صفحات سورية

أزمة الدولة العربية .. عن البوليس السياسي وقمع الحريات (*)

 


الدكتور عبدالله تركماني

في سياق تحليل وتفكيك أسباب أزمة الدولة العربية، يجدر بنا الانطلاق من قراءة تاريخيتها، وظروف نشأتها، والعوامل التي تأثرت بها تلك النشأة. وقد جرى التركيز على الثنائيات التي حكمت السياقات التاريخية لنشأة الدولة الوطنية في البلدان العربية، وكيف أثرت حالات التقابل، كالسلطة مقابل الدولة، والدولة الدينية  مقابل الدولة الوطنية، وشخصنة الدولة في مقابل النزوع نحو دولة المؤسسات وسيادة القانون، في تكريس الأزمة.

لقد ميزت القراءة التحليلية لأزمة الدولة العربية، بين أربعة أنماط من الأزمات التي تواجه الدولة الوطنية العربية: أولها، خطر عجز الدولة وانهيارها. وثانيها، أزمة تراجع قدرات الدولة وغياب فاعليتها وشرعيتها المجتمعية. وثالثها، أزمة استمرارية الممارسات السلطوية وغياب الحكم الرشيد. ورابعها، أزمات الاندماج والهوية المكرسة لانفصال المجتمعات عن دولها. فالدولة العربية لم تدرك التلازم الضروري بين الحرية والعقلانية والتنمية، وأحالتها إلى خلفية اهتماماتها، فكان أن بقيت البنى ما قبل الوطنية تعمل في موازاة الأفكار التحديثية. والدولة العربية لم تواجه مسألة الفصل بين السياسي والديني، ولم تعين حدود الدين في الحياة السياسية والاجتماعية من منظور حداثي، فكان أن اكتسح الديني السياسي، والأصالة الحداثة، والماضوية العصرنة.

وإذا ما أردنا أن ندخل إلى طبيعة محددات الدولة العربية يمكننا تثبيت النقاط التالية:

1 – بناء حداثة غير عقلانية مستهلكة وغير قادرة على النمو أو الإنتاج، أي بناء حداثة هشة وقشرية ورثة كما أسماها الدكتور برهان غليون بـ ” الحداثة المغدورة “.

2 – القطيعة بين الدولة والمجتمع، إذ حدثت قطيعة شبه كاملة بين الدولة كظاهرة مهمتها بناء نظام سياسي وسلطة عادلة لخدمة الناس، وبين المجتمع كموضوع لعمل الدولة على مستوى التنمية والتطور والتقدم وتحقيق العدل والأمن والأمان، الأمر الذي حول الدولة العربية إلى دولة خاصة بالنخبة السياسية الحاكمة.

3 – ضمان استمرار بعض النخب السياسية بأي أسلوب كان، والحفاظ على استقرارها وثباتها في مراكزها ومناصبها العليا، وقد تعمد هذه النخب إلى شن حروب أهلية كامنة، بل وحروب أهلية صريحة، ضد مواطنيها بواسطة أجهزة العنف والعسف المتعددة. ولعل ما شهدته سورية، منذ انطلاق ربيعها الديمقراطي في 15 مارس/آذار الماضي، من ممارسة قوات الأمن وشبّيحة السلطة العنف العاري ضد الشعب السوري في درعا واللاذقية ودوما وبانياس وحمص .. يبيّن تمسك نخب النظام الاستبدادي بالسلطة مهما كانت النتائج.

4 – الخلط بين السلطة التنفيذية والدولة، في حين أنّ الحكومة ينبغي أن يُنظر إليها على أنها مؤقتة، وأنّ الدولة ومؤسساتها هي دائمة وتهم جميع المواطنين.

5 – مواجهة الطموح إلى التغيير بالقوة، وعندئذ تطفو على السطح ظاهرة الاحتقان السياسي والاجتماعي.

ولعل الإشكال المركزي الذي أعاق دور الدولة في تأمين سلامة الإنسان العربي راجع إلى افتقاد سلطتها إلى الشرعية الدستورية في أغلب الأحيان، فهي مفروضة على المجتمع، قائمة بإرادة غير إرادته، لا تعمل من أجله ولا مع أماني جماهيره ومصالحهم. فهي ليست دولة كل مكوّناته، القومية والدينية. إنها في الغالب دولة ” فئة ”  مغتصبة كلَّ المكوِّنات الأخرى، تهيمن عليها زوراً وخداعاً باسم ” الوطن ” مقدمة مصالحها الفئوية على المصلحة الجماعية. إذ أنّ أغلب البلدان العربية تحتل مواقع متقدمة في تقارير منظمة الشفافية الدولية عن حالة الفساد في العالم، فثمة فساد مالي وإداري كبير، وثمة استغلال للنفوذ من أجل مراكمة الثروات ولو على حساب مصالح المواطنين وسلامتهم، وثمة زبائنية ومحسوبية في الوصول إلى المراكز ومواقع القرار.

ثم أنّ نظرة السلطات إلى المواطن في الغالب ما زالت نظرة تشكيكية ارتيابية، إنْ لم تكن عدائية، وفي المقابل فإنّ نظرة الفرد للدولة استمرت سلبية، متربصة، تعارضية، حتى إزاء الخدمات والمرافق العامة، خصوصاً في ظل التمييز وعدم المساواة وعدم تكافؤ الفرص وعدم احترام الحق في المشاركة وضعف الحريات.

وهكذا فمما لا يختلف حوله اثنان إخفاق الدولة العربية الحديثة في إدراك مقوّمات الحكم الرشيد، حيث نصيب الدول العربية ضعيفاً من حيث مدى قبول المواطنين لها (الشرعية)، ودرجة التزامها بالعهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، ومن حيث كيفية إدارتها لاحتكار حق استخدام القوة والإكراه، ومدى قدرة الرقابة المتبادلة بين المؤسسات على الحد من إساءة استخدام السلطة. ففيما يُتوقع من الدولة أن تضمن حقوق الإنسان نراها في عدة بلدان عربية تمثل مصدراً للتهديد ولتقويض المواثيق الدولية والأحكام الدستورية الوطنية. فرغم وجود دساتير في معظم البلدان العربية فإنه في عدة مجالات جوهرية، لا تلتزم الدساتير العربية بالمعايير الدولية المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها الدول المعنية، ويؤدي ذلك إلى الإخلال بمستويات أمن الإنسان. إذ ثمة دساتير عربية تتناول حرية الرأي والتعبير بصورة غامضة مع الجنوح إلى التقييد لا إلى التسامح، وهناك دساتير عربية عديدة تحيل تعريف الحقوق إلى القوانين التي تصدرها سلطة الدولة، بل تجيز التعدّي على حريات الأفراد وحقوقهم وانتهاكها. كما تشهد بعض الدول العربية أحكاماً عرفيةً أو أحكام طوارئ منذ عقود، رغم أنّ هذه الأحكام عادة ما تكون لفترة محددة، وتستخدم بعض الدول القوانين لتهديد  حرية التعبير وتزيد من الصلاحيات الممنوحة للبوليس السياسي لتفتيش الممتلكات والتصنت والاعتقال، وفي بعض الحالات تزيد من الإحالة على المحاكم العسكرية.

وعلى العموم أخفقت القوانين في تحقيق التوازن المطلوب بين أمن المجتمع من جهة والحريات الفردية من جهة ثانية، وكان من نتائج ذلك أنّ السلطة القضائية في أغلب البلدان العربية تعاني انتهاك استقلالها بصورة أو بأخرى جراء هيمنة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية، وقد أدى ذلك إلى أنّ كثيراً من مواطني البلدان العربية يعيشون في حالة من انعدام الحرية، ويُحرمون من الإدلاء بأصواتهم، واختيار ممثليهم.

وإزاء كل التوصيفات السابقة تبدو صعوبة تأمين الدولة لسلامة الإنسان العربي نتيجة طبيعية، مما يتطلب البحث عن الأسباب العميقة لهذه الصعوبة. إذ يبدو أنّ حالة الإحباط التي تواجه الإنسان العربي وتقف حائلاً أمام تنفيذ رغباته وتقتل فيه روح الطموح، تنتزع منه، في الوقت نفسه، أسباب الخوف وتحرره من هيمنتها، وتحول الوجه السلبي للإحباط إلى وجه آخر إيجابي وفعّال، ينفجر ليصنع غداً آخر حين يجد هذا الفرد نفسه وسط حشد كبير يشترك معه في مشاعره وأهدافه، وهذا ما وجدناه في ثورتي تونس ومصر ونجده في إرهاصات الثورة في بقية البلدان العربية. على أمل الوصول إلى دولة حق وقانون قوية، تخضع للمحاسبة.

 

تونس في 18/4/2011                   الدكتور عبدالله تركماني

كاتب وباحث سوري مقيم في تونس

(*) – نُشرت في صحيفة ” القدس العربي ” – لندن 22/4/2011.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى