صفحات سورية

أبكم لا يتكلم

 


سعاد جروس

لعل أصدق وصف لحال عمل المراسلين الصحفيين في بلادنا، ما قاله زميل يعمل لمصلحة إحدى وسائل الإعلام الأجنبية خلال تغطية أحداث الأسبوع الماضي في سوريا: «إن عملنا الصحفي صار عبارة عن نفايات لا قيمة له»، وذلك في معرض الحديث عن دور فيديو الموبايل الذي يزود به ناشطون وهواة مواقع انترنت متخصصة لحظة بلحظة، إذ لم يعد الأمر يقتصر على تسريب معلومات من السهل القول إنها محض شائعات، عندما لا نرى آثارها على أرض الواقع، بل صارت المعلومات مدعمة بصور فيديو موبايل، تُبث على الانترنت وتتلقفها التلفزات بسرعة تتجاوز الزمن اللازم لتحرك المراسل على الأرض للتحقق من حصولها. ويمكن القول عموماً، إنه في أحداث الشهور الأخيرة على الساحة العربية، لم يكن المراسلون يقومون بملاحقة ما يجري، وإنما يجهدون للتحقق مما جرى، وتحديد حجمه، وتوضيح صورته، وصياغة رواية متكاملة تُستخلص من كمّ هائل من المبالغات المتدفقة من كل الاتجاهات؛ عمل عدا مشقته البالغة، يحتاج إلى وقت لا توفره سرعة تتابع الأحداث وتدفق صور الهواة، وبالتالي يجعل منه عملاً بلا قيمة، لأن الوقت لا ينتظر، فما أن يتم التحقق من صحة واقعة، تكون قد صارت من الماضي.

من هذه الناحية، زادت صعوبة المراهنة على تحقيق سبق إعلامي، بعدما انتزع الهواة مكاناً متقدماً في العملية الإعلامية، التي صارت تتغذى على ما ينتجونه من مواد إعلامية، وإن كانت غير احترافية. في هذا المشهد الكاريكاتوري، انقلبت فيه المعادلة، فلم يعد الإعلام يلاحق الحدث وإنما الحدث يلاحق الإعلام، والعاملون في غرفة التحرير تحولوا من صنّاع للمادة الإعلامية إلى متلقفين لها، تأتيهم من الانترنت وعبر الهاتف، وبدورهم يمررونها إلى المراسل في الميدان للتأكد منها، بما يعنيه ذلك من مكابدة في ظروف سياسية دقيقة تقيد الحركة والتحري، غالباً لا تفضي إلى شيء ذي قيمة، حتى تكاد تنتفي الحاجة للمراسل في الميدان، فالمعلومات تطير من فوق رأسه إلى غرفة التحرير مباشرة، ومعها أيضا شهادات لـ«شهود العيان» يتصلون هاتفياً وعلى الهواء مباشرة يقولون ما يريدون قوله على الضد من سياسات التعتيم، حتى منسق العلاقات العامة الذي يجهد في البحث عن محللين يتوافقون مع سياسات مؤسسته للدلو بدلوهم لتفسير ما يجري، سيجد نفسه حائراً أمام محللين وناشطين يبادرون للاتصال والتبرع بوجهات نظرهم ومعلوماتهم.

هذا التدفق المعاكس للمعلومات من المتلقي نحو الوسيلة، يحشر صدقية المؤسسة الإعلامية في الزاوية، فإما أن تتقبل تلك المواد وتعرضها بحيادية، حتى لو كانت على الضد من سياساتها الإعلامية، وإما تشيح النظر عنها وتخسر صدقيتها لدى الجمهور، أو على الأقل لدى الطرف المعني الذي لن يوفر فرصة للتشهير بها على مواقع الانترنت.

المأزق الذي يواجهه الإعلام كبير جداً، وحسبنا متابعة يوم عمل واحد للمراسلين لندرك حجم التحدي الذي يعيشونه في كل لحظة، وعلى سبيل المثال: تُبث في مواقع التواصل الاجتماعي دعوات للاعتصام والتظاهر مع تحديد الزمان والمكان، فيسارع المراسلون وقد سبقتهم عناصر الأمن إلى تلك المواقع ويرابطون لساعات عديدة، وكأنهم هم الذين ينفذون الاعتصام الصامت. وما أن يعود كل إلى مواقعه غاضباً من الأنباء الكاذبة، حتى يظهر شريط فيديو لمدة دقائق معدودة أو ثوان خاطفة لتظاهرة احتجاجية لعدد محدود من الأشخاص يهتفون سريعا ويتفرقون بسرعة البرق، إما في المكان نفسه أو مكان آخر لم يعلن عنه مسبقاً، فيعود المراسل أدراجه للتحري والسؤال، هل هذا حصل هنا فعلاً ؟!

هكذا يمضي المراسلون يومهم في لعبة القط والفأر، يحومون في مكان بينما يصنع الحدث في مكان آخر، وفوقها مطلوب منهم توخي الحذر والدقة في نقل حدث يسمعون عنه ويرونه في الانترنت والتلفزيون ولا يرونه بالعين المجردة على الأرض!!

ومع هذا فإن كل تلك المصاعب في كفة، ومساءلة المراسل عما تبثه وسيلته الإعلامية الخارجية حول ما يجري في كفة أخرى، فهو مطالب دائماً بتقديم براءة ذمة عن عمل لم يقم به، وتعهد جنتلمان بألا يقوم به، فالخطأ في هذه الظروف الدقيقة بمثابة ذنب لا يغتفر.

وما بين سندان السلطة التي تفضل المراسل صامتاً ومطرقة الطرف الآخر الذي يريده ناطقاً باسمه، يتوجب على المراسل الانحناء أمام عاصفة أي من الطرفين إن هبّت، مع أن البساط سحب من تحت المراسل الميداني، والتضليل لم يعد حكراً على الإعلام، هذا إن لم نقل إن وسائل الإعلام ذاتها باتت فريسة لآلية التضليل من الجانبين. ففي ظل ثورة وسائل الاتصال التي جعلت من أي شخص عادي مراسلاً ميدانياً، ويمكن لأي كان أن يمارس مهام رئيس تحرير موقع الكتروني، بات الانفتاح الإعلامي واقعاً مفروضاً، لا يمكن التعتيم عليه، ولا حجبه، بل أن المكاشفة التامة أفضل الطرق لمواجهته ومعالجته.

اللافت في هذا المشهد، أنه منذ احتلال العراق كان الحديث دائماً عن أن الحرب الدائرة في كل أنحاء العالم هي حرب إعلامية، يؤازرها اليوم العالم الافتراضي، ومع ذلك فإن السياسات الإعلامية الرسمية العربية ظلت على حالها لا تتغير، ولا تعترف بالواقع الى حد أنه في المقابل لم يعد يعترف بها، ومهما بلغت درجة صدقيتها في مواجهة الشائعات لن تجد من يصدقها. طالما هي مصرة على التعامل مع مشاهد فرض نفسه شريكاً في صناعة الإعلام، كمتلق سلبي أعزل يسمع… يرى… يصفق… والأهم أبكم لا يتكلم.

سعاد جروس

الكفاح العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى