صفحات العالم

عن الرؤية الروسية للتسوية في سوريا/ د. مدى الفاتح

 

 

يكثر هذه الأيام وبعد مرور كل هذه السنوات على الأزمة السورية، الاستخدام المكثف لمفردتي «التسوية» و»الإنهاء» دون كلمة الحل. في اعتقادي أن الأمر هنا ليس من قبيل العبث أو المصادفة أو تنويع المترادفات، فهناك فارق كبير بين الحل الذي يرد الكرامة والحقوق ويأخذ على يد الظالم والمعتدي، ومجرد إنهاء الأزمة، حيث أن هذه «النهاية» قد تأتي عبر قضاء أحد الأطراف، الأقوى غالباً، على الآخر وهذا بالتأكيد لا يمكن أن يكون حلاً.

كذلك هو الحال فيما يتعلق بالتسوية، فهي مفردة تعبر عن ضيق ما يسمى بالمجتمع الدولي بمشكلة إقليمية معينة، وتعكس رغبته في إنهائها، خاصة إنهاء الجانب المزعج منها، كمسألة اللاجئين وانتشار الفوضى والهشاشة السياسية التي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على مصالح ذلك المجتمع الدولي.

الوصول إلى تسوية مقنعة هو أمر مهم بالنسبة لدول الإقليم، كما هو مهم بالنسبة للدول الكبرى، التي تحب أن تظهر أمام نفسها وشعبها، على الأقل، بمظهر المهتم بالأزمات الإنسانية والقلق على مستقبل الشعوب.

كل ما سبق ينطبق بشكل تام على الأزمة السورية التي يمكن أن تعد، خاصة في جانبها الإنساني، من أكبر المآسي التي مرت على البشرية بعد الحروب العالمية الكبيرة، وهو ما فرض على أطراف دولية كثيرة التدخل من أجل لعب دور في إنهاء ما بدا وكأنه صداع حاد لا يستطيع أحد تجاهله. للحل الشامل والحقيقي خطوات معروفة، أهمها تقديم المسؤولين عن هذه المعاناة إلى محاكمة عادلة، والعمل على إغلاق الثغرات التي قد تساعدهم على الفرار بجرائمهم. مثل هذا الحل، ولسبب أو لآخر، صعب أو غير مرغوب فيه، ولذلك فقد اكتفت القوى الإقليمية بالحديث عن التسوية وإنهاء الأزمة بأي ثمن، ولو كان عبر إجراءات للقضاء على ما تبقى من الشعب الثائر، أو الذي قد يثور مستقبلاً.

إذا كان هذا يمثل حال معظم اللاعبين الإقليميين، فلماذا التركيز على الرؤية الروسية دون غيرها؟ في الواقع فإن السبب يعود لأهمية الدور الروسي الذي أصبح رئيساً، فيما يتعلق بحاضر ومستقبل الدولة السورية، بعد تراجع الأطراف الأخرى، خاصة التي تملك رؤى بديلة ومناقضة لوجهة نظر موسكو وطريقتها في إدارة الأمور. هنا يجب الاعتراف بأن الرؤية الروسية، ظلت إلى حد كبير متسقة مع نفسها وثابتة، مقارنة بالتحركات المنافسة التي كانت على شكل خطوات مرتبكة ومتراوحة بين الأمام والخلف. على سبيل المثال فإننا نذكر كيف كانت الولايات المتحدة جادة في عزمها مساعدة الثوار وتنحية بشار الأسد خلال العام الأول للأحداث، بل إن الأنباء نقلت أن عام 2012 قد شهد مقترحاً من مجلس الأمن القومي الأمريكي بتسليح المعارضة، وآخر من المخابرات الأمريكية متعلقاً بوضع تصور لكيفية تنحية الأسد. إلا أن هذا العزم سرعان ما تبدل بعد وضوح سيطرة «الإسلاميين» على المشهد، وهناك قال السيناتور ريتشارد بلاك، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فيرجينيا، مقولة شهيرة، مفادها أن سوريا هي مركز الثقل الذي إن سقط بيد الإسلاميين فإن ذلك سيعني سقوط أوروبا الحتمي، ونهاية الحضارة الغربية على يد المسلمين.

لم تكن خشية بلاك والتيار المتطرف الذي يمثله، تنبع من قلقه بشأن انتشار الإرهاب والفوضى، بقدر ما كانت تنبع من الكابوس الذي تمثله الرايات الإسلامية، والدعوات لإحياء المجد التاريخي، واستعادة الدور الحضاري للإسلام، عبر الانتقال من دول الخضوع لنظام عالمي ظالم، إلى دول تبحث عن مصالح شعوبها وتطلعاتها، التي من أهمها حق الغالبية في حكم نفسها وممارسة دينها وعقيدتها.

أما تنظيم «الدولة» الفوضوي فقد قدم خدمة كبيرة لتيار الخوف من الإسلام ذاك، ففي حين كان ذلك الاتجاه يبحث عن وسيلة لتشويه الدين الإسلامي والتشكيك في دوره الحضاري واتهام ممثليه، فإذا به يفاجأ بجماعة تطلق على نفسها «الدولة الإسلامية» وتمعن في احتراف القتل وأعمال الترويع مما شكّل هدية مجانية، خاصة أن أولئك الأدعياء استخدموا الكثير من المال والدعاية لإظهار أنفسهم كممثل شرعي ووحيد لحقيقة الإسلام. هكذا لم يعد مطلوباً من «الاسلاموفوبيين» نشر الأكاذيب أو محاولات التشويه الكاذبة أو المفضوحة، فما عليهم سوى الترويج لما ينشره ويكتبه ممثلو «الدولة الإسلامية» الذين لم يسلم من شرهم حتى أبناء جلدتهم من المسلمين.

تم توظيف هذا التنظيم بشكل جيد، وسواء كان أفراده من الواعين بذلك أو المخدوعين، فإنهم إنما كانوا تروساً في ماكينة كبرى، كان من أهدافها الوصول إلى هذه الحالة الرمادية، التي أصبح أقصى طموحها تسوية المسألة السورية عبر تبديل الأولويات وإظهار دحر الإرهاب كهدف رئيس.

أما ما ميّز الرؤية الروسية فهو تجاهلها لكل هذه التعقيدات، وثباتها على منطق واحد يتم تكراره بشكل أو بآخر على مدى السنوات الماضية، وهو المبني أولاً على أن الأحداث في سوريا ليست ثورة، وإنما محاولة غربية امبريالية من أجل تغيير نظام صديق لروسيا لمجرد أنه لا يعجبهم. هذا يعني أن القائمين على هذه «الأحداث» هم مجرد عملاء، أو على تقدير آخر مجرد مخربين ومغرر بهم.

من هنا يأتي ربط موسكو محاولات التدخل الغربية في الشأن السوري بتدخلاته سيئة الصيت في العراق وليبيا، التي أفضت إلى حالة مركبة من الفوضى. يأتي هذا مع التحذير، خاصة في إطار العالم الثالث، من مغبة تمرير النوايا الأمريكية في تغيير الأنظمة التي لا تروقها. هذا المنطق خلق انقساماً لدى المتعاطفين مع المسألة السورية، فهم من ناحية يريدون إنهاء معاناة الشعب الأعزل، الذي يرونه يعاني القتل والحصار والتجويع، ومن ناحية أخرى لا يريدون دعم خيار التدخل والإطاحة بالنظام، حتى لا يتم تثبيت ذلك كسابقة قانونية قد ترتد على دولهم لاحقاً.

ثانياً، يشدد المنطق الروسي على إثبات شرعية النظام السوري، واعتباره ممثلاً لسوريا، وبهذا فإن كل من خرج على الدولة هو مجرم أو إرهابي يستحق العقاب وكذلك فإن كل الأطراف التي تدعم المعارضة المسلحة هي أطراف داعمة بشكل أو بآخر للإرهاب. وأخيراً، يرى الروس في تبسيط، هم أعلم من غيرهم بعبثيته، أنه إذا كانت المسألة مسألة حرية وديمقراطية فإنه يجب العودة إلى طاولة المفاوضات، ثم الدعوة لانتخابات حرة ونزيهة واحترام نتائجها، وهذه هي الوسيلة الوحيدة المقبولة لتغيير النظام.

بين ذلك كله كانت المسألة بالنسبة للروس هي مسألة تحدٍ وإثبات وجود خاصة في الفترة الأولى، التي بدا الغربيون فيها، خاصة الأمريكيين، داعمين للثورة فقد أرادت موسكو إثبات أنها ليست من دول الهامش وأن بإمكانها أن تغيّر مسار الخطط الغربية. هذا طبعاً قبل أن يتغير ذلك المسار بشكل تلقائي، وتصبح الولايات المتحدة غير جادة أساساً في حسم المسألة السورية بشكل عادل.

تعيش روسيا اليوم نشوة الانتصار، بعد أن استطاعت فرض رؤيتها للتسوية في سوريا، لكنه في الواقع انتصار زائف، فالولايات المتحدة لم تتراجع عن محاولات إسقاط النظام السوري، بسبب صموده وبسالته، أو بسبب الخوف من ردود الأفعال الروسية، كما يروّج إعلام «المقاومة» الذي يدعي الانتصار على الامبريالية والصهيونية، ولكنها تراجعت بسبب إعادة تفكيرها في مصالحها وعلاقاتها في تلك المنطقة المسماة بالشرق الأوسط، خاصة بعد أن اتضح للعيان أن الكيان الصهيوني ليس قلقاً من استمرار النظام الأسدي كجار، بقدر خشيته من مستقبل مجهول على يد قادة جدد قد لا يصبرون على احتلال أراضيهم وعلى مجاورة مغتصبها.

كاتب سوداني

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى