاض الثاني لعالم عربي آخر، يتطلع إلى فجر مشرق جديد.

* كاتب سعودي

الحياة

قمة البيت المتصدّع/ غسان شربل

شاءت الصدفة أن أصل الكويت آتياً من الأردن. والصدف مفيدة أحياناً. تساعدك في خفض توقعاتك المخفوضة أصلاً. فالصحافيون الذين درجوا على تغطية القمم العربية، خصوصاً في السنوات الأخيرة، يعرفون أن أبرز ما في هذه القمم هو التذكير باحتفاظ العرب بقدرتهم على الاجتماع تحت سقف واحد، على رغم تصدّع البيت العربي وتداعي جدرانه.

يساعدك النوم في عمان على تذكر الملفات التي يسلّم العرب بأنها تفوق قدرتهم على العلاج والاحتمال. يستعد الأردن للتعايش سنوات اضافية مع المأساة السورية التي تعده بمزيد من اللاجئين، فضلاً عن رياح التفكك التي تطلقها في الإقليم.

وقصة الأردن مع اللاجئين، قديمة ومحزنة. كلما نشبت حرب كان على البلد القليل الموارد أن يفتح أرضه وقلبه. استقبل فلسطينيين وخليجيين وعراقيين وسوريين.

مأساة اللاجئين ومعها دائماً هاجس الأمن. والقلق طبيعي. الأردن جار الأنبار وما يجري فيها حالياً ليس بسيطاً. لا يتعلق الأمر فقط بالحرب على «داعش»، بل أيضاً بتحول سوء التفاهم إلى حالة ثابتة في العلاقات بين المكونات.

يستعد الأردن أيضاً لاستقبال أمواج جديدة من اللاجئين السوريين وسط الكلام عن تصاعد محتمل للمواجهات في منطقة درعا. ويستعد في الوقت نفسه لدرء الأخطار التي يمكن أن تترتب على تقسيم سورية أو تقاسمها بين السلطة والمعارضة لسنوات، بسبب تعذر الحسم الكامل.

ولأنك جئت الى الأردن من لبنان، لا تستطيع تفادي الوقوع في المقارنات. في الأردن سلطة قادرة على القراءة الواقعية للأحداث، وكذلك على التحرك دولياً وإقليمياً للاحتماء من شراراتها. وفي الأردن مؤسسة عسكرية وأمنية متماسكة قادرة على مواجهة التهديدات. ويلمس زائر عمان ارتياحاً لدى الأردني العادي، لأن الربيع مر من دون أن تقع البلاد «في المشاهد السورية، أو المصرية أو الليبية». يتعارك الأردنيون تحت قبة البرلمان، لكنهم يتحاشون الوقوع في العراك الدموي في الشارع.

في المقابل في لبنان سلطة متصدعة تقف حائرة أمام الاستحقاقات المقتربة، فيما تواجه المؤسسات العسكرية والأمنية تدهوراً يفوق قدرتها على الحسم أو الاحتمال. وواضح أن رياح التفكك السوري أشد وطأة على لبنان منها على الأردن بسبب الاختلاف بين تركيبة كل من البلدين.

يمكن أن نضيف إلى ما تقدم الأخبار الوافدة من اليمن، واحتمال تصاعد المبارزة الداخلية والإقليمية على أراضيه، كما يمكن أن نضيف تزايد المؤشرات التي توحي بأن ليبيا تتجه الى الانفجار بمواطنيها وجيرانها. ويبقى الأهم أن رحلة عودة مصر إلى الاستقرار، قد تكون بطيئة وشاقة بعدما ألقى المتصارعون هناك بكل أوراقهم.

في عمان لا تستطيع إلا أن تتذكر الضغوط التي يتعرض لها الرئيس محمود عباس بسبب تلهف إدارة أوباما إلى تحقيق تقدم ما على المسار الفلسطيني – الإسرائيلي في موازاة تطلعها إلى تقدم على المسار الإيراني. وكل شيء يشير إلى أن واشنطن تطلب من عباس ما لا يستطيع قبوله أو احتماله.

في الطريق إلى الكويت، لا تستطيع أن تنسى السموم التي هبت على المشهد الدولي. يتصرف فلاديمير بوتين بمنطق القوة والثأر. تصرف في شبه جزيرة القرم كما تصرف جورج بوش في العراق، على رغم الفوارق بين الملفين. هذه المسألة ليست بسيطة وقد تضاعف التهاب الجروح النازفة في الشرق الأوسط.

ليس سراً أن العرب هم الطرف الأضعف في الإقليم، وأن المعارك تدور على أرضهم وداخل بيتهم. «الربيع العربي» وفر لـ «القاعدة» فرصة إعادة إطلاق برنامجه. والبرنامج الإيراني لم يتوقف أصلاً. خلخلت العواصف البيت العربي وصدعته. الأسابيع الماضية كشفت أيضاً حجم التشققات داخل البيت الخليجي.

في ظل هذه المشاهد تُعقَد القمة العربية. إنها قمة البيت المتصدّع. ليست قادرة على اجتراح الحلول. إنها تذكير بالقدرة على الاجتماع تحت سقف واحد، على رغم ما أصاب السقف والجدران. تذكير بحاجة العرب إلى يقظة عاجلة لحماية مصالحهم وحقوقهم ووجودهم.

الحياة

اعتذار من سايكس وبيكو وتعويل على أوباما وبوتين/ جورج سمعان

تُعقد القمة العربية في الكويت في مرحلة استثنائية تداعت فيها معظم العناصر التقليدية للنظام العربي. وتبدلت فيها أيضاً منظومة العلاقات والمصالح الإقليمية والدولية. ولم يعد مجدياً الاكتفاء بمقررات تقليدية في قضايا قديمة – جديدة. العواصف الضاربة في أرجاء المنطقة تحتم مواجهة التحديات والانخراط الكامل في كل الأزمات، وليس الهروب إلى أمام. تُعقد القمة في ظل تغييرات جوهرية تطاول جملة من القضايا التي ستخلف مآلاتها تأثيراً كبيراً في مستقبل المنطقة. فليس عادياً تراجع اهتمام الولايات المتحدة بالشرق الأوسط، في ظل مواجهة تتسع مع روسيا وتنذر بانبعاث أيام الحرب الباردة. وليس عادياً أن تتنامى قدرة إيران في ضوء التراجع العسكري الأميركي من أفغانستان بعد العراق، وتترسخ أقدامها لاعباً رئيسياً في رسم مستقبل سورية. ولاعباً رئيسياً في اليمن ولبنان. وليس عادياً أن تواصل رياح «الربيع العربي» عصفها هنا وهناك، فيما يسلك التغيير المنشود مسارات ومسالك قد تطول سنوات وسنوات قبل الخروج من حلقة الفوضى والعنف والاقتتال الأهلي والمذهبي والعرقي.

لعل أولى مهمات القمة، أو الجامعة أن تتدارك الأخـــطار التي تهدد بانهيار هذا البيت العربي الذي كـــاد أن يتحـــول بـــيوتاً متصارعة متناحرة تهدد ما بقي من جامع بين أهل المنطقة. وأن تنكب على تحديد العـــلاقة بين العوامل والعناصر الداخلية في كــــل دولها، والعوامل والعناصر الإقليمية والدولية التي تـــلعب دوراً رئيسياً في توجيه الأحداث والتطورات. وتسعى إلى دفع الرياح في اتجاه يخدم مصالح الخارج المعني بمسارات التغيير التي حملها ويحـــــملها «الربيع العربي». إن أداء دور فاعل في إدارة التداخل بين هذه العوامل سيحدد لمن الغــــلبة. فإما تـــصادم مبكر مع هذه المؤثرات، أو تــناغم وتفاهم لا بد منهما في ظل تشابك المصالح الدولية في منطقة استراتيجية كالمنطقة العربية.

في رأس العوامل التي ستترك آثارها على مستقبل المنطقة انتقال العلاقات الدولية إلى طور من التــــصادم بين الولايات المتحدة وروسيا، في ضوء ما يجري في أوكرانيا. الكرملين لن تقف طموحاته عـــند حدود القرم. وإذا كانت سورية لا تكفيه باباً واسعاً في قلب الشرق العربي، فإن موسكو لوحت في نزاعها مع أوروبا وأميركا اليوم باستخدام الملف النووي الإيراني ورقة كانت ولا تزال تلقي بظلها عــــلى أهل الخليج جميعاً. وما قد يضاعف أخطار هذا التــــحول الدولي مواصلة الإدارة الأميركية التركيز على المحيط الهادئ وبحر الصين، بعيداً من هموم الشرق الأوسط. هذا التغيير الاستراتيجي يستدعي من القادة العرب البحث في إعادة التموضع، وإعادة النظر في العلاقات الدولية. لطالما نادى أهل الجامعة من عقود بوجوب إقامة شبـكة علاقات ومصالح تتجاوز المقولة المأثورة أن كل الأوراق بيد واشـــنطن في المنطقة. أمامهم روسيا التي تعود إليهم من بابَي سورية وإيران. والصين على الأبواب أيضاً. حاضرة في معظم أفريقيا تقريباً. وفي كل جمهوريات آسيا الوسطى. وترتبط بعلاقات اقتصادية واسعة مع إيران. أما أوروبا التي عول العرب عليها طويلاً سعياً إلى توازن مع أميركا «لعل وعسى» تعينهم على حل قضية فلسطين، أثبتت في أزماتها الكثيرة أنها لا يمكنها الخروج من الفلك الأميركي.

يجيء هذا المعطى الدولي الجديد، فيما الحراك الذي يعصف بعدد من دول الجامعة طوى صفحة النظام العربي القديم برمته. ولم يصل التغيير إلى مبتغاه. بل تكاد الآمال به أن تتبدد، بفعل الصراعات والأزمات والنزعات الانفصالية وتنامي قوى الإرهاب التي خلفها ويخلفها «الربيع العربي». وغني عن القول إن الشباب العربي الذي ملأ الميادين والساحات يجد نفسه اليوم بين خيار العودة إلى صورة الماضي القريب من الأنظمة، أو خيار الرضوخ لهجوم «الإخوان» وغيرهم من القوى الإسلامية التي تتصارع للاستيلاء على السلطة وأنظمة الحكم. ولكن، على رغم ذلك لم تتوقف دينامية التغيير. بل هي تمعن في تفكيك العلاقات القديمة داخل المجتمعات الواحدة. ولا تبـــدو الصورة التي حملها «الربيع» وردية: «ثورتا» مـــصر أعادتا إحياء دور المؤسسة العسكرية، لكن «حنين» بعضهم إلى استنساخ تجارب سابقة وقديمة، قد لا يكون في محله. والذين خرجوا في «ثورتين» قد لا يتــــرددون في إشعال ثالثة. تبدل الشعب المصري. ولا شك في أن بقاء الانقسام الأهلي على حاله وتــــفاقم الأزمة الاقتصادية لا يشكلان تهديداً لمستقبل الوضع في هذا البلد فحسب، بل يشلان قدرته على استعادة دوره القيادي في الجامعة. ولا تكفي القوة العسكرية والبشرية من دون رافعة اقتصادية متينة تتيح للقاهرة أن تخرج لحماية الأمن العربي، كما في سابق الأيام. في الخليج بمواجهة إيران أو العراق، أو في بلاد الشام بمواجهة إيران وتركيا. أو في شمال أفريقيا لحماية ليبيا وتونس وغيرهما.

الصورة ليست وردية: النظام في دمشق قاوم ويقاوم محاولات التغيير أو الإصلاح على الأقل. ويخوض حرباً مع خصوم كثيرين. وتكاد سورية أن تفرغ من سكانها الذين ملأوا دول الجوار. وتحولت مرتعاً لقوى التشدد. والأخطر من ذلك، في غياب أي أفق لتسوية سياسية، يعجل اشتداد الحرب الأهلية في رسم حدود ثابتة لدويلة هنا ودويلة هناك. وكان العراق سبق إلى ما يشبه هذه الحال مع إعادة توليد نظام شمولي لم تفلح كل صور الديموقراطية في تغطية مآلاته وما يولد من نزاعات تهدد النسيج الوطني ووحدة البلاد. علماً أن بغداد جهدت لاستقبال القمة العربية قبل سنتين لتوكيد تحررها من آثار القوات الأميركية، وعودتها إلى حضن الجامعة. لكنها خرجت من عباءة أميركا إلى عباءة إيرانية أكثر ثقلاً دفعتها بعيداً من جيرانها، خصوصاً أهل الخليج. وتخوض حكومتها صراعاً دموياً مع المحافظات السنّية، ولا تعرف كيف تمارس سلطاتها المعدومة في كردستان. وتفتح حكومتها معركة مع السعودية وقطر والبحرين، فيما تصطف مع الجمهورية الإسلامية وسورية وبعض لبنان في حلف طهران وسياساتها.

ولم تكن نتائج الحراك في ليبيا واليمن أفضل حالاً. خلف حتى الآن صراعات جهوية وقبلية، ودينية بين حركات الإسلام السياسي. يتجاوز النزاع بين برقة في الشرق والأقاليم الغربية ليمتد إلى الجنوب ومناطق في الغرب تبدو فيها القبائل أو الحاضرة هي المرجع وليس الدولة المركزية في طرابلس التي أعلنت الحرب على الإرهاب في ثلاث مناطق هي بنغازي وسرت ودرنة. وهو ما سيصعد الصراع بين السلطة الانتقالية وأهالي هذه المناطق. وتجهد صنعاء لمنع انفصال الشمال فيما الحوثيون على أبوابها، والجنوب لم يوقف «حراكه» نحو الاستقلال. و «القاعدة» يواصل نشاطه بلا كلل… ناهيك عن السودان الذي بات سودانين ويتقدم في مسيرة التشظي، فيما النظام يحاول الترقيع هنا وهناك. مرة مع الداخل القريب ومرة مع الخارج. ويعاني عزلة دولية ونقمة من غالبية عربية بسبب العلاقة مع إيران والتسهيلات التي يقدمها إلى أسلحتها المتدفقة هنا وهناك. وسبقت فلسطين كل هؤلاء، تتنازعها سلطتان في غزة والضفة. ودفعها «ربيع» العرب إلى آخر السلم طعماً للمستوطنين الزاحفين على ما بقي من القدس والضفة الغربية.

أفضى «الربيع» حتى الآن إلى صورة غامضة لمستقبل وحدة الدولة العربية التي تتجه نحو مزيد من التفتت والانفصال في حمأة الصراع على السلطة بين مكونات طائفية ومذهبية وعرقية. وفي التناحر بين قوى الإسلام السياسي وتنامي ظاهرة إرهاب المتشددين في السباق إلى إمارة هنا أو هناك… على وقع حبل مشدود من التوتر المذهبي الواسع بين السنّة والشيعة. وكشف «الربيع» الساحات العربية أمام القوى الإقليمية والدولية لتصفية حساباتها وعقد صفقاتها. وساهم اختلاف بعض الحكومات في التعامل مع هذا «الربيع»، وحضور إيران الواسع في عدد من العواصم والنواحي العربية، في زعزعة ما بقي من تضامن بين العرب. وألحق ضربة بمجلس التعاون الخليجي الذي بات يحتاج إلى إعادة نظر في علاقات دوله في ما بينها قبل البحث في توحيد رؤيته لما يجري حوله، أو تنسيق السياسات بالحد الأدنى لئلا تزداد الهوة بين أعضائه.

أين القمة أو الجامعة من هذا الحــــراك الداخلــــي والخــــارجي الذي يقلـــــب مفاهيــــم وثقافات وأنظمة؟ أي شـــيء يبقــى من «الجامعة» التي هدفت منذ قيامها إلى توحيد الجهود العربية؟ البيت العربي الواحد الذي جهدت لبنائه سقفاً لحماية العرب وتعزيز لحضــورهم يتحول تدريجاً إلى بيت بغرف كثيرة لا رابط بينها. تتعدد أهواؤها تعدد أقلياتها ومذاهبها وإثـــنياتها. حتى بات المواطن العربي يترحم على اتفـــاق الســـيدين فرنسوا جورج بيكو ومارك سايكس. وربما كان عـــليه مستقبلاً الاعتذار عما ألحق بهما من نعوت وأوصاف! لن يفيد الجامعة وقمتها مواصلة التعويل على تبدل في سياسة الرئيس باراك أوباما الذي لا يملك ما يرد به على نظيره الروسي فلاديمير بوتين سوى الأمل بألا يقضم المزيد من أوكرانيا، ومواصلة التعاون في ملفي إيران وسورية، والذي لن يستطيع مرة ثانية إرغام بنيامين نتانياهو على وقف مستوطناته التي تكاد أن تبتلع ما بقي من القدس وأرض فلسطين. لن يفيد الجامعة وقمتها توسل المساعدة والتفهم من واشنطن أو موسكو أو انتظار تبدل الأحوال والسياسات في هذه العاصمة وتلك. ترميم جدران البيت أولوية لوقف تداعيه وسط حراك تتداخل فيه عوامل سياسية ودينية ومذهبية وإثنية وقبائلية وجهوية، وتتصارع فيه مصالح ومطامح لقوى إقليمية ودولية. سيهدر وقت طويل قبل أن تستعيد المنطقة استقرارها وسلمها، فهل ترقى الجامعة إلى مستوى التحدي؟

الحياة

ولو «معجزة» في قمة الكويت/ زهير قصيباتي

كان الحاضر الدائم في القمم العربية «ترتيب البيت العربي». بعد «الربيع» وثوراته وغليانه، بات المطلوب ترتيب غرف البيت… وفي قمة الكويت، قد يجوز القول إن المأساة السورية هي الحاضر الأكبر، بكل تداعياتها، خصوصاً لأن استمرارها لا يثبت فحسب قاعدة العجز العربي عن إخماد أي حريق، بل لأنه كذلك يقطّع ما بقي من خيوط الحد الأدنى من التضامن العربي وأي فاعلية له.

ليس متوقعاً أن تجد القمة حلاً وشيكاً لخلاف السعودية والإمارات والبحرين مع قطر التي تصر على سياستها، فيما تعتبر الدول الثلاث أن الدوحة ذهبت بعيداً في تغريدها خارج سرب مجلس التعاون، المنظومة الإقليمية العربية الوحيدة التي نجت من تداعيات نزاعات وحروب في المنطقة… وباتت اليوم في عين العاصفة. قد تفتح جهود الكويت على هامش القمة، ثغرةً في جدار أزمة تهدد مصير مجلس التعاون الخليجي، ووحدته، وهو القوة العربية الوحيدة التي تمتلك النفوذ الإقليمي والقدرة الاقتصادية على إنقاذ دول الربيع المحاصر معظمها بالفقر والاضطراب.

وإذا كان وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة بدا محبطاً في اجتماع وزراء الخارجية العرب عشية القمة، لأن «كل المسائل لم تناقش» خلال الاجتماع، حرصاً ربما على عدم إثارة أزمة جديدة تُضاف إلى عشرات المعضلات التي يفترض طرحها على القادة، فالحال أن الأزمة في مجلس التعاون هي الأكثر وطأة. وإذا استمرت، فلا مبالغة في القول إنها ستطيح معها ما بقي من جدران جامعة الدول العربية.

يمكن بداهة تصنيف قضايا القمة وملفاتها بين أزمات «تقليدية» لا تفارق جدول أعمال مؤتمرات القادة العرب، مثل السودان الذي بات سودانَيْن والصومال المنسي في تسونامي الفقر و «الإرهاب» والقرصنة… بل حتى مثل لبنان، رغم تبدّل الظروف وكابوس الحرب السورية على حدوده، وفي بقاعه وشماله، ونوافذ الإرهاب المشرّعة عليه، تجعل الدعم العربي لجيشه من قضايا الإجماع.

وأما فلسطين فحال مسار مفاوضاتها «السرية» يُسقِط في أيدي العرب، إلا الدعم المالي للسلطة. بنيامين نتانياهو دمّر المسار «الأميركي» علناً بدعوته الفلسطينيين الى شطب حق العودة، والأكيد أن لا الرئيس محمود عباس ولا سواه سيقبل بتجرّع هذه الكأس.

ماذا عن القضايا «الطارئة»؟ لم تعد الحرب السورية طارئة في بداية عامها الرابع، ولا الخلافات العربية- العربية على التعامل مع تمدد النفوذ الإيراني، فيما تصرّ دول على سياسة النوافذ المفتوحة مع طهران، وتميل أخرى الى التشدد بعدما اخترق ذاك النفوذ المنطقة من بواباتها العريضة. حتى الآن لا جواب عن طبيعة المخرج، ولا أفق لحل، بينما يتواصل العزف الإيراني على أوتار الاضطرابات والخلافات بين العرب.

وإن كان نتانياهو قدّم لأوباما «هدية» تفجير مسار المفاوضات مع الفلسطينيين، فالأرجح أنْ يصرّ الرئيس الأميركي على إنجاز اتفاق في الملف النووي الإيراني، الحاضر الغائب في قمة الكويت، ما دام السؤال الملحّ هو: أي ثمن ستدفعه المنطقة ترضية لطهران، يقدمها الأميركي على حساب العرب؟ ولعل ما يثير الفزع أن اضطراب المنطقة في ذروته سيُفقد دولها ما تبقى لها من مناعة، لصدّ الأطماع ورفض الخرائط التي تشطب أدوارها تباعاً.

لن يكون عقلانياً توقّع ولو «معجزة» واحدة من قمة الكويت، ويتمدد التيه العربي بين أميركي يزداد ضعفاً أمام إسرائيل، ويصبح أضعف مع إيران المنفتحة شهيتها على رسم حدود جديدة للعبة الإقليمية… وبين انهيارات «البيت العربي».

وأما مأساة الشعب السوري فلن تجد نهاية، لا مع غربٍ مذهولٍ بأطماع الروس وحمايتهم نظام دمشق، ولا مع مجتمع دولي ما زال يبرر عجزه بخبث الدُّب الروسي في مجلس الأمن الذي تحوَّل الى رهينة أخرس.

الحياة

قمة عربية واحدة/ حسام عيتاني

لا توجد معلومات دقيقة عن مستوى اهتمام المواطنين العرب أو «الشارع العربي» باجتماعات القمة العربية، لكن يصح الاعتقاد أن بعضها يحظى بمتابعة شعبية أوسع من البعض الآخر تبعاً للقضايا المطروحة.

قمة الكويت قد لا تكون من الأكثر إثارة لفضول المتابعين. فالمشكلات التي تعالجها، وخصوصاً الحرب في سورية، سبق أن طرحت في اجتماع الدوحة العام الماضي. المواقف العربية ما زالت على حالها وعلى انقساماتها ولا يبدو في الأفق أن مؤسسة القمة العربية ستعالج الخلل البنيوي الذي يرافقها منذ انعقاد القمة أول مرة.

واحد من مظاهر الخلل تتمثل في التضارب الجدي بين مصالح العرب ورؤاهم إلى حاضرهم ومستقبلهم. الرطانة التي تتحدث عن القضايا المشتركة والتطلعات الجامعة والتكامل في المجالات كافة كمقدمة للوحدة الشاملة، لم تفلح في ستر التوجهات شديدة التباين بين العرب، ليس كزعماء وأنظمة على ما تردد دعاية شعبوية سطحية، بل بين المكونات الشعبية في كل بلد ومنطقة على امتداد هذه الرقعة الجغرافية المسماة «العالم العربي».

دعونا نأخذ مثلين حديثين. مثل اعتراض سلطنة عُمان قبل شهور على تعزيز مجلس التعاون الخليجي وإضفاء سمات سياسية واقتصادية ملموسة على آليات عمله. ومثل رفض ممثلي مصر في القمة منح مقعد سورية إلى المعارضة بقيادة الائتلاف الوطني. يقول المثل الأول إن المصالح والسياسات الوطنية تعلو دائماً تلك «الوحدوية». صحيح أن اعتراض عُمان جاء على خلفية خشيتها من تأثير الخطوة على علاقاتها المتينة مع إيران، إلا أن الصحيح أيضاً أن أي دولة خليجية ناهيك عن العربية كانت لتتخذ الموقف ذاته إذا شعرت أن تبدلاً إقليمياً ما سيطاول سياسات ترتكز عليها منظومة الأمن والحكم فيها. وهذا على نطاق خليجي هو أضيق من النطاق العربي العام.

أما المثل الثاني، أي اعتراض مصر على مشاركة «الائتلاف» السوري في القمة الحالية، فيرجع إلى حسابات داخلية في المقام الأول، على رغم التحالف الجديد بين السعودية المؤيدة تأييداً ظاهراً للثورة على بشار الأسد والحكم الانتقالي في مصر. ذلك أن القبول بـ «الائتلاف» في القمة يطرح من وجهة النظر المصرية موضوع الشرعية التي تشكل حساسية بالغة بعد أحداث الثالث من تموز (يوليو) الماضي والعلاقة مع تنظيم الإخوان المسلمين الممثل في الائتلاف. الحدود التي تقيمها الرياض بين موقفها من الإخوان وبين دعم الثورة السورية القاهرة تبنيها حالياً. هذا باختصار.

الأهم من ذلك، أن سلسلة خيبات الأمل المرافقة لكل القمم العربية ناجمة عن تصور مفرط في التفاؤل والإيجابية إلى العناصر التي تجمع العرب. وسيادة الخطاب الوحدوي بطبعته الأكثر شعبوية ما زالت تفضي إلى المزيد من الخيبات. فبدلاً من اعتبار القمة اجتماع عمل يركز على حفظ حد أدنى من الصلات والعلاقات والبحث عن سبل للتعاون البيني، ثمة من يتابع الترويج لفكرة أن القمم العربية مكلفة بالإتيان بما يعادل المعجزات في زمن الشحائح والقحط هذا.

وفي مرحلة انتقالية غنية بالتعقيدات وانتقال الاهتمام من الخارج إلى الداخل، على ما تدل حالة الإهمال والتجاهل التي تعاني منها القضية الفلسطينية على سبيل المثال والانقسام الذي تثيره الحالة السورية، لا مفر من التأكيد أن التاريخ يُصنع الآن خارج جدران قاعة القمة.

الحياة

الثورة السورية إلى أين؟/ حمد الماجد

هناك الكثير من المعطيات على الساحة السورية تستدعي التوقف والتأمل جيدا بغية تغيير التكتيك والخطط، فأميركا في عهد الديمقراطيين الذين لا يحبون السياسة القتالية وكلما أشعل الجمهوريون نارا للحرب أطفأها الديمقراطيون؛ نفضت يدها من الملف السوري غير عابئة بعشرات الألوف من القتلى ومئات الألوف من المصابين وملايين المهجرين، وكذلك غزلها المكشوف مع إيران، كل ذلك ألقى بظلاله على الأزمة السورية، وتركيا إردوغان، الند الأقوى لإيران وحليفه بشار، غارقة هذه الأيام في مشاكلها السياسية، ودول الثورات العربية أذهلها ما هي فيه عن الانشغال بغيرها حتى رأينا أثر هذه المتغيرات على القمة العربية في الكويت، التي لم تمنح مقعد سوريا الشاغر لثورتها الشعبية، فظل مقعد سوريا فارغا وكأن المؤتمر يريد أن يبقي الباب مواربا لعودة النظام الدموي، الذي قتل شعبه ودمر مقدراته كأنه يقاتل أرضا محتلة لا شعبا يحكمه، هذا ناهيك عن ساحة المعركة التي تشهد في بعض الأحايين انتصارات للنظام السوري أمام المقاومة الشعبية المفككة.

هذه المعطيات الجديدة جعلت من شبه المؤكد القول بأن مرحلة من الصراع في سوريا ستستمر مدة طويلة، ما لم تحدث تحولات كبيرة ومفاجئة في ميزان القوى، وعليه فإن تكتيك «المقاومة النوعية» مطلوب على حساب تكتيك «حشد أي أحد» ضد النظام، وهو التكتيك الذي جرى في أفغانستان وأظهر فشلا وتكلفة عالية في الأرواح والممتلكات بعد التحرير تجاوزت تكلفة التحرير نفسها بأرقام متضاعفة، تكتيك «المقاومة النوعية» يعني الشروع في تصفية وتنقية جبهات تحرير سوريا من المنظمات التي ثبت ضلوعها في التطرف فكرا والعنف أسلوبا في التفاهم، والمدة التي طالت لإسقاط النظام ليست شرا محضا، بل كانت كافية لتعرية عدد منها، فلم يعد من الحذر منها ومن خطورتها حكرا على الحكومات فحسب، بل دخل على الخط عدد من المحاضن الإسلامية والدعاة المحسوبون عليها، وهذا تطور لافت لم يكن مقبولا إبان تحرير أفغانستان، بل كان الذي ينبه إليه أثناء الجهد الأفغاني يتهم بالتخذيل وطعن الجهاد في الظهر.

كل الذي يخشاه الناس من مشاركة المقاتلين العرب، علاوة على التجاوزات الدموية التي ارتكبها بعض فصائلهم على الثرى السوري مما تقشعر لهوله الأبدان، هو عودة «بعضهم» حاملا عدوى التطرف والإرهاب، وعانت بعض الدول، ومنها السعودية، دوامة عنف ممنهج كما فعل المتأثرون بفكر «القاعدة» حين عادوا إلى بلدانهم، فقد زج بالألوف من الشباب الصغار في السجون لسنوات طويلة بسببهم، ناهيك عن الأضرار الكبيرة التي أصابت الدعوة الإسلامية والعمل الخيري، وكانت سببا في تشرد ألوف اليتامى والدعاة، بسبب القلق الكبير من تسرب هذه الأموال والتبرعات إلى حاملي التاءات الثلاث (تكفير تفسيق تفجير).

ولهذا، لم يكن غريبا ولا مفاجئا أن البرود ذاته يقع هذه الأيام تجاه مشاركة المقاتلين من الدول العربية في القتال من أجل إطاحة نظام الأسد، وتناقلت بعض المصادر أنباء عن تسلل مقاتلين عرب إلى البلدات التي تسكنها الطائفة العلوية لتفجير إحدى أسواقها، انتقاما من بشار الأسد أو حتى التجاوزات المخجلة التي ارتكبها بعضهم في إدارة المناطق المحررة، والتي شكلت ضربة موجعة في ظهر المقاومة المحترمة، وأعطت دعاية سيئة استغلها نظام بشار الماكر.

فلا بد من إسناد كل عمل حكومي أو شعبي يعزل هذه الفئة، التي تضر بحركة التحرير السورية وتضر ببلدانهم التي تسللوا منها.

الشرق الأوسط

عُنق العرب بعد القمّة/ زهير قصيباتي

بين ما حققته قمة الكويت إحياء عبارة «التضامن العربي» التي توارت منذ اختلط الربيع العربي وثوراته بالفوضى والاضطراب، وغياب السلم الاجتماعي في معظم أرجاء المنطقة، واشتدت الرياح المذهبية لتنكفئ كل دولة على أزمة تضعضع كيانات.

وإن كانت القمة جمعت كل ما هو متنافر في الخلافات العربية- العربية، فـ «إعلان الكويت» يسجّل خطوة متقدمة إذ يعترف بأن العبرة في التطبيق، حين يشدد على «المصالحة والشفافية في القول والفعل». وما تستبطنه هذه العبارة يضع مِلْحاً على جروح «انعدام الوزن» العربي الذي باغته «الربيع»، والرياح المذهبية قبله، ثم قفزة تيارات محسوبة على الإسلام السياسي، كانت ضحية الاستبداد، فباتت متهمة بالاستبداد والإرهاب.

في نظرة مبسّطة إلى ما درج العرب على تسميته تحديات، يمكن أن تستحضر «الذاكرة»(!) فقدان ثقة دول عربية كبرى بالأهداف الحقيقية التي تخفيها إدارة الرئيس باراك أوباما، منذ تقلّبت مواقفها وتردّدت وارتبكت مع عواصف التغيير، بدءاً من تونس إلى مصر واليمن وسورية، ولم تستثنِ سوى ديكتاتورية القذافي… لكنها مرة أخرى مثلما تَرَكَت النموذج العراقي يتخبط بالقتل والإرهاب والثارات المذهبية، لم تترك في ليبيا سوى صحارى السلاح تتسلل إليها نوازع الانفصال في المناطق، وتسرع إليها فروع «القاعدة».

ويكمل الكرملين ضياع الرؤية الأميركية، بإحياء أحلامه الامبراطورية، بدءاً من سورية حيث سهّل للنظام تجفيف شرايين الثورة، بذريعة صدّ «إرهاب الإسلاميين» المتشددين. وبين شرق تحفّزه المياه الدافئة، وغرب اعتاد اللحاق بعسكر أميركا وقوتها ومصالحها، حتى إذا «انكفأت» ضلّ الطريق وتشبّث بسياسة «دعهم يُقتلون بأيديهم»… اكتمل الحصار على العنق العربي مع إسرائيلي يشدّد حراسته لسجن فلسطيني كبير، ومع الوثبة الإيرانية لاقتسام تركة الرجل المريض.

كل ذلك ليس مدعاةً لليأس بعد «إعلان الكويت» إذا اقترنت الأقوال بالأفعال، لكنَّ السؤال هو كم مرّة اهتدت القمم العربية إلى الحلول، وبقيت الأقوال أقوالاً، وتمنيات نهار يمحوها الليل؟

لم يكن مفاجئاً ان تندد القمة العربية بمجازر النظام السوري، ولا أن تعتبر «الائتلاف الوطني» ممثلاً شرعياً للسوريين. مع ذلك، ومما يثير الاستغراب كما قال ولي العهد السعودي الأمير سلمان بن عبدالعزيز، ألاّ يُمنح مقعد سورية في القمة لـ «الائتلاف». وإذا كانت المسألة لا تزال محور خلاف بين العرب، رغم كل المآسي وبُحُور الدم، والاقتراب من اليأس الكامل إزاء المقاربات الدولية لما يُسمى الحل السياسي (الهيئة الانتقالية للحكم)… فأي أمل يبقى لمثل هذه التسوية، من دون دعم ما يطلبه «الائتلاف»؟ ألا تثير الدهشة دعوة بيان القمّة «الائتلاف» إلى حضور اجتماع مقبل للمجلس الوزاري للجامعة العربية، بعدما حُرِم من مقعد سورية خلال مؤتمر القادة؟

نصف المعادلة الاعتراف بـ «الائتلاف الوطني»، ولكن هل يترجم في مدن الكوارث وريفها في سورية، من دون التخلي عن سلبية المتفرّج التي استنزفت الثورة والمقاتلين، فباتَ كمن ينتظر إبادتهم؟ الحال أن لا شيء سيتبدّل في مشاهد المحنة الكبرى للعرب، إن لم يجدوا مخرجاً من «الحصار» الغربي المفروض على تسليح المعارضة.

لا أمر مفاجئاً في رفض القمة الاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية التي تعني شطب حق العودة للفلسطينيين. سوى ذلك، ما هو شائك يبقى تحت سقف الخلافات والنزاعات العربية- العربية الصامتة والصاخبة، ولعله يحتاج قمّة مفتوحة، تتعرف إلى مآل ما يسميه القادة «تطلعات الشعوب»، وتتلمّس آليات لتفكيك ألغام لا تُبقي تطلعات ولا كيانات.

هل من أجوبةٍ مثلاً، عن مفاهيم موحدة لطبيعة الخلاف على تحديد الإرهاب، وعلى مقاربة الإسلام السياسي، والمدى الذي يمكن فيه التعايش معه؟

هل مِن جواب يحدد مواصفاتٍ للاستبداد، ومعايير للحريات العامة، وحقوق المحكومين وواجبات الحاكم إزاءهم، وواجباتهم خصوصاً في نبذ ركب التخوين والتكفير لأنهما أقصر الطرق الى الخراب؟

هل يمكن العرب، عبر القمة، تحديد مفهوم لسلطة مارقة مع شعبها؟… تحصين المعتقدات بمنع الإتجار بها، وتحصين المجتمعات بالتخلي تدريجاً عن سلبية الصمت الذي يزرع بذور الحقد بين المواطن والدولة، كلما أخطأَت كفَّرها وكلما أخطأَ حمّلها وزره؟

هل الفيديرالية مقبولة في اليمن مرفوضة في ليبيا، ولماذا نخشاها؟… أليست الدولة العميقة أينما كانت تستقطب مواطنين «درجة أولى»، عددهم يناهز عشرات الملايين من العرب، وهل الحل بإقصائهم على طريقة استئصال «البعث» العراقي الذي انتهى الى نبذ طائفة؟

تلك نماذج من قضايا مستعصية، وستبقى عسيرة إن ظلت الدول العربية ومعها مؤسسة القمة، تخشى عواقب الاقتراب منها، لأن شجون «الربيع» ودماءه، تكفي وتفيض.

وهي تفيض حتماً، كلما طوَّع الكبار في مجلس الأمن أنظمة مارقة، لحماية مصالحهم، فتستمرئ اقتياد البشر قسراً… إلى الكارثة.

الحياة

سريالية آذان نبيل العربي (والجربا) في مالطا الكويتية/ د. عبدالوهاب الأفندي

يبدو أن أحداً لم يخطر السيد نبيل العربي، أمين عام الجامعة العربية، بأن مؤتمر القمة العربية الذي انعقد في الكويت مطلع هذا الأسبوع كان لدفن أي فكرة لتطوير الجامعة العربية وتقوية مؤسساتها على حساب الدول، مثلما كان مؤتمراً لدفن آمال الشعوب العربية في تعزيز حرياتها على حساب الأنظمة، وشرب الأنخاب احتفالاً بهزيمة الشعوب وفوز الأنظمة. فالرجل طالب في خطابه القمة بالمسارعة بالموافقة على مؤسسات مثل المحكمة العربية لحقوق الإنسان (إي والله!) وإعطاء الجامعة مزيداً من الصلاحيات، كما لو كان سعادته يخاطب زعماء الاتحاد الأوروبي.

(2)

أمين عام المتحدة بان كي مون لم يخطر كذلك، ولا ممثله الاخضر الابراهيمي، بطبيعة المؤتمر وتوجهاته. فقد أسهب في رسالته، هداه الله، في مدح الثورات العربية والتأكيد على أن مطالب الجماهير في الحرية والديمقراطية لا راد لها. وهذا كان أشبه بتلاوة خطبة في مدح الرأسمالية في مؤتمر لزعماء الأحزاب الشيوعية. فلم يكن هناك بين الحضور، إلا من رحم ربك، ممن يرى لمطالب الجماهير وجاهة، مثلما لم يكن بينهم متحمس لمحكمة عربية لحقوق الإنسان يتحاكم إليها الزعماء وربما يحاكمون فيها.

(3)

لم يخطر أحد كذلك السيد أحمد الجربا، رئيس الائتلاف السوري، بأن الميزان العربي قد تحول من الحماس للثورة السورية كما تحول ضد كل الثورات، التي يراها أكثر الحاضرين كابوساً، ويصرح بذلك. ومن هنا فإن مطالبته بمقعد سوريا في القمة، وبدعم عربي فاعل للثورة، كانت من قبل الآذان في مالطا، مثلها مثل تمنيات العربي وتأكيدات بان كي مون.

(4)

ولكن هذه التجليات لم تكن وحدها المشهد السريالي في قمة كانت كلها أشبه بفيلم من الخيال العلمي، أو إحدى روايات جورج أورويل. فنحن هنا أمام خطب وبيانات لا علاقة لها بواقع العرب، ولا تخبرنا شيئاً عن الخلاف الحاد بين العرب حول أمور عدة، أبرزها الوضع في مصر. ولا تعلمنا هذه الخطب شيئاً عن أحوال مصر التي تنحدر بسرعة باتجاه الهاوية.

(5)

يكفي أنه خلال الأسبوع الذي حكم فيه قاض مصري بإعدام أكثر من خمسمئة مواطن مصري خلال جلسة لم تستغرق سوى دقائق، تبارى الزعماء العرب (وتبعهم في ذلك بان كي مون) في الإشادة بالتقدم الذي تحرزه مصر في الانتقال الديمقراطي. ولعل السؤال هو: إذا كانت مصر تحقق كل هذه الديمقراطية، فلماذا تأتي الإشادة بها من أنظمة ترى الديمقراطية شراً مستطيراً؟

(6)

كل هذا يدفعنا لكي لتأمل أعمق في مجريات الأزمة العربية المزمنة، وهي أولاً وأخيراً أزمة دفن الرأس في الرمال، في مهارة تكاد تنفرد بها الأمة العربية بين الأمم. فالقمم العربية تشبه دوماً قمة تعقد في المريخ لمناقشة أوضاع كوكب زحل. فالمسكوت عنه من القضايا المهمة أكثر من المنطوق به، وما يقال لا علاقة له بالواقع.

(7)

ولعل المحير حقاً ليس هو إدمان دفن الرأس في الرمال، وتغييب الواقع والغياب التام عنه، ولكن استمرار نجاح أنظمة تحترف هذا العمى والصمم. فكيف تتنفس الأنظمة التي تدفن رأسها في الرمال، وكيف ترى وتسمع؟ هذا السؤال يتعمق عندما نرى كيف تسارع هذه الأنظمة إلى إغلاق أي منفذ وكوة ضوء يمكن أن تساعد في إبصار الحقائق، كما رأينا من قيام النظام المصري بإغلاق كل أداة إعلام لها شبهة استقلال، وإسكات أي صوت لا يردد فقط ما يقوله رجال المخابرات، وكما نرى حالياً من ابتزاز ضد قناة الجزيرة.

(8)

ليست لدي إجابة شافية على هذا السؤال، ولكني أعتقد أن المسألة تحتاج إلى دراسة عميقة من الخبراء، فهي هديتنا إلى العالم بتقديم نموذج تعيش (بل وتزدهر) فيه كائنات لا تسمع ولا تبصر ولا تتنفس. ولعل بعض ملامح الإجابة تأتي من تعميم العمى وفقدان البصيرة، وذلك بإقناع المبصرين بأنهم هم المغيبون عن الحقيقة، كما في أسطورة الملك العاري الذي أقنعه بعض المخادعين بأنه يلبس أفخر الملابس، والمشكلة هي فيمن لا يراها.

(9)

أثبتت القمة هذه الفرضية، حيث أن الكل يتحدث عن ‘التقدم’ الديمقراطي في مصر التي يحاكم فيها القاتل المقتول، ويلقى بالشريف في السجن، بينما يوسد الأمر إلى محترفي الكذب. ففي عالم أوريل العربي، القتل إنقاذ، والمجرم بطل، والفاسد مصلح، والأعمى مبصر. أما من يقول بخلاف ذلك فهو إرهابي متطرف، عميل لأمريكا وإسرائيل، وموالٍ لإيران!

(10)

يجب أن نكف إذن عن ذم قادتنا العرب الكرام، والتحدث المتكرر عن ‘فشل عربي’. فأي نجاح ياترى هو أعظم من هذا النجاح في قلب الحقائق، ثم إقناع السواد الأعظم بالواقع المقلوب، وبأن السلاطين العراة يرفلون في حلل بهية، وأن من لا يراها هو الخبيث الأعمى؟

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى