صفحات الثقافة

الناقد الامريكي الراحل روبرت هيوز: رفض تسييس الفن واحتفى بنخبوية لا تقوم على العرق او الطبقة


ابراهيم درويش

روبرت هيوز (1938- 2012) الناقد الفني المعروف الذي توفي في نيويورك بعد صراع طويل مع المرض يمثل تيارا مهما في الكتابة عن الفن والحركات الفنية والثقافية الحديثة، حيث طبعت اعماله بالنزعة التي ترفض النزول بالفن او الادب الى مستوى ثقافة الاعتراف التي تعلم الحياة الثقافية والاعلامية اليوم خاصة في المشهد الامريكي.

وهيوز الاسترالي الذي ظلت علاقته مضطربة مع بلده وفي كتابه المعروف ‘الساحل المميت’ (1987) وهو تاريخ اجتماعي لاستراليا كبلد رسا عليه المجرمون واستوطنوا فيه. ويظل هيوز احسن ناقد س هذه البلاد وليس غريبا ان تحتفل به في وفاته.

كان هيوز الذي عاش معظم حياته في نيويورك يمثل ما يمكن وصفه بالبحث عن سمو الثقافة او التأكيد على نخبويتها ليس بالمعنى المعرو ف المرتبط بالطبقة او المال، من اجل الحفاظ على جمالية الفن، فسلسلته التي قدمها في الثمانينات من القرن الماضي عن ‘صدمة الجديد’ تعتبر من احسن البرامج الوثائقية عن تاريخ الفن ولا يوجد حتى الان ما ينافسها من ناحية طريقة العرض والأداء. وتلخيصه لتاريخ الحركات الفنية من التكعيبية والسوريالية واعمال بيكاسو في عشر صفحات لا يزال صامدا وجامعا مانعا، وهذا ينبع من رفض هيوز استخدام لغة ورطانة النقد الفني المعروفة، ولهذا نظر اليه نظرة خوف وبغض وهو ما لم يلق اليه بالا.

وتنبع اهمية هيوز من خلاله قراءته للمشهد الثقافي الامريكي والفن الغربي خلال ثلاثة عقود، فبالاضافة لكتاباته النقدية للفن وتاريخه في امريكا فقد كان قارئا مهما للمشهد الثقافي الامريكي في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، ففي كتابه ‘ ثقافة الشكوى’ والذي قام على سلسلة من المحاضرات التي القاها في جامعة كامبريدج، حلل فيه المشهد الثقافي الامريكي وانتقد فيه تسييس الفن وحركة التصحيح اللغوي، التي اصبحت حركة متطرفة تعمل على تغيير العبارات والاوصاف كي تتجنب احراج جماعات معينة ـ وبدأت هذه الحرب في حرم الجامعات الامريكية لتأخذ شكلا وطابعا سياسيا، وقد رأى هيوز انه مهما اطلقت على الاسود ـ زنجي ـ افروامريكان او اسود فلن ينفعه طالما لم تحقق العدل له، وقرأ المدى الذي ذهبت فيه هذه الحركة خاصة بين اوساط الفيمينزم ـ الانثويات ـ اللاتي اردن محو اي اشارة لاسم الرجل ـ مان ـ في عبارات معروفة مثل ـ تشيرمان (رئيس) وسبوكسمان (ناطق رسمي) واستبدالها بكلمة اخرى محايدة مثل شخص ‘بيرسون’. ويرى هيوز ان جهل دعاة حركة التصحيح اللغوي نابع من عدم قدرتهم على فهم تاريخ اللغة الانكليزية فكلمة ـ مان ـ في الانكليزية القديمة كانت محايدة تعني الجنسين الذكر والانثى.

وفي نفس السياق تحدث عن تطرف النساء او حركات الفيمينزم في تحديدها للعلاقة بين الرجل والمرأة وفكرة ‘ الاغتصاب’ وتعريفه حيث عبرت الناشطات عن سلطوية بالغة عندما قالت بعضهن ان العلاقة الجنسية مع الرجل تظل شكلا من اشكال الاغتصاب حتى لو تمت بموافقة الطرفين. والبعد الاهم الذي حلله في هذه المحاضرات هي العلاقة بين الدين والسياسة والفن والثقافة في السياق الامريكي، مشيرا الى عدد من الاحداث التي تدخل فيها الدين ـ السياسة لمنع الفن وحريته ومنع ‘اهدار اموال دافعي الضرائب من الرجال والنساء على دعم مشاريع فنية تسيء للذوق’ ومع عدم رضى هيوز عن بعض الاعمال الفنية التي رفض احيانا حتى الكتابة عنها الا انه رفض تدخل الدين/ السياسة وفرضه شروطا على متاحف الفن وقاعات العرض، ويشير مثلا الى لوحة اثارت جدلا لاندريس سيرانو والتي صور فيها السيد المسيح مصلوبا ومغمورا في كأس من بول الفنان والتي اثارت غضب سياسيين واخرين، طبعا هيوز يتحدث في السياق الامريكي حيث يقول ان الجدل ثار على لوحة الفنان سيرانو لكن احدا لم يغضب عندما كان محل في لونغ ايلاند حيث كان يعيش يبيع شوكولاتة عليها المسيح مصلوبا، فما الفرق اذن بين من يغمر منقذه ببوله ومن يأكله. ونفس الامر يقال عن الجدل الذي اثاره معرض صور للفنان روبرت مابلثورب عام 1989 بعد وفاته بفترة وكان من ضمن صوره لوحة صور فيها نفسه كشيطان، وقد تركز الجدل حول المعرض من ناحية علاقة الدولة بالفن ودعمها.

ففي حالة مابلثورب يجب ان لا يدعم فن يحرض على الرذيلة مع ان هيوز في تحليله يقول ان دعم الدولة له لا يتعدى نسبة صغيرة. ‘ثقافة الشكوى’ هي عن الحرب الثقافية في امريكا، والنقاش حول قضايا المثليين والتصحيح اللغوي، والصرعات العلاجية الطبيعية والادمان على البرامج التلفازية الشعبية الاعترافية الطابع، كل هذا تم في جو من الاحساس بالثقة وتحول امريكا للقوة الوحيدة في العالم بعد نهاية الحرب الباردة. هيوز الاجنبي يرى ان فكرة امريكا لا تقوم على تنوعها وقدرتها على تجاوز خلافاتها العرقية واللغوية والدينية، باعتبارها بلد المهاجرين، فمن البساطة وصفها ببوتقة صهر ومن الخطأ عدم الحديث عنها في هذا السياق لان اجزاء فيها قد انصهرت معا، و وبهذه المثابة فهي ليست تشكلا متنوعا من ثقافات واعراق بل هي ‘بنية ذهنية’ وكون امريكا ترحب بالاجانب لانها بلد الاجانب لا يعني انها بلد الحرية او البلد الذي يحتكر الحرية، او ان نظريتها عن الحرية قابلة للتصدير الى اي مكان في العالم، لان الحرية تمثل لها عقيدة ولدت من رحم المهاجرين والقبائل التي تدافعت بدرجة اصبحت قادرة على التوصل الى تسوية مشتركة فيما بينها. في مركز ‘ثقافة الشكوى’ اذا، فكرة دخول امريكا مرحلة من عدم التسامح او القبول بالرأي الاخر، وتقييد الحريات.

ولد روبرت هيوز عام 1938 في سيدني وتوفي والده وهو في عمر الثانية عشرة حيث درس في مدرسة للجيزويت، ثم سجل في جامعة سيدني لدراسة الهندسة المعماريةـ ولم يكن مبرزا في الدراسة حسب قوله ‘نجحت بالسقوط في مادة الفن في السنة الدراسية والتي كان من الممكن على اي طالب متوسط الذكاء النجاح بها’.

بدأ وهو في عمر الـ 28 بتأليف الكتب حيث كتب تاريخ الفن الاسترالي، وبعد نشره نصحه المؤرخ المعروف الان مورهيد بالسفر الى اوروبا، وهو ما فعله، حيث زار عواصم الفن الاوروبية وانتهى الى لندن حيث بدأ يكتب مقالات نقدية تنشرها صحيفة ‘صاندي تايمز’، وفي لندن كتب كتابه ‘الجنة والنار في الفن الغربي'(1969)، وبناء على الكتاب قررت مجلة ‘تايم’ الطلب منه العمل كناقد فني للمجلة.

وانتقل عام 1970 الى نيويورك وظل يكتب للمجلة حتى نهاية القرن الماضي. وكانت سلسلة الحلقات التي قدمها هيوز ‘صدمة الجديد’ من انجح الحلقات ونالت احتفاء عالميا حيث نشر الكتاب المرافق لها واعيد نشره وراجعه الكاتب وعدل فيه عام 1991. وبالنسبة لفكرة كتابه الشهير ‘الساحل المميت’ فانها جاءت عندما قضى وقتا مع مورهيد في توسكاني وقال له ان اراد ان يعثر على موضوع قوي فعليه ان يفكر في معالجة موضوع ‘المجرمين’، ويبدو ان هيوز لم يكن يتوقع هذه الفكرة حيث قال له انه لم يقطع كل هذه المسافة ليكتب عن المجرمين بل عن الفنان الايطالي بييرو ديلا فرانسيسكا.

ومع ذلك ففكرة الفيلم ولدت حيث عاد اليها وهو يقوم باعداد فيلم عن الفن الاسترالي. ولم يعثر اثناء البحث عن اي كتاب يقدم صورة عن تجربة المستوطنين الاول في استراليا حيث كتب ان ‘ماضينا اما حرمنا منه او اصبح قصة رومانسية ولهذا كتبت الساحل المميت كي اشرح ماضينا لنفسي’. وكان عنوان الكتاب الاصلي ‘جذور الكانغارو’ ولكن غيره بعد اكتشافه وثيقة في الارشيف البريطاني عن تجربة مجرم اسمه جورج الثالث. لم تخل حياة هيوز من مشاكل فبعد عامين من نشر كتابه ‘ثقافة الشكوى’ (1993) نشرت مجلة ‘تايم’ تحقيقا احتل عنوانه غلافها هاجم فيه دعم الحكومات الفدرالية الامريكية للفن، وقد اغضب التحقيق نيويت غينغرتش، رئيس الكونغرس الذي طالب بحقه بالرد على التقرير.

لكن الازمة الكبرى التي اصابته عندما اصيب في حادث تصادم سيارته حيث كاد ان يفقد حياته وتبع ذلك تعقيدات قانونية لكن لم يمنعه هذا من مواصلة العمل حيث نشر عام 2006 مذكراته عن الحادث تحت عنوان ‘الاشياء التي لم اكن اعرفها’ وقبلها نشر دراسته الطويلة عن غويا، وفي عام 2004 عاد الى موضوع الفن وصدمة الجديد حيث عمل سلسلة تحت عنوان ‘ الصدمة الجديدة للجديد’ والتي اسف فيها لحالة الفن الذي اصبح مركزه المال وصعود ما اسماها النجومية الفنية، خاصة اعمال الفنان البريطاني داميان هيرست الذي خصصه ايضا بالنقد في برنامج له في القناة الرابعة عام 2008.

ولعل احسن ما كتب عن هيوز بعد رحيله الافتتاحية التي خصصتها صحيفة ‘الغارديان’ تحت عنوان ‘في مديح هيوز’ واشارت فيها تحديدا الى كتابه ‘ثقافة الشكوى’ الذي انتقد فيه تسييس الفن وعمله الدائب للتأكيد على قيمة الفن الجميل والتجربة الفنية ‘قد نجد صعوبة في قول لماذا لكن التجربة تبقى’.

وقالت ان هيوز آمن بنخبوية للفن لا تقوم على الطبقة او العرق او الثروة ولكن على المهارة والخيال والقدرة العالية والرؤية المكثفة. كما ان اعمال وكتابات هيوز عن الفن الحديث، استراليا وبرشلونة وروما وغويا تعتبر مهمة لانها دائما ما جسدت هذه القيمة الفنية، وهي مشعة وفصيحة اكثر مما كتب الاخرون، وفي النهاية لا يبقى غير التجربة كما قال وقالت الصحيفة. وفي النهاية اقول ان هيوز في كتابته وعرضه لتاريخ الفن، سريع قوي مثل تيار النهر، واعترف انني تعلمت منه الكثير حول كيفية قراءة الفن ومعنى العمل الفني ودراسة تاريخ واصول كل لوحة ونسبها في تاريخ السلالة الفنية.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى