صفحات الثقافة

أدونيس ونظرية المَعلف قبل الحصان


إبراهيم الزبيدي

في حديثين أدلى بأحدهما لمراسلة جريدة (الرأي) الكويتية في بيروت، وبالثاني لصحيفة (الغارديان) البريطانية، لم يختلف شاعرنا الكبير أدونيس عن بوتين ولا عن الولي الفقيه في حكمه على الانتفاضة السورية، وشروطه لإجازتها والسماح لها بدخول القصر الجمهوري في دمشق.

يريد أن َتسقط جميعُ الأنظمة الاستبدادية، ولكن ديمقراطيا، فهو لا يحب العنف، لأنه ” يُخرج الانسان من إنسانيته، ويأخذه إلى التوحّش. وهو عامل انحطاط لا عامل نهوض. عامل تغيُّر نحو الأسوأ”. لكنه يختلف عنهما قليلا، إذ يشترط على الشعب السوري أن يؤسس ثورته على ” مبدأ فصل الدين عن الدولة، ووضع المرأة، والتركيز على الفرد وليس على الأمة” قبل أن يصيح (آخ) من ضربة سكين أو قذيفة دبابة أو بندقية قناص أو رقصة شبيح على جثة قتيل، وذلك احترما للشرعية والقانون والأصول المرعية وأخلاق الشعوب المهذبة.

يعني هو وبشار الأسد وإيران وحزب الله ونوري المالكي وروسيا والصين عليهم. وكأنه لا يعرف ولم يسمع ولم يشاهد، على جميع الفضائيات العربية والأجنبية، كل صباح وكل مساء، كيف يواجهون أبشع وأقسى وأوسخ وأحط نظام في العصر الحديث، يقتل الصغار قبل الكبار، والنساء قبل الرجال، والشيوخ قبل اليافعين الشباب. يريد من المظلوم أن ينتظر على الظالم، والمذبوح على الذابح، والمسروق على السارق، إلى أن ” يتم تثوير المجتمع كلُه، وتتغير مؤسساته السياسية والاجتماعية، الثقافية والاقتصادية، وأن تتغيّر تبعاً لذلك تشريعاته وقوانينه”.

بهذه الرومانسية الجارحة المعيبة المحزنة يمارس أدونيس، وأمثالـُه من مثقفي مقاهي شارع الحمرا ببيروت، هواية تحليل وتحريم ثورة ٍعملاقة كثورة الشعب السوري الشجاع، لتقرير مشروعيتها وصلاحيتها.

إن حكمة أدونيس هذه لا تصلح لبلد كسوريا. ربما لدولة كالسويد أو لشعب كشعبها يقدس حياة الفرد ويحترم حقوقه كاملة، ويعتبر المساس بها، من أي ٍ كان ولأي سبب ٍ كان، جناية مخلة بالشرف والعـُرف، ونكرانا لإنسانية الإنسان. وعندما تتوفر لسوريا ظروف مشابهة لظروف السويد يمكن عنئذٍ للفرد أن ” يقوم بتغيير المؤسسات، من جميع النواحي، أولا، ثم يطلب تغيير الحاكم بعد ذلك”. وفق آلية أدونيس الثورية المباركة. يعني أن على الشعب السوري أن ينتظر أحفاد الرفيق بشار ليقوموا بالمهمة، بعد عمر طويل.

والزلل الثاني الذي يقع فيه شاعرنا الكبير هو مطالبته الحازمة الحاسمة لثوار الانتفاضة في حمص وحماة والزبداني ودرعا واللاذقية بأن يطردوا من صفوفهم كل مواطن متدين يخرج من مسجده ليطلب الحرية قبل خبز عياله، وأن يمنعوا كل حزب وكل منظمة وكل فئة (لاهوتية) من الهتاف برحيل الطاغية، وأن يطهروا ثورتهم من غير (الثوريين) الذين لا تنطبق عليهم مواصفات السيد أدونيس. يريدها ثورة (مثقفين) (حداثيين) (أكابر) لا يليق بهم أن يشرُكوا معهم إمام مسجد أو نادل مقهى في مقاتلة الذئاب الهاجمة المتعطشة للدم، أي دم، من أي لون، ومن أية فصيلة.

وخصومته مع الإسلاميين تكاد تكون عاطفية محضة. فهو يعلن أنه ضد الديمقراطية إذا جاءت بالإسلاميين إلى السلطة. وفي هذا خلط واضح بين الديمقراطية والانتخابات. لأن الديمقراطية، وهو خير العارفين، ليست الانتخابات وحدها، بل هي أشياءُ عديدة أخرى، أولها وأهمها أن تسود المجتمع كله روح الديمقراطية، وفي حالة كهذه لن يكون الإسلاميون أو غيرهم قادرين على تحويل السلطة إلى (لاهوتية) أو ديكتاتورية الحزب الواحد، أو الفرد الواحد، كالديمقراطية المغلفة بالانتخابات التي جاءت بطغاة مثل بشار والقذافي وزين العابدين ومبارك وعلي عبد الله صالح ومن قبلهم صدام حسين. ومثل هذا التطرف والمغالات في الخصومة السياسية أو الفكرية متوقع من مواطن بسيط غير متمتدن وغير متحضر تحركه العاطفة ولحظة الحدث، وليس من شاعر كبير وصفته صحيفة الغارديان بأنه ( النبي الوثني) أدونيس.

وفي تعليقه على الانتفاضات الشعبية العربية الأخيرة، وبالأخص منها النتفاضة السورية، يقول: إن ” ما جرى ويجري، وخصوصاً ما يرتبط بالشبان والشابات، بالغُ الأهمية، من جميع النواحي وعلى جميع المستويات، لكنه يظلّ في إطار التمرّد والاحتجاج. الثورة عملٌ جذريٌ شاملٌ. والأمل هو تحقيقها لبناء مجتمعات عربية جديدة حقاً، وديموقراطية حقاً”.

مرة أخرى يعود أدونيس إلى الإشكالية ذاتها، ويضعها على الطاولة. البيضة من الدجاجة أم الدجاجة من البيضة. التمرد والاحتجاج أولا أم الثورة والعمل الجذري الشامل؟

إن من غير المعقول أن يكون شاعرٌ بحجم أدونيس عاجزا عن قراءة الحدث السوري من داخل واقعه وظروفه وإمكاناته المقننة بحدود النظام القمعي نفسه وأدواته وقدراته، وبمقدار الفعل العربي العام، وتعقيدات موازين القوى الدولية القاهرة.

شيء آخر. فكما كان بعض المنظرين (القومجيين) العراقيين والعرب يروجون لانشقاق ٍ عميق في الدائرة الضيقة المحيطة بصدام حسين، ويَواعدون العراقيين بثورة تصحيحية موعودة يقوم بها برزان، فأدونيس، وأمثالـُه كثيرون، ُيمنون جماهيرَ السوريين الملاحقين بأجهزة القتل الأسدية، ليلا ونهارا، بانقسام ٍ بين حمائم وصقور داخل النظام. يقول: «داخل النظام متطرفون وهم ذاهبون إلى الهاوية». وردا على سؤال، هل إن حزب «البعث» منقسم إلى اتجاهين: الأول راديكالي لا يريد الخروج من السلطة، والثاني إصلاحي يسعى إلى احتواء الأزمة السورية؟ يقول ” يبدو، في الممارسة أن هذا الانقسام قائم. مع أنه يبدو أنه مُموّه، في النّظرية، تمويهاً قوياً”.

وعلى سؤال ( لماذا ينحصر الحراك الاحتجاجي في سورية داخل المدن ذات الغالبية السنيّة)؟ يقول أدونيس: ” لا يزال الاحتجاج محدوداً، في عدد المحتجين، وفي عدد الأمكنة التي يتم فيها هذا الاحتجاج. الثورة لا تكون إلاّ بتحرك الكتلة الكثيفة من جسم الشعب، وبخاصة في المدن الكبرى. وهذا التحرك لم يبدأ حتى الآن. لماذا؟ ربما لأن البداية كانت خطأ: كانت لها نبرة طائفيّة مذهبيّة، تتحرك داخل «صوت» غير سوري، لكي لا أقول (أجنبي). والشعب السوري بوعيه التاريخي العميق، ضد هذه النبرة وضد هذا الصوت”.

بهذا، ومع سبق الإصرار، ُينشب الشاعر الكبير أظافره في أجساد الثوار والثائرات، ويلتقي، شاء أم أبى، مع مخابرات بشار وشبيحة الكرملين وقناصة الولي الفقيه الإيرانيين واللبنانيين والعراقيين. فهؤلاء كلـُهم، يرون ما يرى أدونيس. قلة قليلة مارقة من أشقياء السوريين تقتل المواطنين الآمنين، وتحرق المؤسسات، وتهاجم مراكز الأمن، وتخطف الجنود والشبيحة، دون حق ولا سلطة ولا قانون، ومن حق الحاكم الأمين على شعبه أن يهُبَّ لتطهير الوطن من المارقين الذين ينفذون مؤامرة خارجية صهيونية امبريالية حاقدة ومتآمرة على دول الممانعة وأبطالها المغاوير.

ومرة أخرى، وأخيرا تسأله المراسلة الصحفية:

• ما الذي تحتاجه سورية من أجل ترسيخ الديموقراطية، سياسياً واجتماعياً وثقافياً، والى أي مدى تتعارض الديموقراطية كثقافة مع جهوزية المجتمع السوري لتقبُّلها؟

فيرد شاعرنا الكبير أدونيس:

” لا ديموقراطية ولا حقوق إنسان، وبخاصة حقوق المرأة، ولا حريات، ولا دولة قانون في سورية أو غيرها من البلدان العربية، دون تحقيق الفصل الكامل الذي أشرتُ اليه بين ما هو ديني من جهة، وما هو سياسي ثقافي اجتماعي من جهة ثانية، على جميع المستويات وفي مختلف الميادين”.

فكما ترون. شاعرُنا الكبير مشغول جدا بأمر المعلف ونوعه ولونه وكمية الغذاء الذي فيه، قبل أن يفكر بإخراج الحصان من محبسه المظلم الخانق المقيت، وقد أوشك أن يفقد كل شهيته لعلف العالفين، خصوصا من المثقفين الساكنين في قصورٍ ٍ من هواء.

ايلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى