صفحات العالم

«صفر مشاكل»: صفر على عشرين


ستيفن كوك

مع التدهور الحاد الذي شهدته العلاقات التركية السورية… جزم المراقبون الأتراك والغربيون على السواء، بأن مبدأ «صفر مشاكل» الذي تتسم به العلاقات التركية الخارجية قد انهار معلناً اختفاءه إلى حيث لا عودة. صحيح أن هذا الانطباع تمّ تكريسه منذ وقت في صفوف المنتقدين لسياسات حزب العدالة والتنمية، ولكن إعلان رئيس الوزراء رجب طيّب أردوغان ووزير الخارجية أحمد داود أوغلو نهاية عهد «استثمارهما» في الرئيس السوري بشار الأسد، حسم نهاية الدبلوماسية التركية المتحولة. في الواقع، يستحيل الآن تجاهل ما يجري، ففي مرحلة تطمح فيها أنقرة لتصفير مشاكلها مع جيرانها، تجد نفسها غارقة في المشاكل مع سوريا وإسرائيل وأرمينيا وإيران وقبرص والاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال لا الحصر.

ولنكن منصفين، صحيح أن جيرانها لم يتعاونوا يوماً بالقدر الكافي، ولكن انهيار سياسة «صفر مشاكل» الموعودة لم يكن مفاجئاً لأسباب جمة لا علاقة لها بالخارج. فسياسة داود أوغلو، الذي يفاخر بمواهبه العديدة، لم تكن تتمتع ببصيرة كافية، بل يمكن وصفها في أحسن الأحوال بالتقليدية. وهكذا بعد أن جرّدت من الرومانسية المرافقة للنموذج التركي، ارتكزت سياسة «صفر مشاكل» التركية على النقطة المركزية التي تحركها الحتمية الاقتصادية: إن أصبح الناس أكثر ثراء وبالتالي أكثر سعادة، فإنهم سيتقبلون الوضع القائم لأنهم سيطورون مصالحهم الاقتصادية بناء على الوضع القائم، وفي المقابل يشكل الحديث عن حوافز لتجنب أي مشاكل اقتصادية قد تهدد الاستقرار الاقتصادي الذي تحقّق، الوتر الأساسي التي تعزف عليه السياسة التركية معزوفة «صفر مشاكل».

وتشكل هذه السياسة وسيلة عبقرية في يد الحكومة التركية للتعامل مع المشكلة الكردية في تركيا. فرفع الحواجز التجارية والاستثمارات المتزايدة في العراق وسوريا والفوائد الاقتصادية والسياسية في جنوب شرق تركيا ستكون هائلة. ومن خلال العمل على جعل الأكراد أكثر ثراء وغنى، سيصبحون أقل تطلبا على الصعيد الوطني والثقافي في الدولة التركية. ولكن الأمر لم ينجح تماماً في هذا الاتجاه، فعلى الصعيد الإقليمي، يتمثل الضعف الحقيقي في سياسة «صفر مشاكل» في عدم التزامها مع أي نوع من الحكومات، وقد عادت بالنتيجة إلى سياسة العمل في الشرق الأوسط القديم.

الأهم من ذلك، أنه بينما كان حزب العدالة والتنمية منخرطاً في قيادة التغييرات الديموقراطية في الداخل، كان كل من وزير الخارجية ورئيس الوزراء منخرطين في مغازلة الزعماء العرب الذين تختلف أنظمتهم عن النظام التركي لجهة طريقة الوصول إلى السلطة والخطاب السياسي والعلاقة بالشعب. مع الثورة التي قادتها شعوب هذه البلدان وسقوط العديد من أنظمة هذه البلدان، بدت سياسة «صفر مشاكل» بمثابة رهان خاسر. فبعد انتهاء اللعبة، ظهرت تركيا، بازدواجية معاييرها، غير مختلفة عن أي قوة كبرى في المنطقة.. إنها تخاف على مصالحها التجارية والسياسية بالدرجة الأولى.

المزيج الناجح في العلاقات العامة والتفخيم الذي تمارسه وسائل الإعلام الوطنية بشأن السياسة التركية والإجماع الناشئ بين النخب السياسية الدولية حول نجاح «النموذج التركي»، كلها عوامل أنقذت السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية من الوقوع في فخ الفجوة القائمة بين مبادئ أنقرة وسلوكها الفعلي في المنطقة.

ولنكن منصفين مرة أخرى، لا بدّ من القول إن هناك استثناءات في هذا الصدد. فموقف أردوغان من غزة حظي بإعجاب كبير في العالم العربي. ولكن بالنسبة لأولئك المصرّين على انتقاد «صفر مشاكل» فإن تركيا، كما أميركا وأوروبا والقوى الكبرى الأخرى، لم تصبح بطلة لحقوق الإنسان في الشرق الأوسط إلا بعد عودة الحكم إلى الشعب في سياق «الربيع العربي» ووصول أصدقاء تركيا إلى الحكم.

Atlantic Steven A. Cook

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى