صفحات الثقافة

«الطوفان» و«نجوم النهار» لأميرالاي وأسامة محمد في «دوار الشمس»

 


استشراف الدراما السورية

نديم جرجورة

إنها محاولة متواضعة للمُشاركة الحسّية في الحراك الشعبي السوري القائم حالياً. بل للمشاركة الثقافية، من خلال نتاج سينمائي متميّز بانسحابه من صناعة صورة باهتة ومملّة، إلى رحاب الإبداع الأجمل في صوغ المشهد المحلي، وإن كان المشهد مُقلِقاً. أو ربما لأن المشهد هذا مُقلِقٌ، خرج نتاج سينمائي (وثقافي) على عباءة التسطيح، ليقول قولاً فاعلاً اصطدم بالمنع على مدى سنين طويلة. اختيار فيلمين سوريين لعرضهما في الصالة الكبيرة في «مسرح دوّار الشمس» (الطيونة)، إلى فيلم قصير جداً أُنجز مؤخّراً، بعنوان «كان يا ما كان»، دعوة ثقافية ـ فنية إلى مُشاهدة لقطات مختلفة سبقت الحراك هذا، واشتغلت على موضوعه بمواربة بصرية بديعة، إلى جانب صُور جديدة نابعة من قلب الحراك نفسه. لقطات قالت أشياء كثيرة بلغة سينمائية، جعلت الوثائقي اختزالاً لمعنى العلاقة الأجمل بين الصورة والواقع، والروائي انعكاساً للبؤر المنهارة والممزّقة والمضغوطة في زواريبها الضيّقة وحصاراتها غير المنتهية. فيلمان سوريان أُنجز أولهما قبل ثمانية أعوام بعنوان «الطوفان» لعمر أميرالاي، وحُقِّق الثاني قبل ثلاثة عشر عاماً بعنوان «نجوم النهار» لأسامة محمد. الفيلم القصير بعنوان «النهاية» لأبو نضارة (2011، 3 دقائق). غير أن مُشاهدة (أو إعادة مُشاهدة) الفيلمين القديمين اليوم تؤكّد براعة العين السينمائية في اقتفاء المُقبل من الأيام والأحداث والحالات والهواجس، وجمال الروح الإبداعية في مقاربتها أحوال الناس وتحوّلاتهم. تؤكّد روعة العدسة في التقاطها مكامن الخلل والخراب والغليان، وقوّة الوعي المعرفي الحرّ في مواجهته تحدّيات اللحظة، وما بعدها.

«كجزء من سلسلة تحرّكات داعمة لثورة الحرية للشعب السوري» دعت مجموعة سينمائية إلى مشاهدة الأفلام الثلاثة تلك، بدءاً من الثامنة مساء اليوم الثلاثاء، والاستماع إلى رسالتين اثنتين، الأولى للمخرجة والمنتجة السورية هالة عبد الله قبل عرض «الطوفان»، والثانية لأسامة محمد يُفترض بأحمد بيضون قراءتها قبل عرض «نجوم النهار». جاء في الدعوة نفسها إلى مشاهدة الفيلمين، أن هذين الأخيرين أُنجزا «في ذلك الزمان، قبل بدء الانتفاضة في سورية»، وأنهما رؤيتان للمخرجين «عن حال مجتمعهما»، وأن اختيار الفيلمين «يتماشى وانحيازنا إلى المطالبين بحريتهم في سورية والعالم العربي كلّه». أما «النهاية»، فهو بحسب البيان «أحد الأفلام التي يُنتجها شباب في سورية ضمن الحراك الجديد»، رغبة من الداعين إلى الأمسية في الإنصات «إلى أصوات شباب معنيين بالحرية»، وإلى التفاعل معهم.

منعطف إبداعي

بهذا المعنى، يُمكن القول إن الدعوة المفتوحة أمام محبّي السينما العربية المناهضة للسائد والمسطّح والاستهلاكيّ أولاً، وأمام المعنيين بالحراك الشعبي في الدول العربية ثانياً، لاستعادة سينمائية لنموذجين اثنين من كيفية الاشتغال الإبداعي في سورية، كجزء أساسي من لغة التمرّد السينمائي على العاديّ والمألوف، وكمحاولة جذرية لتبديل العلاقات القائمة بين السينما ومجتمعها وبيئتها وناسها، من دون الغرق في خطابية ممجوجة، أو كلاسيكية بصرية نافرة. ذلك أن الفيلمين هذين، بالإضافة إلى نصّيهما الدراميين المنبثقين من واقع الحال الإنسانية في سورية، شكّلا أحد أبرز المنعطفات الإبداعية في صناعة الصورة المتحرّكة في سورية، بل أحد أجمل «الدروس» السينمائية في جعل الفيلم مرآة الذات والآخر، بأدوات مبسّطة لكن عميقة في بحثها الدرامي داخل متاهات العيش على الحدّ الفاصل أو المتداخل أو المتشابك مع بعضه البعض، بين الواقعيّ والجمالي، وبين الحقيقيّ والمتخيّل الإبداعي.

بعيداً من الارتباط الوثيق بين الأمسية البيروتية والحراك الآنيّ القائم في سورية، لا يُمكن للمهتمّ بالجماليات السينمائية أن يبقى متحرّراً من متعة المُشاهدة، وإن امتزجت المتعة بمرارة الحكايات المستلّة من الواقع الحقيقي. لا يُمكن للمهتمّ بالإبداع السينمائي أن يتجاهل تلك القسوة والمرارة والشقاء والرغبة في الانعتاق من مسارات القهر، وهذه كلّها مصوّرة بحساسية مرهفة ومثيرة للانتباه والنقاش، المعتملة في طيات المضمونين الدراميين، اللذين جعلهما أميرالاي ومحمد مفتاحين أساسيين لفهم مسار التبدّلات المجتمعية والإنسانية والحياتية. وإذا كان «الطوفان» آخر الأفلام الوثائقية العديدة التي أنجزها الراحل عمر أميرالاي في مسيرته السينمائية المنطلقة في العام 1970؛ فإن «نجوم النهار» شكّل البداية الروائية الطويلة لمخرج أنجز كَمّاً قليلاً للغاية، في مقابل عمق إبداعي رائع ومثير للسجال النقدي في صناعة الصورة وخفاياها وجنونها وهواجسها المفتوحة على أسئلة الهوية والارتباط بالأرض والتاريخ والوقائع.

السفير

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى