صفحات الثقافة

أفول بيروت الثقافية : انكفاء النخب وتراجع المشترك/ فيديل سبيتي

 

 

قبل بضعة أشهر عقدت جلسة نقاش حول طاولة مستديرة في “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في بيروت، تحت عنوان “لماذا أفلت الصحافة الثقافية في لبنان؟”، وكانت الأسئلة المطروحة في الجلسة تتمحوّر حول الأوضاع الثقافية في لبنان بمرآة الملاحق الثقافية في الصحف التي أغلق معظمها، في إطار الأزمات المالية التي تعاني منها الصحف. ومن الأسئلة المطروحة: هل ارتبط ازدهار الصحافة الثقافية وملاحقها الأسبوعية في لبنان، وأفولها، بموجات وأطوار ثقافية – اجتماعية؟ وإذا صحَّ أن الصحافة الثقافية البيروتية كانت مختبراً لتجارب كتّاب كثيرين وبروزهم منذ ستينيات القرن العشرين وحتى نهاياته، فلماذا تقلّص هذا الدور وانتهى اليوم؟ وما صلة هذه الأحوال المستجدة بالدور الثقافي للبنان وأفوله؟

في ما آلت إليه الأحوال

انطلاقًا من جلسة الحوار هذه، يمكن إلقاء الضوء على آراء ثلاثة من مؤسسي ومسؤولي ملاحق ثقافية في الصحف اللبنانية وهم من المؤثرين على المستوى الثقافي العربي كما اللبناني، وهم شاعران وروائي، أي الشاعر عباس بيضون، من ملحق السفير الثقافي، والشاعر عقل العويط، من ملحق النهار، والروائي حسن داوود، من ملحق المستقبل. وستكون آراؤهم بوصلة لرصد الوضع الثقافي البيروتي، مدى دوامه أو أفوله، وما إذا كانت بيروت ما زالت تستحق لقب “عاصمة الثقافة” الذي حملته طويلاً، سواء استحقته في أحيان ولم تكن تستحقه في أحيان أخرى، خصوصًا في سنوات الحروب الأهلية اللبنانية المديدة والمتناسلة.

كان رأي عباس بيضون أن الأزمة تشمل الصحافة كلها، وتكاد تكون صامتة، إذ إن الضجة التي تتصاعد حولها هي أقرب إلى أن تكون خرساء. إنها تنكسر في الضجيج العام ولا ترتفع إلا لتعود فتتبدّد من دون أن يتردّد صداها… كثيرون لا يفعلون سوى انتظار أن تتوسع الفضيحة وأن تنكشف خباياها. كثيرون ينتظرون أن يتداعى البلد وتتداعى معه أركانه ومقوماته. أما أزمة الصحافة اليوم، فعدا عن كونها جزءاً من أزمة البلد وربما من أزمة المنطقة، فهي أزمة تشير إلى انعدام دور النخب وتراجع الثقافة المشتركة. الأمر الذي يعني أن لبنان الذي كان في طريق الدولة والاندماج الاجتماعي، قد ضاع كلياً عن هذا الطريق. وهو الآن في حال من التذرّر والتداعي.

الروائي حسن داوود رأى أن الثقافة تعيش حالة تراجع، خاصة في مجال نشر الكتب وبيعها، إضافة الى تراجع القراءة، اذ لم نعد نجد قرّاء في لبنان.

أما الشاعر عقل العويط، فردّد قائلًا: لو كنت صاحب مؤسسة إعلامية في لبنان لكنت اتخذت الإجراء الذي يقضي بإلغاء الصفحات المحلية في الجريدة والمانشيت فيها، لأجعل المادة الثقافية رأس الحربة التي على الجريدة أن تعبّر عنها سياسياً. وتمنى العويط لو يصار إلى إصدار ورقة حقوقية حول ما يعيشه المجتمع اللبناني بكل تعقيداته اليوم. وتطرق إلى أيام زاهية عاشتها بيروت حتى في زمن الانقسام ما قبل الحرب (1975)، لكنه كان انقساماً مثمراً نجمت عنه حياة ثقافية وشراكة. وحتى في زمن الحرب، وبعد توقفها، بقيت الثقافة وملاحقها تتحلى بالهيبة المعنوية. ولكن عندما سقطت هذه الهيبة أخيراً، ولم يعد من قيمة لرأي أي كاتب، فإن الصحافة سقطت.

ثقافة منقسمة ومنحدرة

هذه الآراء الثلاثة تعبّر تمامًا عن وضع الثقافة في بيروت، إذ إن أصحابها من صانعي جزء من الثقافة البيروتية عبر الكتابة الصحافية والأدبية وعبر نقد الظواهر الثقافية على اختلاف أنواعها، وإذا كان هؤلاء المتحاورون أو الذين يدلون برأيهم في موضوع يخصهم يبدون متشائمين، فإنهم يعبّرون عن الحال التي وصلت إليها الحياة الثقافية البيروتية، مع ما يمكن أن يضاف إلى ما أدلوا به، أي أن الحياة الثقافية في بيروت كما في غيرها من المدن لا تنفصل عن مجالات الحياة الأخرى في الاجتماع والاقتصاد والرخاء والرفاه. وانقسام المجتمع اللبناني السياسي والطائفي والمناطقي، عموديًا وأفقيًا، لا بد أنه يؤثر في الإنتاج الثقافي العام. ففي أثناء تصاعد الهموم المعيشية والبطالة والقلق مما ستؤول إليه أحوال البلاد في ظل حروب كثيرة محيطة بالبلد الصغير، تصبح الثقافة حينها لزوم ما لا يلزم، أو لنقل واحدة من الكماليات المقتصرة على المرفهين أو الراغبين بالاعتقاد أن الثقافة ذات تأثير ما في الأوضاع، وهو أمر غير مؤكد، بل وقد يكون أضغاث أحلام. فالبلاد والشعوب التي يؤثر فيها المثقف والثقافة هي شعوب مثقفة بدورها، بينما نجد في لبنان كما في دول العالم العربي الأخرى نسبة الأمية المرتفعة، والعدد القليل للقراء من بين المتعلمين، وليس أدل على ذلك سوى الكتب الأكثر مبيعًا في معارض الكتب وعلى رأسها معرض بيروت للكتاب، حيث تتصدّر كتب الأبراج والتنبؤات والطبخ، لائحة المبيع. بينما لا يزور معارض الرسم سوى عدد قليل من المهتمين وأصدقاء الرسم، بينما معارض الفنون “الما بعد حداثية” تبدو وكأنها تسقط من الفضاء الخارجي على حياة ثقافية شبه ميتة، فلا يستسيغها المثقفون ولا المتثاقفون، وتبقى في أطر الاهتمام الخاص لأشخاص معينين معنيين بهذا النوع من الفنون في بيروت، التي باتت دارجة وعلى الموضة كما يقال، حينما فجأة تبرز ظاهرة ثقافية ما وتتكرر وتنقل العدوى من مكان الى آخر ولكن في إطار همروجة لا تؤثر بأي شكل في تطوير أو تشكيل حياة ثقافية ذات شكل محدد.

لماذا كانت بيروت عاصمة للثقافة؟

منذ بدايات القرن العشرين عاشت بيروت نهضة تعليمية كانت رافعتها الأساسية مدارس الإرساليات وجامعتاها المتنافستان في بيروت: القديس يوسف للمرسلين اليسوعيين الكاثوليك، والجامعة الأميركية للمرسلين الإنجيليين البروتستانت. وقد تزامنت نهضة التعليم وشمولها أجيالاً متعاقبة، مع نشوء الصحافة وازدهارها في بيروت وجبل لبنان منذ عشايا الحرب العالمية الأولى، قبل أن تشهد توسعًا نوعيًا في بيروت غداة تلك الحرب. فبيروت عاشت منذ ما قبل منتصف القرن التاسع عشر، أكثر من نهضة مدينية وسّعت رقعة عمرانها وأخرجته من انكفائه داخل أسوارها القديمة.

“كان عدد سكان بيروت يناهز المئة ألف نسمة في أوائل القرن العشرين، بعدما كان 60 ألفًا في 1836”. قفزات تزايد سكان المدينة كانت سريعة ومضاعفة أيضاً منذ مطالع القرن التاسع عشر. هذا كله أدخل في صلب الأسواق (البيروتية) تجاراً وأصحاب مهن جديدة، أطباء ومعالجين ووكلاء ومقاولين وبيّاعي مفرق وموظفين إداريين ومترجمين وخبراء عمارة ورصف طرق.

كان التعليم ركنًا أساسيًا في نهضة بيروت الحديثة هذه وازدهارها، كما كانت نهضتها وازدهارها من عوامل تنامي التعليم وتوسعه وشموله النساء وخروجهن من كنف الحياة البيتية والعائلية إلى الفضاء المديني العام. وكان صدور “المكشوف” جريدة لـ”العري” في سنتها الأولى عام 1935، علامة فاقعة ومثيرة لذلك الخروج قبل أن تصير الجريدة جريدة للأدب والأدباء والكتّاب، شأن عشرات الصحف الناشئة والمتخذة مكاتب لها في وسط بيروت المديني المتجدد منذ مطلع القرن العشرين. اجتمع والتقى وتعارف في مكاتب هذه الصحف وعلى صفحاتها عشرات، وربما مئات من الكتّاب المتفاوتي الأجيال والتجارب والخبرات.

حراك الحرية والأدب

في أواسط الخمسينيات كانت قد اكتملت العدة البيروتية لتجعل من العاصمة الوليدة مركزًا للحرية والأدب، ومحل انتقال الأموال والآراء. واستقبلت المنفيين من بلاد الثورات العسكرية، واستقبلت الفلسطينيين أدباء ومنظرّين، وعرب كثر من داعمي القضية الفلسطينية، فـ”النكبة” كانت ما تزال طازجة، تساهم في تفريخ أحزاب قومية وعروبية وماركسية في كل مكان، والاستقطاب على أشده بينها. وكانت بيروت تستقبل المثقفين العرب من كل مكان، وتستقبل أيضًا الفرق الموسيقية والمغنين والممثلين العالميين، وتعيش كل مظاهر اللهو والترفيه، وكانت الحركة الطالبية في بدايات صعودها قبل أن تصبح طرفًا فاعلًا في العمل السياسي اللبناني في السنوات اللاحقة.

كانت كلّ تلك الأفكار، العروبية والقومية واللبنانية، ما تزال في بداياتها، ومن يشارك في نقاشها فإنما كان يشارك أيضًا في صناعتها وبلورتها. وفي تلك الفترة كانت الهيئة التعليمية في الجامعة الأميركية – على سبيل المثال – تتألف من مفكرين ومنظرين وباحثين عرب أو ممن أصبحوا كذلك في ما بعد، ومنهم قسطنطين زريق وشارل مالك ونبيه أمين فارس ونقولا زيادة وإسحق موسى الحسيني وأنيس فريحة.

وهؤلاء الأساتذة خرّجوا طلابًا صاروا من قادة الأحزاب في العالم العربي ومن أصحاب المناصب الرسمية في حكومات بلادهم ومن الأدباء والمفكرين، ومنهم جورج حبش ووديع حداد وسمير صنبر وشفيق الحوت ونهاد هيكل وصالح شبل من فلسطين. ومن سورية هاني الهندي وثابت المهايني وعماد حراكي ورياض الأزهري. ومن لبنان خليل حاوي ومُنح الصلح وسليم الحص والياس سابا. وغيرهم كثر. ومن العراق كان يدرس في تلك الفترة مسارع الراوي وحمد دلي الكربولي وهشام إبراهيم الشاوي وباسل رؤوف الكبيسي وحامد الجبوري وغيرهم.

وكان هؤلاء الطلاب يختلطون مع مثقفين وكتاب وسياسيين من خارج الجامعة في المقاهي والمطاعم، وعلى رأسها “الأنكل سام” و”فيصل”، وفيهما كانت تمتد السهرات إلى ساعات متأخرة من الليل يمضيها الساهرون في النقاش وتبادل الأفكار والتدخين وارتشاف القهوة، ثم ينتقل الجميع لتناول الطعام واستكمال ما بدأوه في مطعم “العجمي” في وسط المدينة أو “الدولتشي فيتا” في الروشة أو “الهورس شو” في الحمراء.

كان لمقهى “الهورس شو” ومطعم “فيصل” شأن كبير في تأسيس الكتابة الشعرية الجديدة على أيدي سوريين مهاجرين، أمثال يوسف الخال وأدونيس ومحمد الماغوط ونذير العظمة وفؤاد رفقة.

أما في شارع الحمراء الذي لم يتجاوز طوله الكيلومتر الواحد، فكان مقهى “الإكسبرس” القريب من مبنى “النهار” القديم، مرتعاً لذوي الثقافة الفرنسية، بينما كان “الهورس شو” ملاذ ذوي الثقافة الانكلوسكسونية، وكذلك يمكن توزيع الرواد في مقاهي شارع بلس تحديدًا في “الأنكل سام” و”فيصل”.

في بيروت هذه الأيام يحاول بعض الشعراء إعادة المجد للقراءات الشعرية في الحانات، لكن هذه الجلسات لا تستقطب جمهورًا، وكأنها “فعاليات” قديمة لا تتناسب مع زمن المدينة الحديث. أما شارع الحمراء فقد تحوّل من خليط الشارع التجاري والثقافي إلى شارع تجاري بحت، وفي المقابل فإن محاولات تجديد العروض الثقافية في عدد من المراكز الفنية التي تلقى دعمًا من الاتحاد الأوروبي أو من مؤسسات غير حكومية في الغرب، فإنها تبدو أكثر تقدمًا عمّا يعبّر عن الحالة الثقافية البيروتية، فأنواع الفنون التي تقدمها “ما بعد حداثية”. وهي لا تجتذب سوى بعض المهتمين من اللبنانيين وكثير من الغربيين الذين يعيشون في لبنان. وكأنها فنون غير منبثقة من الحالة الثقافية الراهنة لبيروت.

وهكذا يبدو حال بيروت الثقافي كحال الغراب الذي أراد تقليد مشية الطاووس، ففشل ولم يتمكن من العودة إلى مشيته الأصلية. وإلى أن تتمكن بيروت القرن الواحد والعشرين من الرسو على حركة ثقافية تخصها وتنبثق من “مدنيتها” و”مدينيتها”، فلا حرج من العيش على “أطلال” الحياة الثقافية الماضية، التي يبدو أنها بدأت في الخمسينيات وأكملت إلى الستينيات، وانتهت هناك، هذا من دون تبخيس دور المثقفين الأفراد الذي جعلوا (في العقود الأخيرة من القرن العشرين) من الحرب اللبنانية موضوعًا، من دون أن يتمكنوا من إيصاله إلى نهايات واضحة وفاعلة وفعلية يمكن التعويل عليها كهوية ثقافية لبيروت الخارجة من الحرب من دون أن تصبح الحرب خلفها.

ضفة ثالثة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى