صفحات العالم

«وصفة سحريّة» تركيّة لسوريا لا تُقنع دمشق ولا ترضي أنقرة

 


يختلف تقويم أداء الدبلوماسية التركية إزاء الثورات العربية. الأكيد أنّ شيئاً من الارتباك وصمها. لكن الأخطاء التركية في مصر وتونس والبحرين واليمن وليبيا تبقى مغفورة بعكس ما هي الحال مع الأزمة السورية. سوريا هي الركن الأساسي للحلم التركي في المنطقة، فكان بالتالي استعمال كل عبقرية أحمد داوود أوغلو لمحاولة حصر أضرار اضطرابات الشام

أنقرة | منذ اندلاع أولى شرارات التحركات الشعبية في سوريا، فهمت القيادة التركية أنه لا يمكنها التصرف مثلما تصرفت إزاء الثورات العربية الأخرى؛ ربما كانت قد فهمت أنّ الصمت المطبق على نسق الرد التركي على الانتفاضة التونسية كان خطيئة. كذلك إن تردُّد حكام أنقرة إزاء «ثورة النيل»، قبل أن يستعجلوا حثّ الرئيس حسني مبارك على التنحي، لم يُنظَر إليه بكثير من الرضى في الأوساط الشعبية العربية المؤيدة لإزاحة أنظمة القرن العشرين العربي.

أما التكتيك والمناورة في الشأن الليبي، فلهما حساباتهما المصلحية التي برّرت فيهما أنقرة تغيير مواقفها أكثر من مرة في اليوم الواحد أحياناً؛ من إظهار علامات تأييد معمر القذافي، إلى دعوته إلى التنحي، ثمّ معارضة القرار 1973 والحرب الدولية على نظامه، فتأييد الحرب والمشاركة فيها من دون التوقف عن انتقادها، وصولاً إلى خوض معركة دبلوماسية حول قيادة الحرب…

لم يكن جائزاً إسقاط السلوك التركي ذاك على الحالة السورية؛ فسوريا بالنسبة إلى تركيا قيمة استراتيجية مضافة لا توازيها أهمية أي دولة عربية أخرى؛ فسوريا مع بشار الأسد تحديداً، كانت جسر العودة التركية السياسية إلى المنطقة مع حزب «العدالة والتنمية». أما اقتصادياً، فمعظم البضاعة التركية تصل إلى الدول العربية من طريق الأراضي السورية تحديداً، من دون احتساب مليارين ونصف مليار دولار في تبادل تجاري سنوي بين البلدين. التحالف الاستراتيجي السياسي ـــــ الاقتصادي ـــــ العسكري الذي أنشئ بين أنقرة ودمشق، وتحديداً منذ 2004، جعل من سوريا الدولة الأهم في الحسابات التركية حالياً، حتى إنّ عبارة «الفوضى في سوريا تعني اندثار كل المشاريع التركية في الشرق الأوسط» وباتت متداولة بكثرة في الإعلام التركي. أصلاً، رغم أن الفوضى السورية لا تزال محدودة، بدأت علامات الضرر تظهر بالنسبة إلى تركيا، بدليل أن مؤتمر إطلاق «منطقة التجارة الحرة» بين تركيا وسوريا والأردن ولبنان، الذي كان مقرراً في إسطنبول في أيار المقبل، أُجِّل بسبب التطورات السورية.

من هنا، فهم الأتراك أنّ على دبلوماسيتهم أن تكون مختلفة عما مارسته إزاء الانتفاضات الشعبية الأخرى. وبحسب مصادر مقربة من مراكز صنع القرار في أنقرة، وضع الأتراك هدفاً مسيِّراً لدبلوماسيتهم السورية: المحافظة على نظام بشار الأسد. لكن السؤال كان كيف نحافظ عليه وقد رأينا ما حصل في تونس ومصر وليبيا واليمن…؟ هناك، سارع الرؤساء إلى تقديم «تنازلات» كبيرة نسبياً وسقطوا، بينما في سوريا ظهرت سريعاً ممانعة النظام وتردده إزاء تقديم تنازلات تحت ضغط الشارع… انطلاقاً من هذا المبدأ، أبدى المسؤولون الأتراك مخاوفهم على نظام الأسد فيما لو أصرّ على ممانعة التغيير. اعتقدوا أن الدور التركي قد يكون مطلوباً بشدّة لتحقيق هدفين: الأول إقناع رأس النظام بضرورة الإسراع بإصلاحات عميقة وحقيقية، لا شكلية. والثاني مكمل للأول: مساعدة النظام السوري على تحديد نوعية الإصلاحات المطلوبة أو الممكنة. كل ذلك طبعاً في ظل سرية تركية شبيهة بالتكتم المعروف في القضايا الحساسة طبقاً للعبارة الشهيرة لوزير الخارجية داوود أوغلو عن أن التسريبات كفيلة بإفساد أكثر المبادرات نبلاً.

هكذا، عرفت الاتصالات والزيارات التركية دينامية استثنائية تجاه القيادة السورية على نحو باكر نسبياً. زيارات واتصالات توزعت على كل المستويات: من الرئيسين عبد الله غول ورجب طيب أردوغان إلى رئيس دبلوماسيتهما أحمد داوود أوغلو، فمدير الاستخبارات التركي حاقان فيدان. رسائل سياسية ونصائح وتعهدات أمنية والتزامات متبادلة بين السوريين والأتراك حكى عنها الإعلام طوال أكثر من شهر. وفي كل مناسبة، كان حكام أنقرة يلمحون إلى امتعاضهم من تباطؤ مسار الإصلاحات السورية.

وتفيد المعلومات المتداولة في أنقرة بأن الأتراك، بعد نحو شهر على بدء تواصلهم مع السوريين إزاء الحراك الشعبي، باتوا خائبين من أداء النظام السوري تجاه الإصلاحات التي كانوا يتوقعون أن تكون وتيرتها أسرع بكثير مما شاهدوه حتى اليوم. وبحسب صحافيين رافقوا المسؤولين الأتراك إلى دمشق في الآونة الأخيرة، فإنهم «كانوا صادقين جداً مع الأسد، وكانوا مقتنعين بأنه سيفعل شيئاً سريعاً»، وهو الانطباع الذي أتى به رجل الاستخبارات الرقم واحد في تركيا حاقان فيدان من زيارتيه المعلنتين لدمشق (يرجح أن يكون قد قام سراً بأكثر من زيارتين علنيتين).

وقد سربت بعض الاقتراحات التركية من الغرف المغلقة. وتدور الفكرة التركية الرئيسية حول إشكالية مركزية: من مصلحتنا القصوى المحافظة على نظام الأسد الحليف جداً لنا، لكن ذلك مستحيل بوضعه الحالي، لذلك على الأسد أن يبقى رئيساً لنظام مختلف، منفتح وديموقراطي وحر بحدود ما تسمح به الظروف الداخلية وخصوصيات المجتمع السوري طائفياً ومذهبياً وإثنياً، وبحدود الجغرافيا السياسية المحيطة به من إسرائيل وعداواته العربية…

أفكار إصلاحات تركيّة

يبدو بعض الأتراك المقربين من دائرة صنع القرار في أنقرة واثقين من أن «حلم تركيا» هو إبقاء الرئيس الأسد في منصبه، لكن مع تقليص صلاحيات الرئاسة بما ينسجم مع ما هو متداول في الأنظمة البرلمانية، وهو ما ترى أنقرة أنه يمكن أن يكون حلاً وسطاً بين مطالب الشعب، وبين مصلحتها ببقاء الأسد، حليفها الرئيسي.

انطلاقاً من ذلك، تؤكد تسريبات أنّ المسؤولين الأتراك ممن زاروا دمشق، عرضوا على القيادة السورية تبنّي مجموعة من القوانين التركية، حتى إنهم أحضروا معهم نسخاً مترجمة إلى العربية عن القوانين التركية المتعلقة بمكافحة الإرهاب وقانوني الأحزاب والانتخابات لـ«جعل الرئيس الأسد يستوحي منها». ومن أبرز الاقتراحات التركية التي عُرضت على الرئيس الأسد ومعاونيه، نسخة شبيهة بقانون الانتخابات التركية الذي ينص على شرط تحقيق عتبة العشرة في المئة للأحزاب كي تصبح قادرة على التمثل في البرلمان، لطمأنة نظام البعث إلى أن الفوضى السياسية ستظل بعيدة عن سوريا في حال السماح بالتعددية الحزبية. والأتراك، بحسب المصادر، شرحوا للقيادة السورية فوائد اعتماد قانون يمنع تأسيس أحزاب على أسس إثنية أو دينية أو مذهبية لتقديم طمأنات عن أن الإسلاميين لن ينقضّوا على الحكم.

ومن بين ما حمله المسؤولون الأتراك إلى دمشق، اقتراح إلغاء محاكم أمن الدولة لاستبدالها بمحاكم مدنية متخصصة مثلما هو مطبق في تركيا. ولمعالجة أزمة الإسلاميين واتجاه المجتمع السوري أكثر نحو التدين في دولة قوانينها علمانية مدنية، تشير التسريبات إلى أن الأتراك اقترحوا على الأسد السماح بالتعليم الديني، لكن بعد إخضاعه لمركزية الحكومة، كما هو جارٍ في تركيا في إطار حصر كل الشؤون الدينية بـ«مديرية الشؤون الدينية» التابعة مباشرة لرئاسة الحكومة.

هي رزمة من الأفكار التركية دفعت بكل من الصحافيَّين المرافقين لداوود أوغلو إلى دمشق، جنكيز تشاندار وعبد الحميد بالجي، إلى القول إن وزيرهما استعاد في خلال لقاءاته السورية تجربة تركيا مع التعددية الحزبية التي بدأت خوضها منذ عام 1950 بعد 30 سنة من الأحادية الحزبية التي فرضها مصطفى كمال ومساعدوه. كلام ربما كان القصد منه طمأنة الأسد إلى أن سوريا لن تنهار في حال إقدامها على الخطوة الجريئة المتمثلة بخوض غمار التعددية الحزبية، مثلما أن جمهورية أتاتورك لم تنهر بعدما فعلت الشيء نفسه، وخصوصاً أن نقاط التشابه عديدة بين البلدين، على الأقل في أن كليهما يحويان فسيفساءً طائفية وعرقية.

وبعد الاجتماع المذكور بين داوود أوغلو والأسد، نطق الوزير التركي بكلمة واحد، هي أنه بات أكثر تفاؤلاً الآن. هذا التفاؤل هو سبب المشكلة حالياً، بما أن الأمل التركي عاد ليضعف بعد مرور وقت طويل (نسبة إلى شدة الأزمة) على تعهد الأسد بالقيام بإصلاحات. وآخر علامات عدم الرضى التركي الكامل، كان كلام الرئيس غول، يوم السبت الماضي، الذي أشار في خلاله إلى أن «الجميع شاهد على تغييرات كبيرة في المنطقة، ويجب ألا تفاجئ أحداً، بل إن بعضها تأخر أكثر من اللازم». وفي ما فسره البعض تلميحاً إلى سوريا من دون أن يسميها، تابع غول: «يجب أن يمسكوا بزمام المبادرة قبل انفجار الشعب؛ لأنه حينها تتدخل دول ثالثة وتنظم بيتنا الداخلي وفقاً لما تريد». وعن سوريا، أجاب: «أتمنى أن يكون الأسد قد رأى أنه لا مناص من الإصلاح بوضوح. إنّ تركيا تريد أن ترى النظام الصحيح في سوريا».

عتب سوري

يرى البعض في أنقرة أنّ الدبلوماسية التركية سببت أزمة ثقة لدى الدائرة الضيقة في النظام السوري في الفترة الأخيرة. أولاً، في إشارة رجب طيب أردوغان إلى «إيجابية» أن تكون زوجة الرئيس «العلوي»، بشار الأسد، «سنية». ثانياً في سماح السلطات التركية لمراقب الإخوان المسلمين في سوريا، محمد الشقفة، بعقد مؤتمر صحافي في إسطنبول هاجم فيه النظام السوري، وهو ما أجبر وزارة الخارجية التركية على محاولة تصحيح «الخطأ» من خلال إصدار بيان كان أشبه بالاعتذار في حينها.

حادثة تُضاف إلى الامتعاض السوري الأساسي من التسهيلات المعطاة إلى «الإخوان المسلمين» السوريين في تركيا، و«كرم الضيافة» التي ينعم بها هؤلاء. ثالثاً، يحتمل أن يكون النظام السوري منزعجاً فعلاً من مشاهد تظاهرات التأييد التي تشهدها أنقرة وإسطنبول هذه الأيام تضامناً مع المتظاهرين في سوريا. وهنا يلفت صحافيون أتراك إلى ظاهرة جديدة تمثلت بأنّ التظاهرة التي نُظمت في تركيا يوم الجمعة الماضي تضامناً مع الشعب السوري، شهدت مشاركة واسعة من إسلاميين معتدلين أتراك، ممن كانوا لا يزالون حتى الأمس القريب ينظرون إيجابياً إلى الأسد، على قاعدة أنه «شخص إصلاحي وغير فاسد، لكن محاط بمجموعة تحول دون تمكينه من تنفيذ مشروعه الإصلاحي». رابعاً، يرجَّح ألا ينظر النظام السوري بعين الرضى إلى الحرية النسبية الذي يتعاطى فيها الإعلام التركي مع الأزمة السورية؛ إذ من السهل العثور على مقالات وتقارير تنتقد بحدّة النظام السوري، في صحف هي أقرب ما تكون إلى حزب «العدالة والتنمية» الحاكم.

الأخبار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى