صفحات سوريةغازي دحمان

تغييرات عميقة في بنية الصراع المشرقي/ غازي دحمان

 

 

تنطوي التطورات الجارية في المنطقة على تغيير جوهري في عمق الوضع الشرق أوسطي لجهة موازين القوى وقواعد الاشتباك الداخلية، أو لجهة المعادلات الإقليمية المعنية بمنطقة المشرق العربي، وهي تأتي تتويجا لتكتيك بعيد المدى اعتمدته بعض القوى الإقليمية والدولية في مواجهة المشروع الإيراني والتمدد الروسي اللذين كان لعبثهما بأوضاع المنطقة وتهديد استقرارها نتائج كارثية ستبقى أثارها محفورة لزمن بعيد قادم.

العالم اليوم -بتحالفه في الحرب على الإرهاب- يصل إلى المنطقة أخيرا وهي تكاد تقف على شفا الهاوية، وبالتأكيد لم تعد تكفي العمليات التجميلية للجروح الحاصلة في جسد المنطقة، بل ثمة حاجة لجراحة عميقة تؤدي لاستئصال الخلايا المولدة للعطب، وزرع خلايا جديدة يمكنها المساعدة على تحقيق التوازن للجسد.

ثمة متغيران كان لهما الدور الأكبر في إحداث هذا التحول، الأول صمود السوريين وإرادتهم الكبيرة في قتال المشروع الإيراني المدعوم روسيا وصينيا، فلو حدث أن استطاع نظام الأسد وحلفاؤه وداعموه وأد ثورة السوريين لما وجد العالم مشكلة في التكيف مع مقتضيات تلك الأوضاع.

أما المتغير الثاني، فيتمثل بتشكّل قوة عربية خليجية إضافة للأردن فرضت على العالم إعادة قراءته للحالة بطريقة مخالفة تأخذ في الاعتبار مصالح العرب وأمنهم، وعبر استعمال سياسة العزل للتأثيرات الإيرانية واحتوائها، والتعامل مع الوضع الدولي الآخذ في الانزياح لهذه الرؤية على أنه فرصة لتغيير المعادلات في المنطقة يتوجب ترجمتها عملانيا، ولا شك أن الوصول إلى هذه النقطة تطلّب مجهودا كبيرا في ظل الدعم الكبير الإعلامي والمالي والتسليحي الذي بذله الحلف المؤيد لنظام الأسد.

لا يكفي اليوم أن يوهم الحلف الداعم لبشار الأسد نفسه بأنه لن يتم استهداف حليفهم، ولا ينفع تلقطهم لخبر هنا وتصريح هناك لتطمين أنفسهم بأن الأمور بخير، فثمة سياق مخالف لذلك تجري صناعته، وعليهم رؤيته بصدق، حيث يقع نظام دمشق اليوم على خط سلسلة من الاحتمالات السيئة أكثر من أي وقت مضى، وذلك بسبب التداخل في الواقع الميداني ووقوع النظام على خط سير الخطة القاضية بإزاحة داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) من الخريطة الجغرافية والسياسية للمنطقة.

وفي قلب الاحتمالات السيئة تلك، تأتي إمكانية توسيع القرار الدولي رقم 1270، الصادر عن الفصل السابع والذي يشكل الأساس القانوني للتحرك داخل سوريا، وينطوي على إمكانية توسيع دائرة الاستهداف لضرورات عملاتية، فالأمر يحتاج هنا إلى تفسيرات أكثر مرونة واجتهادات في إطار القرار، طالما أنه لم يتضمن تحديد منطقة قتال داعش ومدياتها التي تقع في قلب الحيز السوري بكامله.

واللافت أن الترجمة الأميركية لهذا القرار تمثلت بحصول إدارة أوباما على تفويض تشريعي لدعم المعارضة المعتدلة في سوريا، حيث تراهن الإدارة الأميركية في المدى المتوسط والبعيد على إعادة تأهيل الثوار المعتدلين لتحسين مواقعهم في الميدان السوري.

لقد ساهم التطور الأدائي للثوار السوريين في المعركة، في فرض أنفسهم كحقيقة لا يمكن تجاوزها ويمكن الاعتماد عليها كقوة صلبة أوصلت أخيرا صوت السوريين إلى العالم، وجعلت إدارة أوباما تقتنع أن الأسد لم يعد بإمكانه أن يحكم أكثرية سنية رافضة له، رغم أن الأخير حاول عبر تزوير الانتخابات الإثبات أنه خيار السوريين بكل أطيافهم.

لا شك أن أميركا التي لجأت إلى المنطق الطائفي والحديث عن مكون سني، لم تخترع هذا السياق على ما يحاول البعض الإيهام به، بقدر ما عملت على توصيف الحقائق ضمن حقل سياسي صنعته إيران بامتياز وأسست له ديناميكية قتالية على هيئة بنية عسكرية بأذرع عديدة تمتد فعالياتها من خليج العرب إلى شواطئ المتوسط على صور.

وهذا التطور في الإدراك الأميركي استتبع تطورا ثانيا على المستوى الإجرائي، وهو التأكد من حقيقة أنه يستحيل القضاء على داعش من دون ضرب خريطة الفوضى الكاملة التي تشكلها والمناخ الذي تنتعش بداخله والذي يقف نظام الأسد في قلبه.

لكن أميركا قررت مواجهة إيران بنفس منطقها وآليات عملها، وذلك عبر نيتها تأسيس منظومة سنية قتالية في العراق وسوريا، الهدف الأساسي لها محاربة داعش واجتثاث جذورها من البيئة السنية في هذه المنطقة، لكن الهدف البعيد أيضا ملء الفراغ الذي طالما استفادت منه إيران، وحتى لا تنتهي مخرجات العملية التي تريد القيام بها واشنطن لصالح طهران كما أدت عملياتها السابقة.

وتتكون تلك المنظومة “البنية” من عدد من الفصائل المعتدلة المختارة بعناية وتشمل ١٨ فصيلا بينها “حركة حزم” و”نور الدين الزنكي” و”الفرقة ١٣” و”الفرقة ١٠١” و”جبهة ثوار سوريا” ومن المتوقع أن ينضوي تحت لوائها مستقبلا الجزء الأكبر من الثوار في سوريا وفي مختلف المناطق.

البنية لن تكون مؤقتة، وستنال مبدئيا الاعتراف الدولي بها كنواة للقوى “الدولتية المنظمة في سوريا، وستصبح باعتراف دولي هي الكتلة المؤهلة لقيادة البلاد، ويتوقع أن يصار إلى “تزخيمها” وزيادة فعاليتها نتيجة التطورات العملاتية والحاجات التكتيكية، وهذه البنية القتالية السنية التي تسعى واشنطن لتأسيسها تقع على تنافر مع بنية إيران القتالية في المنطقة.

غير أنه يتوجب التنبيه لقضية مهمة يثار حولها لغط كبير هذه الأيام، وهي أن القبضة الأميركية لن تكون مطلقة الإحكام في سوريا وعلى التشكيلات التي ستدعمها، ولا شك أن السوريين، وبعد أربع سنوات من الثورة، صارت عندهم خبرة وقراءة جيدة لتحولات السياسة الدولية ومكرها وألاعيبها التي تدار من تحت الطاولة وعمليات البيع والشراء التي تجريها تلك القوى، وبالتالي فمن غير المقدر أن يضع الثوار كل بيضهم في السلة الأميركية، بمعنى أنهم لن يسمحوا بتمرير أهداف واشنطن ومصالحها بالقضاء على داعش واستنزافهم بهذه المهمة.

كما أن السوريين أيضا تعلموا من الدرس العراقي وهم يعرفون أن الحرب الأميركية على “داعش” تحتاجهم جنودا على الأرض فيها، ذلك أن تجربة “الصحوات العراقية” لا زالت طرية في ذاكرة الكثيرين من الذين جرى إهمالهم بعد التخلص من “القاعدة”.

ولا شك أيضا أن الدول الإقليمية المنخرطة في دعم الثورة السورية لا شك أنها تراقب وتفحص مدى التزام أميركا بإسقاط نظام الأسد، وفوق ذلك سوف تحاول هذه القوى استثمار هذه الحالة لتطوير إستراتيجياتها في هذا المضمار، وستسعى إلى الإفادة من قرار التسليح والتمويل للثورة السورية لضخ المزيد من أنماط الدعم هذه في جسم المعارضة السورية المسلحة، طالما أن العملية أصبح لها أساس شرعي دولي.

إيران التي بدأت تدرك خيوط اللعبة وتعيد قراءة المشهد من جديد، انتهت حالة الحماس عندها للحرب على داعش ودخلت مرحلة الشك والامتعاض، وهو ما عكسته من خلال رسائلها المشوشة والغامضة عن التحالف والتي تراوحت بين تشجيعه، وإعلان خامنئي أن طهران “ترفض التحالف مع واشنطن لأن أيديها قذرة”.

غير أن الوقائع تؤكد مخاوف إيران من أن تؤدي الأهداف الأميركية إلى تهديد قوتها الإقليمية وتعزيز خصومها، كما تخشى إيران من أدوار الدول العربية التي تشكل منافسا خطيرا لها في سوريا والعراق، الأمر الذي سينتهي بتقويض قوتها الإقليمية إلى أجل بعيد، وبطريقة لن يعود بإمكانها ترميم قوتها بعد أن جرى استنزافها سنوات طويلة برسم هلالها من طهران حتى صور على شواطئ المتوسط.

ولعلّ أكثر ما يرعب إيران تلك البنية القتالية المنظمة والمهيكلة والتي قد تشارك بها قوة عربية من الأردن والخليج، ذلك سيعني انتهاء احتكارها للقوة في المنطقة أو على الأقل إدخالها بلعبة استنزافية لن تكون قادرة على خوضها.

هل يعني ذلك ان إيران ستلملم أدواتها من المنطقة وترحل غدا؟ هل يعني أن أزمة وصراعات المنطقة ستنتهي لحظة اكتمال بناء التحالف والبنية التي بدأ العمل على تأسيسها على الأرض؟

الوقائع تقول إن احتمال استمرار الصراع لفترة زمنية قادمة يملك أرجحية كبيرة، لكن لا شك أن هذه التغييرات المراد تأسيسها في بنية الحدث ستكون لها نتائج موازية ومقررة في رسم المشاهد القادمة للإقليم، أولها كسر الهلال الإيراني في مفاصله الأساسية، وثانيها تعدد الخيارات المتاحة للتطورات المستقبلية وخروجها من حالة الخيار الواحد الذي ظلّل سماء منطقة المشرق لفترة طويلة وتمثل بالهيمنة الإيرانية.

الجزيرة نت

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى