صفحات الثقافة

الرئيـس القـادم مـن ألـف ليلـة وليلـة


نبيل سليمان

دأبت الإبداعات العربية على الحفر في (ألف ليلة وليلة) فيما العين متعلقة بزمن تلك الإبداعات. وكذلك كان شأن الدراسات التي تعلقت بها، أو بـ (ألف ليلة وليلة).

وقد أصابتني لوثة هذه (العصرنة) أو (الترهين) منذ عقود، لكنني ظللت أداورها حتى تمكنت مني أثناء محاولاتي دراسة ما كتبت الرواية العربية من سيرة الديكتاتور والديكتاتورية، حيث برز تأثيل هذه السيرة في (ألف ليلة وليلة) في روايتيّ (المخطوطة الشرقية) و(الجملكية) لواسيني الأعرج، وفي رواية (رسمت خطأ في الرمال) لهاني الراهب، على سبيل المثال.

وإذا كان الديكتاتور قد حمل في نسبه الألفليلي العتيد لقب الملك أو السلطان أو الخليفة، فهو لم يحمل لقب الرئيس الذي تردد في الرواية العربية المعاصرة، من بين ألقاب شتى. ولكن ماذا لو جرب المرء أن يُحِل (الرئيس) محل الملك أو السلطان أو الخليفة في (ألف ليلة وليلة)؟

نزهة الزمان تتكلم في سياسة الرؤساء

في حكاية (الرئيس) البغدادي عمر بن النعمان مع ابنه شركان، يعلن الابن غيرته من أخويه غير الشقيقين ضوء المكان ونزهة الزمان، فيعينه أبوه رئيساً على أكبر ما في رئاسته: قلعة دمشق. ولما وصل إليها دق أهلها الكاسات وصاحوا بالبوقات وزينوا المدينة وقابلوا الرئيس شركان بموكب عظيم. عبر ذلك كان ما كان من اختفاء ذينك الأخوين، إلى أن غدت نزهة الزمان جارية، لن يعرفها أخوها الرئيس شركان حين يشتريها ولن تعرفه. وفي مجلسه في الليلة الموفية للستين، تتكلم نزهة الزمان في سياسة الرؤساء، فترى مما لا يزال يخاطب زماننا أن الرئيس يحتاج إلى كثير من الناس، وهم محتاجون إلى واحد. وترى أن رئيس الهوى هو من لا دين له إلا اتباع هواه، وهو هذا الذي لا يخشى «سطوة مولاه الذي ولاّه» فمآل رئاسته إلى الدمار، ونهاية عتوّه إلى دار البوار». ومن حِكم نزهة الزمان قولها إنه على قدر أخلاق الرئيس يكون الزمان»، وهي الحكمة التي فتقها أحمد محمد الشحاذ في كتابه (الملامح السياسية في حكايات ألف ليلة وليلة ـ 1977) فرأى أن الزمان هو الملك أو الناس أو السلطان، وقد فاته أن يضيف: أو الرئيس. أما نزهة الزمان فقد تابعت القول إنه لولا ردع الرئيس للناس عن بعضهم لغلب قويهم ضعيفهم. وفي زعمي أن هذا لا يستقيم اليوم كما لعله لم يستقم يوماً. فالرئيس في الغالب الأغلب ينصر القوي على الضعيف. ومثل هذا قول نزهة الزمان إن على الناس أن يتخذوا رئيساً يدفع الظالم عن المظلوم وينصف الضعيف من القوي ويكف بأس العاتي والباغي.

في واحدة من سفاح المحارم في (ألف ليلة وليلة) يتزوج الرئيس شركان من نزهة الزمان. وللحفل ـ في الليلة 67 ـ دعيت كل «مغنية في دمشق فحضرن وكذلك جواري الرئيس الكبار اللاتي يعرفن الغناء وطلعن جميعهن إلى القصر فلما أتى المساء وأظلم الظلام أوقدوا الشموع من باب القلعة إلى باب القصر يميناً وشمالاً ومشى الأمراء والوزراء والكبراء بين يدي الرئيس شركان وأخذت المغاني والمواشط الصبية لتزينها وتلبسها فرأتها لا تحتاج إلى زينة».

وما دمنا في دمشق الألف ليلية، فلنتابع في الليلة 137 حكاية إعطاء الرئيس البغدادي ضوء المكان رئاسة دمشق للوقاد الذي أنقذه عندما كان فتى تائهاً في القدس. وقد لقب الرئيس البغدادي الرئيس الدمشقي بـ(الزبلكان)، فسبقته الأخبار على أجنحة الطيور، حتى إذا وصل «زينت له المدينة وخرج كل من في دمشق للفرجة ودخل الرئيس إلى دمشق في موكب عظيم».

على هذا النحو تتحول المناسبات الرئاسية إلى أعياد، مهما تكن شخصية، كما في الليلة 711، حيث جاءت البشرى إلى الرئيس عاصم بن صفوان بحمل زوجته خاتون، فأمر وزيره «انزل في هذا الوقت وأخرجْ كل من كان في الحبس من أصحاب الجرائم ومن عليهم ديون وكل من وقع عليه ذنب بعد ذلك نجازيه بما يستحقه ونرفع عن الناس الخراج ثلاث سنوات وانصب في دائرة هذه المدينة مطبخاً حول الحيطان وأمرْ الطباخين أن يعلقوا عليه جميع أنواع القدور وأن يطبخوا سائر أنواع الطعام ويديموا الطبخ بالليل والنهار وكل من كان في المدينة وما حولها من البلاد البعيدة والقريبة يأكلون ويشربون ويحملون إلى بيوتهم وأمرْهم أن يفرحوا ويزينوا المدينة سبعة أيام ولا يقفلوا حوانيتهم ليلاً ولا نهاراً». وفي خاتمة (ألف ليلة وليلة)، في الليلة 1001 غاية ما ينبض بهذه الشخصنة الرئاسية. فبعدما قدمت شهرزاد لشهريار أولاده الثلاثة منها «خلع على كافة الوزراء والأمراء وأرباب الدار وأمر بزينة المدينة ثلاثين يوماً ولم يكلف أحداً من أهل المدينة شيئاً من ماله بل جمع الكلفة والمصاريف من خزانة الرئاسة فزينوا المدينة زينة عظيمة لم يسبق مثلها ودقت الطبول وزمرت الزمور ولعب سائر أرباب الملاعب وأجزل لهم الرئيس العطايا والمواهب وتصدق على الفقراء والمساكين وعمَّ إكرامه سائر رعيته وأهل رئاسته وأقام هو ودولته في نعمة وسرور ولذة وحبور حتى أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات».

وهو إذن العفو الرئاسي في الليلة 711 والعطاء الرئاسي فيها وفي خاتمة الليالي، تماماً كما هو في أية ليلة من الليالي العربية السعيدة المعاصرة.

الموت الرئاسي

لكن هادم اللذات ومفرق الجماعات بالمرصاد، ليس فقط في الخاتمة، بل منذ الليلة 451 والليلة 452 والليلة 462، حيث حكاية ملك الموت مع رئيس من الرؤساء، كان قد جمع مالاً عظيماً واحتوى على أشياء كبيرة، حتى إذا أراد أن يتفرغ لما جمعه من النعم الطائلة، بنى له قصراً «وأمر الطباخ أن يصنع له شيئاً من أطيب الطعام وجمع أهله وحشمه وأصحابه وخدمه ليأكلوا عنده وينالوا رفده وجلس على سرير رئاسته وسيادته واتكأ على وسادته وخاطب نفسه وقال يا نفس قد جمعت لك نعم الدنيا بأسرها والآن تفرغي وكلي من هذه النعم مهنأة بالعمر الطويل والحظ الجزيل، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح». فلما كانت الليلة 463 حضر ملك الموت ورفض أن يأخذ عن الرئيس بديلاً وخاطبه «ما أتيت إلا من أجلك لأفرق بينك وبين النعم التي جمعتها والأموال التي حويتها وخزنتها». فلعن الرئيس المال، فأنطق الله المال فقال: «إلعن نفسك أنت جمعتني على هواك وفي هواك أنفقتني».

التخليد الرئاسي = التوريث وما يلتبس به

يحسب الرئيس الألفليلي أنه خالد مخلد فيها أبداً. وفي هذا السياق يأتي ما يأتي من التوريث، ومما يلتبس بأنه ليس منه، وما هو إلا منه. فعندما يجتمع الأمراء والكبراء وأرباب المناصب في حكاية الرئيس عمر بن النعمان، لينتخبوا خلفاً للرئيس الراحل، يجيئون بابنه ضوء المكان. وليس طلب الرئيسة زمرد من العسكر وأرباب الدولة انتخاب خلف لها، إذ عزمت على الرحيل، إلا الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، مثله مثل ما في حكاية قتل عجيب لأبيه كندمر. فالرئيس المقتول كان شجاعاً وقرماً مناعاً وقد رزق بعجيب الذي فاق أهل زمانه وهو فتى «فصار يقطع الطرقات ويسبي بنات الرؤساء والسادات، وكثرت فيه لأبيه الشكايات فصاح الرئيس على خمسة من العبيد فحضروا فقال لهم امسكوا هذا الكلب فهجم الغلمان على عجيب وكتفوه وأمرهم بضربه فضربوه حتى غاب عن الوجود وسجنه في قاعة لا يعرف السماء من الأرض ولا الطول من العرض فمكث يومين وليلة محبوساً فتقدم الأمراء إلى الرئيس وقبلوا الأرض بين يديه وشفعوا في عجيب فأطلقه فصبر عجيب على أبيه عشرة أيام ودخل عليه في الليل وهو نائم وضربه فرمى عنقه فلما طلع النهار ركب عجيب على كرسي رئاسة أبيه وأمر رجاله أن يقفوا بين يديه فلما دخل الأمراء والمقدمون وجدوا رئيسهم عجيب مقتولاً وابنه جالساً على كرسي رئاسته فتحيرت عقولهم فقال لهم عجيب يا قوم لقد رأيتم ما حصل لرئيسكم فمن أطاعني أكرمته ومن خالفني فعلت به مثله فلما سمعوا كلامه خافوا من أن يبطش بهم فقالوا له أنت رئيسنا وابن رئيسنا وقبلوا الأرض بين قدميه فشكرهم وفرح بهم وأمر بإخراج المال والقماش ثم إنه خلع عليهم الخلع السنية وغمرهم بالمال فحبوه وأطاعوه».

ومثل الانتخاب والقتل هي هذه الرئاسة بالتناوب، مما في الليلة 143، عندما أجلس الرئيس البغدادي رومزان بجانبه ابن أخيه كان ما كان، فقال الرجل لعمه: ما تصلح هذه الرئاسة إلا لك، فقال العم: معاذ الله أن أعارضك في رئاستك، فأشار الوزير دندان أن يكون الاثنان في الرئاسة سواء، وكل واحد يحكم يوماً، فارتضيا بذلك. ومثل ذلك كان التناوب أيضاً بين الأخوين الأمجد والأسعد. أما في الليلة 762 فيخلع الرئيس عاصم بن صفوان نفسه من الرئاسة، ويولي عليها ابنه سيف الرؤساء. ومهما يكن من أمر تخليد الرئيس الألفليلي، فالوسم الرئاسي هو هو، مما سماه بوعلي ياسين تابوالحكام، أي ـ في هذا السياق الرئاسي ـ التابو الرئاسي. ومنه في الليلة 41 ما جاء في حكاية غانم بن أيوب وقوت القلوب، حين علم العاشق أن فاتنته هي محظية أمير المؤمنين، إذ جلس وحيداً «يعاتب نفسه ويتفكر في أمره ويصبّر قلبه وبقي حائراً في عشق التي ليس له إليها وصول». وحين ألحت قوت القلوب على غانم بالوصال قال: «أعوذ بالله إن هذا شيء لا يكون كيف يجلس العبد في موضع السبع والذي للمولى فهو على العبد حرام». وإذا كان التابو السابق جنسياً، فذاك هو التابو السياسي الذي يجعل ابن الرئيس وهو قمر الزمان، يغضب من وزير أبيه، فيقبض على لحيته الطويلة «فأخذها قمر الزمان ولفها على يده وجذبه منها فرماه فوق السرير وألقاه على الأرض. فأحس الوزير أن روحه طلعت من شدة نتف لحيته. ولا زال قمر الزمان يرفس الوزير برجليه ويصفعه على قفاه حتى كاد أن يهلكه».

الوصفة الرئاسية

تصوغ (ألف ليلة وليلة) وَصْفَتَها للرئيس المستبد العادل، وذلك في حكاية وردخان. ومن الوصفة أن «الرئيس لا يسمى رئيساً إلا إذا أعطى وعدل وحكم وأكرم وأحسن سيرته مع رعيته بإقامة الشرائع والسنن المألوفة بين الناس وأنصف بعضهم من بعض وحقن دماءهم وكف الأذى عنهم، ويكون موصوفاً بعدم الغفلة عن فقرائهم وإسعاف أعلاهم وأدناهم وإعطائهم الحق الواجب لهم». وفي الوصفة أيضاً أن «حق الرعية على الرئيس أوجب من حق الرئيس على الرعية، إذ إن ضياع حقهم عليه أضرّ من ضياع حقه عليهم لأنه لا يكون هلاك الرئيس وزوال رئاسته ونعمته إلا من ضياع حق الرعية». وفي الوصفة أخيراً ما جاء في قصة الحضري مع عجوز البادية، من أن (رئيس) هذا الزمان يجب أن يكون له «أوفى سياسة وأتم هيبة، لأن الناس الآن ليسوا كالمتقدمين، وزماننا هذا زمان ذوي الوصف الذميم والخطب الجسيم، حيث اتصفوا بالسفاهة والقساوة وانطووا على البغضاء والعداوة».

وقد تكون إشاعة مثل هذه الوصفة، بتهذيب أو من دونه، ومعها ما يتعلق بالتطويب الرئاسي للبلاد والعباد، مما سبقت الإشارة إليه، ومما هو مكنوز في كنز (ألف ليلة وليلة)؛ قد يكون ذلك أمضى فعلاً من بيانات وخطابات ومنشورات وما أدراك.

(كاتب سوري)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى