صفحات مميزةعلي جازو

أحزابٌ لا تشبهُ شعوبَها: علي جازو

علي جازو *

أخلى البعثُ السوري، في طوره الأمني الكاتم المديد بُعيدَ مجازر 1982، الساحة السورية من أي تمثيل سياسي، وحوّل النقابات والجمعيات إلى روافد بعثية. كانت المدرسة والجامعة والجيش أقرب إلى معتقلات منها إلى حيز للتلاقي العام والتشارك الحيوي وتبادل الرأي وتقاسم تجربة العيش. حوربت الأحزاب وحجبت الإيديولوجيا القومية القاتمة أي ضوء يعكسُ مجاميع السوريين على تعددهم الخصب والخطر في آن.

على هذا النحو المدمِّر، أفقر نظام الحكم المجال العمومي وبثّ مخبريه وموظفيه يشمّون كلّ زاوية، ويلاحقون المرء حتى سرير نومه وأرض أحلامه، موصلاً إياه إلى مرتبة القحط. وإنْ كان العمل السّريّ المجال الوحيد المتاح حينها، زجَّ بفاعليه في سجون طالت إقامتهم فيها عقوداً؛ فـ «المواطن» في سورية «الصمود والتصدي» يولّد مناضلاً بعثياً، ثم له، بعد أن يحفظ المنطلقات النظرية وآداب الرسالة الخالدة عن ظهر قلب، مختلىً يختار فيه جحراً يتنفس فيه الهواء الذي قلّ سنة بعد سنة، إلى أن صار يتنفس اللاهواءَ ويحيا في لا مكان.

جاءت الثورة السورية، بعدما بلغ الاختناق حدّ التفجر، في وقت لم يكن فيه أحد يملك تفويضاً لتمثيل أحد. وإذ ألحّت الحاجة إلى وجود هيئات ناطقة باسم الشعب وممثلة لطموحاته ومدبّرة لمخاطبة المجتمع الدولي ومراكز القرار، كان الحرجُ والتشتت سمتين لازمتا كلّ تمثيل. وإنْ كان غيابُ أي فكر سياسي عيباً غطى حشود التظاهرات السورية، تحول التمثيل المفترض والمطلوب، على أساس الفكر الجامع والحاجة الملحّة، حاجزاً باعد السوريين بعضهم عن بعض، على الضدّ مما جمعهم عندما هبّوا على جامع أخلاقي متين ورابط وطني عام. حينما بادر من وجد في نفسه الكفاءة والحرص على تشكيل هيئات تنسيقية ومجالس وطنية وائتلافية، لم تترافق المبادرة مع قوة شعبية منظمة على الأرض تجسدها وتطــــورها، فصار من على الأرض غريباً عمّن خارجها، ولم يجد الخارج المحتار في الداخل اللاهث ما يجمع المشتت ويلمّ المتفرق. الحقيقة التي تغيب عن بال كثيرين أن سورية بلد يفتقر إلى انسجام أهلي وطيد، وأكثر الناس جهلاً بالسوريين هم السوريون أنفسهم، ولا يصح حدّ السوريين ولا تعريف هويتهم الوطنية القلقة بطوائف محضة وقوميات صرفة.

الاعتراف بواقع ملموس كهذا، لا يحول دون اندماج وطني شديد الأهمية، ولا يبنى الأخير على رغبات أحزاب قديمة وشخصيات معارضة هرمة، تجد جذورها في منبت إسلامي يتكلم باسم غالبية مفترضة ويحتكر أصواتها، أو شقاء قوميّ مكبوت.

عدا ما يُرى كلّ يوم من مآسٍ مروعة، يبذل السوريون على تعددهم واختلافاتهم، جهوداً في أمكنة أخرى، كالإغاثة والدعم الإنساني وربط شبكات المجتمع المدني بعضها ببعض، وهؤلاء يعملون في الظلّ، ودافعهم إلى ذلك بعيدٌ عن لغْوِ السياسة الإعلامية وكسب مواقع متقدمة في سلّم المنافع السياسية الزلقة، ولا يشملهم ضيقُ الفرز الديني أو القومي الذي يحول الفرد السوريّ إلى رقم لا غير ضمن جماعة أو حزب. حريّ بمن يعمل ضمن أحزاب مغلقة، تكاد أن تكون سريّة، يشوبُها الغموضُ والتردّدُ، وتجد قوتها في الخصومة والعداء، على زمنٍ يحاكي زمن الخنق البعثي، الالتفاتَ إلى هؤلاء وتعلم دروس وطنية من شبان وشابات لا يجدون لهم مكاناً مناسباً داخل محافل السياسيين. والأخيرون فشلوا في دعم لحمة السوريين وشدّ أواصرها، وباتوا عبئاً على الثورة في الوقت الذي كان من واجبهم تقويتها. وإذ يأتي يومٌ، عساه قريباً، يكفّ فيه المسجد ورجل الدين عن تمثيل المسلم السوري، والكنيسة عن التكلم باسم المسيحي، تكون سورية على درب المواطنة الحقة.

من دون ذلك، سيُعاد ضخّ القديم بأسماء جديدة، فيحلّ استبدادٌ أضيق محلَّ ما كان استبداداً مطلقاً.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى