صفحات الرأي

اليسار دين أم قبيلة؟


نهلة الشهال

لا موقف أسوأ من التمترس خلف أسئلة من قبيل «من هو اليسار اليوم؟»، أو «هل هذا الكلام يساري؟» أولاً، لأن ذلك لا يهم إلا أصحاب الشأن من المكترثين بتفحص «سيرتهم»، بينما يتوقع الناس، بمن فيهم المطلعون والمثقفون، أجوبة تتناول عالمهم المعيش، والمشاكل التي يواجهونها، فينحازون لهذه أو تلك من التأويلات، وفق ما يناسب أهواءهم أو مصالحهم. ثانياً، لأن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة خاطئة ومغلوطة بالضرورة، وتذهب نحو ترداد عموميات حول القيم، بدلاً من الانطلاق من الإطار المطروح، الظرف، أو الواقع موضوع الجدل، ليمكن تحديد النفْس. وفي هذا السياق، ذكر أحد أهم مفكري اليسار والمعهم، دانيال بنسعيد، أنه في القرن التاسع عشر اتفقت كل تيارات اليسار، من اشتراكية وشيوعية وفوضوية، على مقياس/مرجع هو الموقف من الملْكية، باعتبارها صنو السلطة، وباعتبار «الحرب» الدائرة تتعلق إذاً بالملْكيات، وأنه ربما أمكن اليوم تعيين التضاد بين الدفاع عن التنافس الحر بمقابل مقياس الخدمة العامة، لتلمس تحديدات ذات مغزى.

ولكن ذلك لا يكفي. فقد كانت إحدى مصاعب التظاهرات ضد الحصار المفروض على العراق في التسعينيات ثم الحرب الامبريالية التي شُنت عليه، أن جماعة «الجبهة الوطنية» في فرنسا مثلاً، (أي حزب لوبن الأب اليميني المتطرف وصاحب الصلات القوية، الفكرية والعملية بالنازية)، كانوا يحضرون للمشاركة في تلك التجمعات والتظاهرات، لأنهم كانوا ضد الحصار على العراق وضد الحرب عليه وضد الأميركيين وضد الامبريالية! وكم مرة اضطرت الجهات المنظمة لتظاهرات مساندة لفلسطين في أوروبا، أثناء العدوان على غزة مثلا، إلى طرد جماعات اليمين المتطرف بكل تلاوينه، وبالأخص منهم ما يسمى بـ«اليمين الجديد» من تظاهراتها، رغم أنهم ضد إسرائيل وضد الصهيونية ومع حقوق الشعب الفلسطيني! وقد انتهى ذلك إلى إيقاع الاضطراب في صفوف المبادرين إلى هذه التحركات أنفسهم، والى إثارة نقاش حاد حول «المقياس»، ولم تكن الإجابة بحجج تاريخية كافية، بل كان من الضروري الانطلاق إلى تعيين الرؤية العامة. فأنْ تكون ضد الامبريالية والعولمة من منطلق التمسك بتقاليد ماضوية وبوطنية مغلقة وبالخصوصيات شيء، وأن تكون ضدهما لأنهما يهددان تقدم العالم بأسره نحو الحرية والعدالة والمساواة شيء آخر… وهو تعيين يحمل في داخله، ولا شك، صعوباته وقصوره، ولكنه يتلمس معياراً يمكن أن يصلح، ليس لتعيين الدِين الذي ينبغي «الإيمان» به، أو القبيلة المغلقة التي ينبغي حمايتها والدفاع عن نقاء المنتمين إليها، كما يبدو من نقاشات اليوم، وبالأخص في العالم العربي، بل لبلورة موقف شامل من العالم، على ما اقترح يوماً الفيلسوف جيل دولوز في إجابة عن سؤال مشابه، قائلا انه ينبغي الانطلاق من الأفق نحو «المنزل»، وليس من الذات إلى العالم…

هذا العالم يزداد تعقيداً، وكذلك تأويلاته ومقارباته، بحيث إن مفكر «اليمين الجديد» الأبرز والأذكى، الفيلسوف ألآن دوبونوا، الذي يدعو إلى نقد الفردانية/العالمية، وتفكيك المنطق التجاري وأشكال سيطرة رأس المال (قائلا إن الرأسمالية «نظام انتروبولوجي وليس اقتصادياً فحسب»، مبرْزا قربه من ماركس)، ثم داعياً (بيت القصيد؟) إلى النضال من أجل الاستقلالات الذاتية والدفاع عن الاختلافات والهويات الجماعية كوسيلة لتجديد الديموقراطية، هذا المفكر إشكالي بحق، ويمكن لقارئ أحد نصوصه أن يعتبرها كلاماً… يسارياً! وربما كان هذا الطابع المعقد والإشكالي، البعيد عن البلاهة المسطحة التي يمكن نقدها وتفكيكها ودحضها بسهولة، ما يجعل المتأثرين بفكر الرجل ومتابعيه من أشد المؤيدين للنظام السوري حالياً، حيث يقيم بعضهم منذ سنوات، ويتولى بعضهم الآخر الدفاع عن «سوريا الأسد» التي تقارع الامبريالية الأميركية، والتي تمثل حلقة هامة في الحرب الباردة الجديدة، يدافعون عنها في الفضاء السجالي والإعلامي العالميين. وهي، سوريا، مثل عراق صدام قبل ذلك، لا تملك ترف اختيار أصدقائها، ثم لا ترى لماذا، ووفق أي معيار، وباسم أي قيم أو اعتبارات، عليها نبذ هؤلاء المتحمسين لها. وهو النقاش نفسه الذي جرى أيضاً مع «حزب الله» مثلا وفي داخله، علماً أن هناك «أنفاقاً» وأواناً مستطرقة لم تُعدم يوماً بين اليمين الجديد هذا واليمين الفاشي التقليدي، ولكن ذلك موضوع آخر.

وبالعودة إلى الظرف المحدد، وما دام هذا النقاش المثار بقوة حديثاً يتعلق في الحقيقة به، يلاحَظ أن جماعات اليسار في تونس مثلاً، وهي بلد كان قد قطع مسافة كبيرة في تطبيق صيغة «لائيكية» بتأثير من أفكار وبرامج بورقيبة، أنشأت حداً عالياً من مناخات الحرية (التي عمل بن علي على قضمها، وبالأخص في ما يتعلق بجوانبها السياسية) واستولدت شرائح اجتماعية متعلمة وليبرالية، أو يسارية الهوى، تجد صعوبات في التعامل مع معطيات الواقع لما بعد بن علي، ووصول حزب «حركة النهضة» إلى السلطة. وهي تنجرّ إلى معارك ذات طابع أيديولوجي فضفاض حول «الهويات»، بدلا من الالتفات إلى المسائل الاجتماعية والاقتصادية المتعلقة بنمط التنمية الذي كان متّبعاً، وأدى إلى كارثة إفقار الريف وإنشاء عشوائيات في المدن نفسها، بما فيها السواحل المزدهرة، والذي لا يبدو أن الحركة الإسلامية تملك حياله نقداً فعلياً وجوهرياً، بل كل ما تريده هو إدخال تحسينات عليه، وضبطه. فرصة لخوض نضال يعني شيئاً للناس، يمثل فارقاً في حياتهم الراهنة والمستقبلية، يمكن تكتيل تيارات متعددة حوله، بما فيها تيارات إسلامية. ولكن لا حياة لمن تنادي.

وأما بخصوص سوريا اليوم، وقبلها العراق، فالأمر شاق حقاً. يتطلب الفكر الأحادي الطاغي (في كل اللغات!) أن يختار المرء «معسكره»، فيكون إما مع صدام (أو الأسد)، أو مع الأميركيين (ودول الخليج النفطية المترفة). ولا تُعدم الحجج: الأولويات، طبيعة المواجهة الدائرة، وخصوصاً خصوصاً، نتائجها (في طغيان واضح لخاصية ثانية من خاصيات الفكر السائد هي اللحظوية أو الراهنية في النظر الى الأمور)… وهي حجج وجيهة وفعلية ومرتبطة بالواقع. سوى أنها تتناسى السياقات والصيرورات (وهذا نسيان مدهش حين يرتكبه يساريون، وهنا تحديداً يرتدي المنهج، كطريقة في النظر والتحليل والمقاربة ـ وليس «العقيدة» وهي مفهوم غامض وديني ـ كل أهميته). لم يكن العراق ليصل إلى هذا لولا استبداد صدام وسحقه للمجتمع، وسعيه لقولبته وفق ما يرى، وتوظيفه للعائد النفطي في خيارات، إن كان بعضها قد حقق نقلة في الواقع الاجتماعي لا يمكن إنكارها، فبعضها الآخر قابل للنقاش (ما كان يعني عقوبة الإعدام هناك)، حتى من قبل ما تُهدر في حروب عبثية. لم تكن سوريا لتصل إلى هذا لولا منطق النظام القائم فيها، والذي لم يتوقف يوماً عن تغليب مصالح شرائح نيوبرجوازية طفيلية كان يدعمها أو ينتجها بنفسه، وتضخيم أجهزة الأمن والمخابرات بغاية الاستمرار بالإمساك بالسلطة، وهو الهدف الذي حل تماماً محل أي تصور برنامجي يخص المجتمع. ولولا إثارته لقدر غير معقول من الفساد المصاحب لكل هذا، كنمط حكم وتحكم وضبط، وليس كانحراف أخلاقي، لكان الناس دافعوا عن العراق بوجه الأميركيين، لكانوا أكلوهم بأسنانهم، ولكان الناس دافعوا عن سوريا بوجه إسرائيل وأميركا وقطر معاً، ولكانوا قطعوهم إرباً، لولا أنهم أُفقروا وأُذلوا وبدا لهم غدهم قاتماً، وليس حاضرهم فحسب.

وهكذا فالسؤال هو: كيف تجابَه الامبريالية وإسرائيل وأميركا بنجاح، وليس تناول الموضوع من آخر سطر فيه، وبعدما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، وافتراض أن تلك المجابهة تتقرر في اللحظة الراهنة، وهو تزوير للأمر برمته.

الأمر إذاً هو الانحياز للناس، لازدهارهم، لحقهم في العمل والدراسة والطبابة والمسكن اللائقة، لسعادتهم، لإشراق مستقبل أبنائهم في عيونهم، للحرية التي من دونها لا موقف بل قطعان تُُساق، للكرامة الإنسانية التي تجعل البشر يتحدون الموت حين يستلزم الأمر ذلك.

انه عموما، العمل من أجل التغيير الاجتماعي الشامل، واحترام الإبداع، بمقابل نزعات التمسك بالنظام القائم (بمعناه الشامل)، وتقديس التراتبية القائمة، والضبط والتحكم. وبهذا المعنى فقد كان سبارتاكوس، الذي ثار على نظام العبودية، «يسارياً»! وقِسْ على ذلك.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى