صفحات سوريةهوشنك أوسي

أردوغان وملاعب الثورات العربيّة الأخيرة!

 


هوشنك أوسي

هذا الرجل، لمّاح وكتلة مواهب. وجزءٌ كبير من ذكائه الثاقب، عائدٌ إلى سطحيّة التحليلات التي تناولت تجربته. كان لعاب كرة قدم مغمور، قبل دخوله معترك السياسة. لكنّه الآن، سيّد الملاعب العربيّة، دون منازع.

هو نسخة محدَّثة من حافظ الأسد، لجهة سياساته الخارجيّة المنتعشة والرائجة والصائلة والجائلة في العالمين العربي والإسلامي تحديداً، وسياسات داخليّة، فيها من المراءاة والمرواغة والتحايل والنفاق والسحق أيضاً، ما فيها. ذلك أن الأسد الأب، سحق الداخل، لإرضاء الخارج، وحماية مصالحه. ولاعبنا هذا، أيضاً نراه يسدي النصح والوعظ للدكتاتوريّات العربيّة بـ”الاستماع لصيحات ومطالب شعوبها”، ويطالبها بـ”الإصلاح العاجل”، إلاّ أنه لا ينصت لصيحات شعبه، ولا يجري إصلاحات فوريّة وجدّيّة وجذريّة وعاجلة، مستثمراً القوّة الضاربة لفريقه في حكم المؤسسات التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة وحتّى الأمنيّة والعسكريّة، والإعلاميّة، ومؤسسات المجتمع المدني…، والقابضة على خناق الدولة والمجتمع. لقد استجلب كل تكتيكات لعبة كرة القدم إلى الملعب السياسي، ولا زال فريقه، يسجّل المزيد من الأهداف خارجيّاً، لكنّه، يسجّل المزيد من الأهداف على نفسه داخليّاً. داخليّاً، هو من صنف الزئبق. وخارجيّاً، هو من صنف “الذهب”، شديد البريق!. ولشدّة افتتان وانبهار الجمهور العربي بهذا “الكابتِن”، لا يطيب له رؤية الأهداف التي يسجّلها على نفسه في الداخل. وبل ينبري للدفاع عنه وعن بطولاته العربيّة والإسلاميّة، بشكل أعمى، دون تدقيق أو تمحيص.

هذا الرجل الموهوب والبارع الذكاء، والبارع النفاق، هو رئيس الوزراء التركي، وزعيم حزب العدالة والتنمية؛ رجب طيّب أردوغان.

من جملة الجوائز التي حصل عليها الطيب أردوغان في البلدان العربيّة، كانت جائزة القذّافي. منحها الأخير له، على دوره في تركيا والمنطقة والعالم، وقبلها اللاعب التركي، بافتخار، متعامياً عن وحشيّة الزعيم الليبي في تعاطيه مع شعبه ومعارضيه. كان ذلك، قبل اندلاع الثورة على “ملك ملوك أفريقيا، والأخ القائد المجاهد الثوري الآتي من الخيمة، ومن البادية”. وحتّى أثناء اندلاع الثورة على القذّافي، كان الصمت مخيّماً على أردوغان، لكون العلاقات الاقتصاديّة التركيّة مع ليبيا، تتنامى وتشهد تطوّراً ملحوظاً. وعليه، لم يطالب أردوغان القذّافي بالتنحّي، بل طالب الشعب الليبي، بوقف سفك دماء بعضهم، ووقف القتال، حين كانت المدن الليبيّة، تسقط الواحدة تلو الأخرى في أيدي الثوّار، قبل أن تشنّ كتائب القذّافي هجماتها الوحشيّة المرتدّة على الثوّار. وبعد تدخّل أمريكا وفرنسا والناتو، صار الزعيم التركي الإسلامي، يغرّد على نوتة الجوقة الغربيّة، ويعلن الرغبة التركيّة بالمشاركة في قوّات التحالف ضدّ نظام القذّافي!. لماذا؟. لكي يكون له حصّة في حصاد ما بعد نظام القذّافي. لكن، أردوغان أتى متأخّراً، وعوّل على بقاء الدكتاتور الليبي في البداية. وبل حظيت مواقف أردوغان بسخط واستهجان كبير من النشطاء السياسيين الليبيين الثائرين على حكم العقيد الليبي. والحال هذه، لن تكون لتركيا، بمعيّة “مبدئيّة” زعيمها أردوغان، (كما كان يزعم في إحدى خطبه، أنهم في تركيا، مبدئيون، ليسوا مع آبار النفط)، أيّة حصّة تذكر، في “الغلّة” والغنائم السياسيّة والاقتصاديّة لـ”فجر أوديسا”. لكن، تبقى جائزة الجوائز التي حصدها النظام الأردوغاني من الثورات العربيّة الأخيرة، هي سقوط نظام حسني مبارك، الذي كان، ولو بشكل غير مباشر، يقف حجر عثرة أمام التغلغل التركي، السياسي والاقتصادي والإعلامي والثقافي، وحتى العقيدي _ السياسي، (أنموذج حزب العادلة والتنمية، وجماعة فتح الله غولان) في الجسد العربي المتضعضع، من المحيط الى الخليج. لقد كان النظام المصري، قبل سقوطه، غير مرتاح للدور التركي المتنامي في الشرق الأوسط والعالم العربي والإسلامي.

على الصعيد السوري، بدى الموقف التركي، شديد الجلاء في وقوفه الى جانب دكتاتوريّة حزب البعث الحاكمة منذ 48 سنة ضدّ انتفاضة الشعب السوري في درعا والمدن الأخرى. ذلك أنه لم يدين سفك النظام السوري لدماء المسلمين، في درعا ودمشق وحمص وحماه واللاذقيّة. وذكر فقط أنه طالب الأسد بـ”الاستماع لمطالب الشعب. والتنفيذ العاجل للإصلاحات”. ولكنه، استدرك وقال: “أننا سنبقى دوماً مع سورية، حتى تجتاز أزمتها”. وبذا، أوضح أردوغان، أنه مع نظام بشّار الأسد، على علله ودكتاتوريّه ووحشيّته في التعاطي مع المدنيين العزّل والمطالب والقضايا الداخليّة المحلّة. ولذرّ الرماد في الأعين، ذكر أردوغان أنه نصح بشّار الأسد بالإصلاحات والاستماع للشعب!. وهنا، تجلّت “مبدئيّة” أردوغان، في المحافظة على الحلفاء، أيّاً كانت مساوئهم في داخل بلدانهم!. ووجه الغرابة في الأمر، إن أردوغان، دوماً هو الناصح الواعظ، الذي لا يجد من ينصحه من خارج تركيا. وبل لا يقبل النصائح التي تأتيه من الخارج، ويقمع الذين ينصحوه ويناشدوه في الداخل التركي أيضاً.

النظام السوري، قبل ما لا يقلّ عن الشهر، رفض حتّى الرفع الجزئي لحالة الطوارئ والأحكام العرفيّة السارية في البلاد منذ مجيء حزب البعث للسلطة بانقلاب عسكري يوم 8/3/1963. ذلك، أن أحد أعضاء البرلمان (الصوري) طالب بدراسة رفع جزئي لحالة الطوارئ، إلاّ أن زملائه، وكالعادة، رفضوا ذلك، وبالإجماع المطلق؟. والآن، وبعد نهر الدم الذي سال في سورية، تناسى النظام السوري الحاكم، كل المبررات والمسوّغات والشعارات التي كان يتلطّى وراءها، بغية عدم رفع حالة الطوارئ والأحكام العرفيّة!. والإصلاحات التي كان يطالبها بعضها المعارضون السوريون منذ عقود، وكان النظام السوري، لا يتجاهلها وحسب، وبل يسحق المطالبين بها ويزجّ بهم في السجون، ويتهمهم بالخيانة والعاملة وخدمة الأجندات الغربيّة، الآن، يقول النظام أنه ماضٍ نحوها!. طبعاً، ليس لأن النظام السوري، قبل نصائح حليفه التركي، بل لأن الشعب السوري، قال كلمته، ودفع كلفة هذه الإصلاحات، ومازال يهدد النظام ببذل المزيد من التضحيّة على مذبح سورية ديمقراطيّة تعدديّة حرّة. وبالمقاربة بين حجج النظام السوري ورفضه الإصلاح ومحاربته للإصلاحيين، بالحجج التي يتبنّاها أردوغان، أثناء رفضه صوغ دستور مدني وطني تركي، ورفضه إجراء إصلاحات جديّة وجذريّة وحقيقيّة، وسحقه لخيم السلام والحل الديمقراطي التي نصبها الكرد في المناطق الكرديّة جنوب شرق البلاد، (أعلن الكرد العصيان المدني التصاعدي، وأنهم سيحولون كل الميادين في المدن الكرديّة الى “ميدان التحرير” في مصر، حتّى تستجيب الحكومة لمطالبهم، الجد متواضعة)، فحجج أردوغان أكثر سخافة من حجج النظام السوري. فالأخير كان يتذرّع بالحرب مع إسرائيل، وأن سورية مستهدفة من مخططات أمريكيّة وصهيونيّة وإمبرياليّة…، إلى آخر هذه الدباجة السمجة الممجوجة. بينما أردوغان، ورغم ما يمتلكه من قوّة جماهيريّة وسياسيّة واقتصاديّة وتشريعيّة وتنفيذيّة…، كما أسلفنا، فأن حجّته على تأجيل الإصلاح، ورفضه المطالب الكرديّة العادلة، (والتي لا تتجاوز حق الاعتراف الدستوري بوجودهم وهويّتهم الثقافيّة ولغتهم الأمّ في الدستور التركي)، تنحصر بضرورة مراعاة حساسيّة المعارضة القوميّة التركيّة، المتمثّلة في حزب الشعب الجمهوري، وحزب الحركة القوميّة المتطرّف!؟. ولكونه، يجيد التسويق والترويج لنفسه، في العالم العربي، عبر استثمار الماكينة الإعلاميّة، وشرائه كتيبة من المثقفين والإعلاميين العرب، الذين يطبّلون ويزمّون له، يظنّ المواطن العربي، أن باطن وظاهر النظام الأردوغاني سيّان، وغير متناقضان!. والحقيقة، أن واقع الحال، خلاف ذلك تماماً. ولا يتّسع هذا المقال لإعادة ذكر ما يؤكّد هذا الرأي. ذلك أنني سبق وأن كتبت حول هذا الأمر، أثناء تواجدي داخل وخارج تركيا، وفي الصحافة التركيّة والعربيّة أيضاً.

حاصل القول: لم تعد “مساعي نمذجة تركيا”، بتعبير الدكتور آزاد علي، وتغلغلها في الجسم العربي، تقتصر على التهليل والتسويق الإعلامي، وتكلل هذه المساعي بحصاد سياسي واقتصادي تركي وافز وغزير، بل تعدّى ذلك إلى تحوّل التيّارات الإسلاميّة العربيّة، بخاصّة، جماعة الإخوان المسلمين، في مصر وسورية، إلى تبنّي المخطط الأردوغاني، في كيفيّة ابتلاع الدولة ومؤسستها، وبالسبل الديمقراطيّة. فالجماعة في مصر، تحوّلت أو ستتحوّل الى حزب سياسي، لا يحمل هذا الاسم. والجماعة في سورية، ومنذ الآن، بدأت تتجه نحو إعادة إنتاج نفسها تحت اسم “حزب العدالة والتنمية السوري”. وعليه، مع فشل الخمينيّة تصدير نفسها، بالأساليب الفظّة والفجّة، إلى العالم العربي، فإن الإردوغانيّة، نجحت، إيما نجاح، في تصدير التجربة التركيّة، بشكل سلسل وناعم، إلى العالم العربي. ما يمهّد لولادة عثمنة جديدة، في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تعطي خزماً للدور التركي في العالمين العربي والإسلامي، في حال رفضت أوروبا، انضمام تركيا لناديها. وفي حال قبول الاتحاد الأوروبي طلب تركيا، تكون الأخيرة، وبحصادها العربي والإسلامي، قوّة عالميّة ضاربة، توازي قوّة السلطنة العثمانيّة، في أيّام عزّها، ولو بصيغ أخرى. وكل ذلك، من كيس الشعوب العربيّة. تماماً، كما كان سابقاً، أثناء خوض تركيا العثمانيّة صراعاتها مع الغرب، من كيس العرب والشعوب الرازحة تحت الاحتلال العثماني. وهنا، يجب على النخب العربيّة ومراكز الدراسات والأبحاث، الخوض، وبشكل جدّي وعميق، في فهم جوهر النوايا التركيّة، بعيداً من التنميقات والتزويقات الرائجة في الإعلام العربي، والتسويق السطحي للإنموذج التركي وأردوغانه!.

كاتب كردي سوري

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى