صفحات الناس

أسئلة من سورية/ معن البياري

 

 

أعلن مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (إف بي آي) عن مكافأةٍ قدرها مليون دولار، لمن يقدّم معلوماتٍ من شأنها تعقّب أثر الصحافي أوستن تايس الذي اختفى قبل خمس سنوات في سورية، وتساعد في استرداده آمنا. وبعد أن نتمنّى للزميل الأميركي سلامته، وأوْبته إلى أسرته، فإن قارئ خبرٍ كهذا، منا نحن العرب، لا بد أن يغشاه أسىً كثيف، فأي قلة عقل هذه تجعل جهازا حكوميا يخصّص هذا المبلغ المهول لمجرد معلوماتٍ عن مواطنٍ فُقد أثرُه، تاه، ضاع، ربما مات، في بلد هو من يتحمّل مسؤولية القدوم إليه. يتورّط المواطن العربي عندما يقع على خبر الزميل تايس بدهشة رفاعة الطهطاوي الخالدة منذ نحو مائة وخمسين عاما، عندما أفرط في مقارناتٍ عقدها بين حال الفرنجة وأحوالنا في بلادنا العربية الزاهرة، بحسدٍ ليس خافيا في لغة ذلك النهضوي الرائد. وأظننا، بعد أزيد من قرن على تلك الدهشة، في البلاد العربية نفسها، على الأحوال نفسها، ولا شطَط في القول إننا في أحوالٍ أحطّ وأدنى ربما، وإنْ نستهلك في بلادنا هذه كل أسباب الحداثة ومستجدّاتها أولا بأول. .. أليس استسهال الحروب الأهلية بيننا، بين ناس البلد أنفسهم، يدلّ على استرخاص الإنسان وحياته؟

الخبر أعلاه، أي عرض مليون دولار لمن يقدّم معلوماتٍ قيّمة عن صحافي أميركي مفقود، واحدٌ من أخبارٍ عجيبةٍ تتوالى من سورية، من جديدها أيضا أن النظام الحاكم في هذا البلد، وبالصواريخ الروسية التي تحميه، شغوفٌ بقصف المستشفيات، وهو يخوض حربه الظافرة ضد من تلتبس تسمياتُهم وتتنوّع، إرهابيين ومسلحين وثوارٍ ومعارضين. وهذا مخيم اليرموك، أحد عواصم الشتات الفلسطيني التاريخية، تعمل قوات الأسد على تدمير ما تبقّى منه، على إنهاء كل حياةٍ فيه. وفي الأثناء، أجهزت على آخر مستشفىً في هذا المخيم كان قيد العمل، مستشفى الهلال الأحمر الفلسطيني، بعد أن استهدفه الطيران الحربي للنظام الذي يقدّم إنجازا استثنائيا منذ بدأ عدوانَه على الشعب والسكان قبل سبع سنوات، فالمعلوم أن 489 مستشفىً صغيراً وكبيراً، حكومياً وخاصاً، كانت في سورية في عام 2011، يقدّر أن نحو نصفها تم تدميرُه في هذه السنوات، وذلك بفضل الشعور الإنساني العالي الذي يتحلّى به أهل القرار وبضاعته، في دمشق وموسكو وطهران. والسؤال هنا: هل من منزلةٍ أحطّ وأدنى من ممارسةٍ كهذه تسترخص الإنسان وحياته؟

بحسب تقريرٍ متقن، نشرته صحيفة التايمز البريطانية، اختبرت روسيا في الحرب الدائرة في سورية 150 سلاحا ونظاما قتاليا، وأنه أعيد استخدام التكتيكات القتالية للقرن العشرين، من القصف المكثف المعروف باسم “سجادة القنابل” إلى التسميم بغاز الكلور، وذلك لاختبار مدى إمكان استخدامها في حروب اليوم. وبحسب كاتب التقرير، روجر بويز، فإن الانخفاض الذي صار ملحوظا في أعداد الخسائر البشرية والإصابات في سورية يعود إلى أن جماعات المراقبة توقفت عن عدّ الضحايا، بعد أن تجاوز الرقم المقدّر للقتلى نصف مليون. ولا يملك قارئ هذا الإيجاز سوى استفظاع المحنة السورية المهولة، والسؤال عن أسباب هذه “الروح الحربية” الشرسة ودواعيها، ذلك أن القضاء المبرم على أي مجموعاتٍ إرهابيةٍ في أي مطرح في العالم لا يستأهل كل هذه التجارب والاختبارات في قدرات أسلحة التمويت والفتك. تُرى، أليس ممكنا مقاتلة أعداء بشار الأسد، مسالمين أو مسلحين، ثوارا أو إرهابيين، بأساليب و”تكتيكات” عسكرية غير هذه، أقلّ استرخاصا للحياة وقيمتها؟ صحيحٌ إذن أن سورية، في عهد بشار الأسد، ليست مستباحةً فقط للعفاريت الزرق من شياطين الإرهاب الأعمى، ولجيوشٍ ومليشياتٍ روسية وإيرانية وفيرة، بل أيضا مستباحةٌ لتجريب القتل وأجناسه وتنويعاته، أيها أشدّ وأمضى، أيها أكثر ترويعا. تُرى، أي عقلٍ شيطانيٍّ يقيم في رؤوس الحاكمين في دمشق وموسكو وطهران؟

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى