بكر صدقيصفحات مميزة

أدونيس ونهاية عالم يترنح: بكر صدقي

 

بكر صدقي

في كلمته أمام مؤتمر معارضين سوريين في جنيف، لم يخرج أدونيس عن مألوفه الفكري. أمسك بعصا الأستاذ وراح يلقن بيئة أليفة ومتعاونة، ألف باء الثورة كما يفهمها. كأنه كان يستجيب لسؤال “رئيسه المنتخب” بشار الأسد في دار الأوبرا بدمشق حين قال مستنكراً: “بالله عليكم، أهذه ثورة؟!”

والثورة في عرف أدونيس، كما علَّمَنا منذ زمن طويل، هي في الرؤوس لا في الكرسي. على التغيير أن يكون في المجتمع لا في السلطة. المجتمع هو الفاسد وينبغي إصلاحه، بل تغييره. الحق أن الرجل سبق وبرَّأ نفسه، في مناسبات سابقة، من النظام القاتل. لكن مشكلة أدونيس كانت دائماً مع المجتمع لا مع السلطة. فإذا حدث وانتقد سلطة ما، فذلك لأنها مقصرة في “تغيير ما في الرؤوس” إلى الحد الكافي لتحقيق الثورة على الطريقة الأدونيسية.

لا يعدو أدونيس أن يكون سوى النموذج الأكثر ابتذالاً لعالم فكري قائم على الانبهار النخبوي الذاتي واحتقار للعالم الواقعي وعامة الناس. تقوم الأطروحة الأساسية لهذا الفكر على أن المجتمع متخلف عما ينبغي له أن يكون عليه. وعلى النخبة المستنيرة أن تقوده إلى نور العلم والتقدم وقيم الحداثة. كلما عاند التطور الواقعي هذا المخطط التبسيطي، ازدادت النخبة الرائية احتقاراً للمجتمع، بتحميله مسؤولية “تخلفه” المفترض. لا يعترف النبي الرائي بفشله في تنوير المجتمع وتثويره، ولا يشكك في أسس الهندسة الاجتماعية التي تمنى تطبيقها، بل يزدري تلميذه الذي فشل في تعلم الدرس منه.

ما هو المخرج إذا كان التلميذ الجاهل يرفض بعناد تعلم ما يلقنه المثقف الرائي؟ بما أن العلم نورٌ، والتلميذ يتمسك بعماه وظلامه، فلا بأس من استخدام العصا من أجل مصلحته التي يجهلها. هذا المخطط ينطبق على جميع الإيديولوجيات الشمولية التي سادت عبر العالم في العصور الحديثة: النازية والشيوعية والبعثية والإسلاموية، ولكن بصورة خاصة العقيدة الاستعمارية العنصرية القائمة على فكرة “عبء الرجل الأبيض”. وللمفارقة لم تفعل الليبرالية الجديدة غير استبدال عناصر بأخرى في الإطار نفسه، فكانت “رسالة” جورج بوش الابن في تصدير الديموقراطية إلى المجتمعات المحرومة منها بواسطة الحروب.

ويعلمنا أدونيس، بهذا الصدد، أن الوسائل لا يمكنها أن تنفصل عن الغايات. كيف إذن يمكن للعنف في سوريا أن يؤدي إلى الديموقراطية؟ معه كل الحق، ما دام يرى فيما يحدث في سوريا عنفاً من الشعب ضد الدولة واعتداءً عليها. الثورة التي لا يرى فيها شاعرنا الرائي غير انتفاضة الثابت على المتحول، لا يمكنها أن تفضي إلا إلى إقصاء “الآخر المختلف” المرفوض في أعمق “جذور ثقافتنا”.

هو الإسلام إذن، بل الإسلام السني حصراً الذي بات يثير هلع “العالم المتحضر” لجورج بوش ومثقفنا النخبوي الرائي معاً. ليس أدونيس وحده المصاب بالهلع من ثورات الحرية في العالم العربي، بل طيف كبير من المثقفين ممن يرون مشكلتهم مع الإسلام أكثر مما مع الاستبداد، ولا يثقون بخيارات الشعب الحر، بل ينظرون إليه باحتقار وخوف معاً. ينظرون إلى نتائج الانتخابات الأخيرة في تونس ومصر، وإلى سيطرة الشعارات والمناخات الإسلامية مؤخراً على تشكيلات الجيش السوري الحر، فيقولون: ألم نقل لكم منذ البداية؟ إنهم يرون أسوأ كوابيسهم تتحقق في الواقع، فيعودون لتأكيد يقيناتهم الرؤيوية.

الشعب كائن مخيف، غير متعين، فوضوي. هو العوام، الكاووس، الظلام، الغريزة.. في مواجهة الدولة، العقل، النظام، التعيُّن، الوضوح، النور.

ثم هو الشرق منبع الأديان والأساطير والبخور واللاعقلانية والموروث والتقليد والمرأة المحجبة والجارية.. مقابل الغرب، منبع العلم والعقلانية والنور والحداثة و”الحرية”!

كيف يمكن لـ”عوام الشرق المسلم اللاعقلاني” في نظر المستشرق أدونيس، أن يقوم بثورة الحرية؟! هذا يشبه الغول والعنقاء والخل الوفي.. يناقض كل بداهات الرائي الغربي الذي ولد خطأً في الشرق، ولكن، مع ذلك، في أقصى غرب سوريا على الأقل..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى