صفحات العالم

«جمعة العشائر» أم عصر العشائر؟

 


مصطفى زين

في الأدبيات العربية القديمة أن مهاجرين أو مهجرين إلى أوروبا، أفادوا من علومها ونهضتها الثقافية والسياسية، ووقفوا في مواجهة الاستبداد العثماني، وسعوا إلى إقامة دول- أمم على النمط الغربي. وفي الأدبيات الحديثة العائدة إلى بدايات، ومنتصف، القرن الماضي سير مهاجرين تأثروا بالنظريات القومية الأوروبية وعادوا إلى بلدانهم ليؤسسوا أحزاباً وينشروا الفكر القومي المضاد للطائفية والعشائرية والقبلية والمناطقية، ساعين إلى علمانية تعتمد المواطنة أساساً. وفي هذه الأدبيات أيضاً أن عائدين أسسوا أحزاباً شيوعية شعارها الأساس «يا عمال العالم اتحدوا»، أي أنهم وصلوا إلى حدود إلغاء الانتماء القومي، فضلاً عن الإثني والعشائري والطائفي والديني.

العائدون من أوروبا في ذلك الوقت والمتأثرون بأفكارها وفلسفاتها، قادوا مقاومة الاحتلال، ومعارضة الأنظمة الناشئة في كنفه وبإرادته. وكانوا النخبة الفاعلة في المجتمع من أجل إلغاء كل أشكال التفرقة.

هذا في الأمس، في مرحلة تأسيس الدول الوطنية. أما اليوم فنجد «النخبة» المهاجرة إلى أوروبا وأميركا تحاول نشر فكرها الديني حيث هي. وتشكل قوقعات معزولة على هامش المجتمع الذي تقيم فيه، متمسكة بعاداتها وتقاليدها، تتفاعل في ما بينها، معادية أي نوع من التفاعل بين الثقافات والحضارات. أما من يعود منها إلى أرضه فنجده أشد تمسكاً بالقيم القديمة من المقيمين. يلوّن أحاديثه أو كتاباته بشعارات حقوق الإنسان والجماعات. ويستعير من التاريخ ما يتناسب مع توجهه، مستخدماً بعض الجمل الأجنبية ليبدو أكثر تقدماً، لبعض هذه الجمل مقابل بالعربية أكثر دقة وتعبيراً. وفوق كل ذلك يرفع شعار «الكون قرية صغيرة»، متخذاً من التكنولوجيا والإعلام مثالاً على ذلك، غير آبه بمضمون ما يبثه من حقد ودعوة إلى الفرقة عبر هذا الإعلام.

باختصار كان المثقفون المهاجرون السابقون يفيدون من الفكر الأوروبي المتقدم، محاولين نقله إلى بلدانهم. أما اليوم فنجدهم يعودون لإعادة الجماعات إلى عصر ما قبل الدولة. جماعات بطريركية قائمة على العرق والدين والعشائرية. أليس هذا ما نلاحظه في توجهات المعارضة السورية في الخارج؟ مؤتمر أنطاليا كان نموذجاً حياً لهذه التوجهات. اختيرت قيادته على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية. وبدأت نشاطها في الدعوة إلى التظاهر في «جمعة العشائر».

لسنا في حاجة إلى القول إن الأنظمة القائمة في العالم العربي مسؤولة أيضاً عن حال التشرذم ونشر التفرقة وممارسة الاستبداد طوال الخمسين سنة الماضية. لكن كنا ننتظر من «النخبة» المقيمة في أوروبا، أو العائدة إلى أوطانها أن تكون أكثر تقدماً وانفتاحاً من هذه الأنظمة، لا أن تعود لإحياء تجمعات ما قبل الدولة، وتقود حملة التحريض الطائفي والديني. كنا ننتظر منها أن تعود لتبشر بالحداثة، كي لا نقول ما بعد الحداثة، وبالديموقراطية التي عاشتها ومارستها في الغرب، لا أن تعود لتقود تكريس التخلف المقيم الذي حافظت عليه وغذته الأنظمة.

نحن نعيش عصر العشائر لا «جمعة العشائر».

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى