صفحات الرأي

«الإخوان السوريون»: حكم مدني مع تكريس أقلوية الأقليات


حمود حمود

إذا كان من غير المقبول على الإطلاق حالة «الرهاب الطائفي» التي تطلقها بعض الأقليات الدينية في المشرق حيال ما يجري حالياً من تحركات شعبية، إلا أنه في الوقت نفسه من المهم تفهّم هاجس الخوف الذي ينتابها لما سيأتي لاحقاً، في ظل غياب حقيقي ومخيف للمواطنة، فضلاً عن تأزم خطاب الهوية، سواء بما يخصهم أو بما يخص الأغلبية؛ بدلاً من الانجرار وراء دوغما «جمعيّة» متخشّبة بدأت تتكون الآن، واتهام الأقليات بالقيام بـ«تحالفات» مع الأنظمة المستبدة وما إليه.

في سوريا، خوف الأقليات، سواء أكان غير مبرر أم مبرراً، ليس من أن تحكم الأغلبية «السنية» وما سيستتبعها من استحقاقات تحالفية محتملة مع سُنّة المنطقة، بل ممّن «يمثّلها» سياسياً، أي «الإخوان المسلمون»، الذين نجحوا في تثبيت صورة اختصار مشهد الإسلام السياسي السني السوري بهم وحدهم، في ظل تغيّب أو تغييب المرجعيات الدينية الحقيقية، لسدّ الفراغ على مستوى المؤسسة الدينية.

الخوف من الإخوان المسلمين، والذي تحوّل عند قطاع واسع من الشعب السوري إلى ظاهرة أشبه بـ«إخوانوفوبيا»، هو أحد أسباب إحجام الأقليات عن المشاركة بثقلهم في حراك الشارع، والذي يعود لعاملين رئيسيين:

الأول: هو السلوك السياسي للإخوان، والذي ما زال يُنظر إليه بعيون الريبة والشك منذ القضاء على عملياتهم «الجهادية» في أوائل الثمانينيات وحتى الوقت الحاضر. والإخوان من جهتهم ما زالوا إلى الآن مصرّين على عدم الاعتراف بأخطائهم، وتقديم تفسيرات واضحة لما قاموا به سابقاً وما يقومون به حالياً أثناء الانتفاضة (من ضبابية موقعهم الحقيقي ضمن حضن القادة الأتراك، إلى اجتماعهم «غير المفاجئ» في باريس مع من يُعتبرون «صهاينة»، إلى الاتصالات مع الأميركيين، والاتصالات التي كثرت الشائعات حولها مع طهران…الخ)؛ أي أداء التيار الإخواني السياسي.

السبب الثاني: هو ما يتعلق في صلب البناء الايديولوجي العقائدي للإخوان، وبخاصة ما يتعلق بخطابهم تجاه الأقليات، مع عدم ظهور أية بوادر حقيقية لإمكانية انفكاك محمولات هذا الخطاب التاريخية الثقيلة عن سياقه الماضوي الذي نشأ فيه، بحيث يصبح فعلاً خطاباً متوازناً يلائم استحقاقات الحاضر.

الإشكال الرئيسي عند الإخوان قبل أن يكون بتبني خطاب «وطني» يطمئن الأقليات، هو في البنية الايديولوجية العقائدية التي تحتكم إليها ذهنية الإخوان. إن الإخوان إلى الآن، برفعهم شعارات المواطنة والمدنية، لطالما أثبت سلوكهم أن الهدف من رفعها سياسي، أكثر من كونها مصطلحات تهيكل ذاتهم الداخلية.

شعارات «المواطنة» و«المدنية» وما إليها، التي غزت قاموس الخطاب الديني في بدايات القرن العشرين أثناء الصدمة الأولى مع خطاب «الحداثة» بقيت على هامش ذلك القاموس، يُلجأ لاستخدامها أمام أي أزمة تصيب الخطاب، لكنها للأسف لم تتحول في يوم من الأيام لتغيّر من هيكلية بنية الخطاب من الداخل.

فيما لو حاولنا تلمس مفاهيم الحداثة التي تشكل العتلة السياسية للتيار الإخواني في محاولته لكسب موطئ قدم ومكان في الفضاء السياسي، لوجدنا بلبلة واضحة وطرحاً غير واضح الملامح بل متلون في بعض الأحيان. بينما لو حاولنا تلمس وجهة نظر التيار الإخواني في الأقليات لوجدنا محاولة واعية أو غير واعية لتكريس «أقليّة» هذه الأقليات عبر تهميش حضورها وعدم نقاش خطابها الديني، وبالتالي ظهور الهوية السياسية لهذا التيار طاغية على حساب هويته الدينية، والتي تحولت إلى ضرب من الايديولوجية السياسية من غير حلّ المسألة الدينية بخصوص الذات والآخر وما إليها.

التعامل مع الأقليات ضمن هذا السياق، وإعطاؤها طمأنات سياسية (أو بالأحرى ترضيات سياسية) دون أن يفض الإشكال العقائدي التاريخي، وهو خوف الأقليات من التكفير الإقصائي فيما لو نجح التيار الإخواني في كسب معركته السياسية (التكفير ليس على الطريقة الأرثوذوكسية السلفية، بل من خلال إلغاء نديتهم الدينية عبر هيمنة دكتاتورية المجموع السني السياسي كما سيمرّ).

إنه بالرغم من إعلان الإخوان في بيانهم الشهير سنة 2004 («المشروع السياسي لسورية المستقبل». وهو آخر نسخة «معدلة» لهم تظهر مواقفهم) عن حرية الإنسان في اختيار عقيدته، لكنه في الوقت نفسه يظهر إقصاء فاقعاً من خلال تأكيده: أن الإسلام يشترك مع المسيحية في الكثير من القيم، لذا فإنه «يثبت المرجعية القيمية للإسلام ويبسط سلطانها على مجموع أبناء الشعب» وهذا ما يلغي أي مساواة مزعومة؛ هذا فضلاً عن النظر لناحيتين:

الأولى: عدم تأكيد أحقية المسلم بالخروج عن دينه. والثانية: هو النظر بعيون مضطربة للأقليات الدينية المنضوية تحت مسمى «أقليات مسلمة» وأخرى خرجت من الإسلام واعتبرت «غير مسلمة». نقول هذا، لأن في بنية الإخوان العقائدية يختلف النظر للأقليات من واحدة لأخرى: في الوقت الذي ينظرون فيه مثلاً للدروز أو العلويين كطائفتين دينيتين خرجتا من نطاق الخطاب الأكثري (السني)، فهما مقصيتان دينياً (إن لم تكونا كافرتين، فبماذا توصفان؟)، إلا أن هذه النظرة نفسها تختلف تجاه «الشيعة»، وأيضاً هذه النظرة الإقصائية تختلف جذرياً تجاه «المسيحيين».

المسيحيون في التقليد الديني السني الأرثوذكسي، ليسوا بأقلية، إنهم يعتبرون، وما زالوا من «أهل الكتاب». هذه الإشكالية ما زالت إلى الآن مسيطرة على خطاب الإخوان. بالطبع لا يمكن للإخوان الآن وخاصة في الظروف الحالية تسميتهم بـ«أهل ذمة»، لأن ذلك سيضر بصورتهم أكثر (دعك من الحوارات والشعارت التي تقول إنه تقاربية المفرغة من مضمونها). لكن بدلاً من ذلك يُلجأ لاستخدام هذه النبرة: «الإسلام يكفل حقوق الأقليات». بهذه الجملة لم يتغير شيء: ما زالوا يُعتبرون مواطنين من الدرجة الثانية ضمن الفضاء السني الجمعي.

بمعنى ثانٍ، ما قُدّم للأقليات كان خطاباً حقوقياً، وليس اعترافاً بوجود حقيقي ندّي. «لا تبرئة دينية». هكذا يبتدئ الإخوان السوريون بيانهم: «وجماعتنا تؤمن بأن الإسلام في جوهره التوحيدي وقيمه العليا، وشريعته السمحة، ورصيده في نفوس أبناء الشعب السوري، هو أصلح المنطلقات لبناء سورية المستقبل». وبعيداً عن الغموض في تعبير «الرصيد الإسلامي» (ولا يُعلم بالضبط حجم هذا الرصيد داخل نفوس من يعتبرون ليسوا بمسلمين!)، فإن مسألة الإسلام أصلح المنطلقات لبناء سوريا، يدل على أن ثمة خللاً في ذهنية الإخوان السياسية والعقائدية لم يجد له حلاً إلى الآن: نؤمن بدولة «مدنية» لكن الإسلام بكونه هو الحل، فهو أصلح المنطلقات لهذه الدولة!

ثمة في الواقع إشكال تاريخي يقف أيضاً خلف هذا، وهو سيطرة ديكتاتورية الذهنية الجمعية التي يحكمها «براديغم المجموع» (وتحديداً السني) الإسلامي في المنطقة. فحينما يُعتبر مثلاً المسيحيون، «مسيحيين عقيدياً»، إلا أنهم «مسلمون ثقافياً» لأنهم يندرجون ضمن هذا الفضاء الإسلامي الثقافي الواسع، فهذا ليس اعترافاً بوجودهم بقدر ما هو تهميش وإلغاء لكيانهم الديني، فضلاً عن ربط مصير هذه الذات الدينية بثقافة الشمول الإسلامية الجمعية. وللأسف كثير من التيارات السياسية، والتي تعتبر ليبرالية، تدافع عن «إسلامية كل الأقليات الدينية» «ثقافياً»، فقط لأنهم يعيشون ضمن هذا «الجمع الإسلامي السني».

عدم حل إشكالية البناء العقائدي هذا، هو السبب الرئيسي في تردد الإخوان المسلمين في مصر بين الصقور الكبار المحافظين وبين الجيل الجديد منهم، حيال قضايا كثيرة، لا تبدأ بتساوي الحقوق والعدالة، ولا تنتهي بجواز أن يحكم قبطي مسلماً.

لهذا، لم يكن من المستغرب استهجان الإخوان، تصريحات أردوغان حول حثهم على تبني دستور علماني تقف فيه الدولة على مسافة واحدة محايدة حيال كل الأقليات والأديان الأخرى. ليست المسألة كما اعتبروها تدخلاً في شؤون مصر، بقدر ما هي إجراء امتحان خفيف حول مصداقية مفردات المدنية والمواطنة التي ينادون بها صباح مساء، فضلاً عن موقعها المعرفي داخل ذواتهم.

([) كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى