صفحات الرأي

ثارات الماضي والتاريخ في مرآة أحوال الدول وعلاقاتها/ برونو تيرتريه

 

 

يصيبنا الـــحـــاضـــر وفوضاه بالدوار، فنلجأ على شاكلة الرومنطقيين إلى الماضي، ويشدنا الحنين إليه. وتذكرنا بالقرن التاسع عشر سمة سياسية راهنة هي المنطق الامبراطوري. فحين تعمد موسكو إلى ضم القرم يعلّق جون كيري، صاحب الأطوار الغريبة، بالقول: «في القرن الواحد والعشرين على الدول ألا تنتهج سياسة القرن التاسع عشر!»، ويقر ضمناً بأنه لم يفهم ملاحظة الصحافية أوجيني باستيه: «ها هو العالم القديم يعود»… وتنافس الدول الكبرى، يقع عليه المراقب في آسيا كذلك: ومحللون لا يحصون نبهوا الى الشبه القوي بين بروز الصين وتصديها للولايات المتحدة واليابان وبين بروز قوة ألمانيا إزاء بريطانيا. وتستعيد الصين والهند حصتهما من الإنتاج العالمي والمكانة التي كانت لهما في أثناء القرن التاسع عشر. وسبق للصديقة الراحلة والعزيزة تيريز ديلبيش [صاحبة «التوحش» المنقول إلى العربية] أن كتبت صفحات رائعة في موضوع أصداء أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في الجغرافيا السياسية المعاصرة.

وقد يكون هذا إيذاناً بنهاية التاريخ. ومنذ 1991، مع سقوط الاتحاد السوفياتي، ثم في 2001، مع 11 أيلول (سبتبمر)، وفي 2011، مع الربيع العربي…، تكرر الإعلان عن عودة التاريخ. ولكن الأوروبيين الذين حسبوا أنهم خرجوا من التاريخ لم يلاحظوا الأمر إلا متأخرين. وحين يعود التاريخ على بدئه ويستأنف مسيره، يطفو الماضي على السطح من جديد: فتتجدد النزاعات التقليدية بين الدول الكبرى، وتقع المواجهة بين المثالات السياسية والسرديات الوطنية والقومية التي تدعي انغراسها عميقاً في تربة التاريخ. فتضم روسيا عنوة موطن «معموديتها»، ويزعم «داعش» بعث الخلافة، وتستقوي الصين بخرائط ومخطوطات قديمة لتسوغ وضع يدها على جزر استراتيجية…

ولا يترتب على هذا تخطئة فرانسيس فوكوياما في مسألة تمام التاريخ، شرط حمل مقالته على حرفها. فهو ذهب إلى أن مناقشة الصيغة المثلى للحكم بلغت خاتمتها وحسمت، ولن تجد المجتمعات الحديثة صيغة خيراً من الديموقراطية الليبرالية. وهو لم يقل إن العالم مقبل على أن يصير بين ليلة وضحاها كانطياً: فيسوده سلام دهري مع انتشار الديموقراطية. وهو رأى أن أشكال الحكم الأخرى قد لا تشهد إقبالاً إلا عابراً أو موقتاً. والأرجح أن موضوعة تمام التاريخ غير ناجعة في فهم زمننا وتدبيره. وعلينا ألا ننسى أن المقالة كتبت في 1989، قبل طي الستار الحديدي. وهي تذكرني بتعليق جون ماينارد كينز على توازن السوق بعرضه وطلبه وأسعاره وعمالته على المدى البعيد: «لا شك في ذلك، إلا أننا كلنا على المدى البعيد مائتون! [مصيرنا إلى الموت]». وفي مقدورنا القول إن نظام كوريا الشمالية لا محالة مصيره إلى الانهيار، ولكنه، في الانتظار، مقيم لِتَعْس السكان.

وتشخيص صمويل هينتيغتون لا يستقيم: فتقسيمه العالم إلى 8 حضارات يدعو إلى الحيرة، والصراعات على طول خطوط التصدع الثقافية ليست كلها صراعات حضارات. لكن توقعه لم يجاف المنطق: فالجهاديون وأهل بعض الحركات الإسلاموية، يرون قتالهم على هذا النحو. وترد نخب سياسية وفكرية تنتمي إلى جزء من المعسكر الجمهوري في الولايات المتحدة، بوضعها في البيت الأبيض، على هذا النحو بمثله. وتتردد أصداؤه اليوم في روسيا. والحق يقال إن التشكك في المعنى التاريخي للحوادث يعود إلى 1979. ففي هذا الوقت تحرك فالق الكتل الجغرافية السياسية، وخسرت قطبية الشرق– الغرب الثنائية قوتها على التعليل والتأويل. وهي سنة الثورة الإيرانية، وبداية الميل الباكستاني إلى التطرف والغلو، وغزو أفغانستان، وانتفاضات خلاصية وأخروية. وهذه الحوادث، مجتمعة، هي حاضنة التيارات الجهادية والإسلاموية الغالبة.

وشهدت أواخر سبعينات القرن العشرين ما سماه جيل كيبيل «ثأر الله» مع انتخاب رجل إنجيلي رئيساً للولايات المتحدة، وبلوغ الليكود السلطة في إسرائيل، من غير إغفال دور البابا يوحنا بولس الثاني الكبير. وقد يكون انبعاث حركة كاثوليكية سياسية ومناضلة في فرنسا، في الأعوام الأخيرة (التظاهرة المناهضة لقانون الزواج من غير استثناء في 2013)، أحد مظاهر هذه الوجهة. وأنا أرى أن التيار الإسلاموي والتيار القومي يزدهران معاً على أنقاض الاشتراكية والإفراط الليبرالي، والاشتراكية والليبرالية (المفرطة) إيديولوجيتان تعدان بغدٍ مشرق. وعلى خلافهما، القومية والإسلاموية إيديولوجيتان راسختا الجذور في التاريخ، وتقترحان عودة الماضي بل العودة إلى الماضي. فالتاريخ هو «محروقات القومية ومحركها»، على قول مارغريت ماكميلان.

وتترتب على الاثنتين أخطار من صنفين: على الإسلاموية المتطرفة والأصولية تترتب أخطار مجتمعية مثل إنكار الحقوق الإنسانية وعموميتها، وتعطيل الديموقراطية السياسية في آخر الأمر. وبعض الأنظمة العلمانية رعى العنف السياسي- الديني فوق ما رعته أنظمة دينية. وتترتب على القومية أخطاراً أمنية. وكان فرنسوا ميتران يقول: «القومية مؤداها الحرب». ولا يخلو الاختصار من المبالغة، ولكنه مرآة حقيقة ملموسة: فتأجيج الاهواء الشعبية والعامية قد يستحيل ضبطه. وهذا ما يدركه النظام الصيني، وهو يلعب بالنار بينما يحاول مراقبة جهاز الحرارة.

وبعضهم يذهب الى ان القومية المعتدلة هي خير حماية من الاصولية الاسلامية. ويساورني الشك في وجود صيغة معتدلة من الايديولوجيتين. ويذكرني هذا بالبحث عن «طالبان معتدلين»، عبثاً منذ 2001. ولماذا لا نلتمس وجود «نازية ذات وجه انساني» في الاثناء؟ فبعض الايديولوجيات يسكنها عنف يجعل محالاً عليها الميل الى الاعتدال. وهي تستقوي بموجبات تتفوق على كل القوانين والشرائع والقواعد. وإذا قصد بالقومية المعتدلة الوطنية، فهي فضيلة من غير شك، ولا تبطن بذور انحرافات خارجية من نمط امبراطوري. ولكنها ليست حماية تامة ومضمونة من الاصولية الاسلاموية. وهذه ليست على الدوام دولية أو أممية جامعة، وقد تلبس حلة محلية، على مثال السلطة التركية التي جمعت القومية إلى الإسلاموية في مركب بديع!

وينيجل فاراج (الشعبوي البريطاني) وبوتين وترامب وأردوغان هم صور عن ثأر ماضٍ متخيل ومؤسطر، «مركب» إذا شئنا. ويشترك هؤلاء القادة في مشاطرتهم تطلعات سياسية وثقافية عميقة، شعبية المصدر، ومماشاتهم لفظ بعض أشكال التقدم التي تصحب الحداثة وتبعث على الدوار. ويفضي هذا إلى سعي في إحياء الجذور رداً على تحلل الهويات في حمام العولمة العريض.

ولكن وجوه الشبه تقتصر على هذا. فبوتين وأردوغان يريدان توسيع حدود دولتيهما، رمزياً أو عسكرياً. وعلى خلافهما، يريد فاراج وترامب استعادة حدودهما. وعلى هذا فثأر التاريخ يتجلى في صورتين: يحاول العالم الغربي وصل ما انقطع من ماضٍ سبق العولمة والهجرات بينما تمجد البلدان الناشئة تاريخاً قديماً. وفي كلتا الحالين، الماضي ذريعة إلى إحياء الأمم المتجددة هوية قومية أو إلى بلورة الأمم الجديدة هويتها. وهم ينزعون إلى الامبراطورية المتسلطة، ونازعنا نحن إلى «الانطواء الكبير».

والقياس على الماضي وسوابقه ومثالاته، في عالم صاخب لا يُسمع فيه إلا الصراخ، نهج لا يحتمل. والحرب العالمية الثانية مستودع أقيسة لا ينضب: فكل حاكم متسلط يُحمل على هتلر، وكل مساومة سياسية وديبلوماسية تقارن بميونيخ، وكل مجزرة أوشفيتز جديدة. والإفراط في المقايسة يقود إلى الغلط في التشخيص والتوقع، ويلهب الرؤوس من غير طائل. وبعضهم يتوسل بالقياس عمداً: فروسيا تزعم أنها تخوض في أوكرانيا اليوم حربها على ألمانيا النازية في 1940. ومن ناحية أخرى، لا تشبه أحوالنا الاقتصادية أزمة عقد 1930: فلم يتداعَ اقتصاد بلد كبير واحد، وروابط المسلحين لا تتظاهر في الطرق، والشعبوية ليست الفاشية، والحرب لا يرغب فيها أحد.

وحذار التلاعب بالتاريخ! فهو يصيب الشعوب بالعمى. وينبغي ألا يدهشنا انبعاث حركات نازية جديدة في بعض بلدان الاتحاد الأوروبي، ولا تجدد الميول الستالينية في روسيا. فهما ثمرة تخلٍ عن مراجعة النفس وإعمال الذاكرة. وليس في مقدور روسيا والصين الاضطلاع بالمسؤولية عن جرائم الماضي، لذا فهما مريضتان بتاريخهما. والشائع في الشرق الأوسط أن الغربي، المستعمر، مسؤول عن كل شيء، وإذا اشتعلت المنطقة فالذنب اقترفته اتفاقات سايكس وبيكو! أو اقترفه اليهود… وقلما أرسى العصاب الجماعي الاستقرار والسلم. والتذرع بالماضي إلى أغراض راهنة يجعل السرديات القومية على طرفي نقيض. وأرى أن ما قاله فرانتز- فالتز شتانماير (الرئيس الألماني) في سلم معاهدة فيستفاليا (1648) صحيح، فهو قال: «إذا أردنا السلم فمن العسير أن نحصل معه على الحقيقة والشفافية والعدالة جميعاً».

* باحث في الجغرافيا السياسية واختصاصي في مسائل الدفاع، عن «لوفيغارو» الفرنسية، 19/5/2017، إعداد منال نحاس.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى