صفحات سورية

زيتون بشار


 أحمد الشامي

ينسب ٳلى ملكة فرنسا “ماري أنطوانيت أنها قالت في الثاني من اكتوبر 1789 لدى رؤيتها لفقراء تجمعوا خارج قصر “فرساي” المهيب  ليطالبوا بالخبز الذي لا يجدونه : “ٳن لم يكن لديهم خبز، فليأكلوا الكعك…”. كان سجن “الباستيل” قد سقط منذ أشهر و سعر الخبز في باريس الثائرة قد ارتفع بشكل صاروخي. الناس جاعوا وذهبوا يطلبون العون من ساكن القصر، الملك لويس السادس عشر، الذي سيفقد رأسه هو و زوجته بعد أربعة أعوام في 1793.

الملكة ماري أنطوانيت ابنة امبراطور النمسا، لم تكن بهذا الغباء أو الانفصال عن الواقع، لكن اﻷغلب أن كارهيها هم من أشاعوا أنها نطقت بهذه العبارة السخيفة. الحقيقة أن هذه العبارة ذاتها نطقت بها امرأة حمقاء ، هي الملكة “ماري تيريز ” ابنة ملك اسبانيا و زوجة “الملك الشمس ” لويس ” الكبير ” الرابع عشر المشهور بعبارة أخرى لا تقل “ذكاء ” عن درر حرمه المصون : “أنا الدولة والدولة أنا “.

ٳن كان هناك خلاف في نسبة هذه العبارة لماري أنطوانيت أو ماري تيريز، فلا خلاف أبداً حين يتعلق اﻷمر بخطابات اﻷسد الموثقة تلفزيونياً والتي ستدخل بدورها التاريخ كأمثلة على نكران الواقع والانفصال عنه.

على عكس الازدواجية في الخطاب والتي تدل على ٳدراك للحقائق مع رفض التصريح بها لأنه سيؤدي للاعتراف بالتناقض بين القول والفعل ، يأتي ٳنكار الواقع (Déni) كدليل على الافتراق الكامل والانفصال التام عن الحقائق المعاشة.

علم النفس يعلمنا أن الازدواجية في المواقف و الخطاب المزدوج هي من صفات السلوك المنحرف وتدل على رغبة في التلاعب بعقول السامعين والتحكم بسلوكهم (manipulation) في حين أن ٳنكار الواقع هو من علامات النفاس والهذيان.

الخطاب المزدوج شائع في الممارسة السياسية في كل مكان. في فرنسا مثلاً كل الحكومات تسمي سياساتها “ٳصلاحية” حتى حين تتسبب هذه السياسات في تقليص فرص العمل وفي خفض مستوى المعيشة واﻷجور! تصل هذه الازدواجية ٳلى أقصاها في اﻷنظمة الشمولية التي تسمي الاستبداد حرية و الطغيان “ديمقراطية” شعبية أو جماهيرية.

نظام الممانعة في دمشق هو سيد الخطاب المزدوج لا ينازعه في ذلك سوى “موجابي” في “زمبابوي” والذي يستمر في سياسة “الصمود والممانعة ضد نظام التفرقة العنصرية الأبيض في جنوب أفريقيا وفي بلده ” مع أن هذا النظام شبع سقوطاً ! حاله كحال حزب الله المقاوم و الراغب في تحرير أرض محتلة، انسحب منها العدو منذ حوالي العقد !

في خطابه اﻷخير ، تحدث اﻷسد عن الممانعة والصمود في حين يعرف القاصي والداني أن ممانعة النظام هي في وجه شعبه لا غير وأن صموده هو فقط في وجه الحتمية التاريخية القائلة بضرورة زواله هو ونظامه.

اﻷسد الذي يداعب حلم التحرير ، يترك الجبهة خاوية على عروشها و يرسل زبانيته و جيشه الغضنفر لاحتلال المدن السورية واحدة تلو اﻷخرى مستعملاً اﻷسلحة الثقيلة وواضعاً الخطط الحربية والكمائن التي لم نرها لا في الجولان ولا في أي أرض عربية محتلة.

حين يصر اﻷسد على اﻹصلاح و يتشبث بالسلطة ، فهو يبدو أشبه بالملك لويس السادس عشر الذي كان يناور في توقيع شرعة حقوق اﻹنسان و يتمسك بأهداب حكم زائل ، يحلم  بالعودة لفرساي معززاً مكرماً كملك محبوب على أكتاف مواطنيه ، في حين كان المتظاهرون خارج قصر “التويلري” يطالبون بقطع رأسه…

في سوريا نظام مكروه ، فئوي ، طائفي ، قائم على الوراثة و الامتيازات واحتقار المواطن والحياة الانسانية ، نظام يليق بالقرون الوسطى تماماً كالنظام الملكي البائد الذي ثار عليه الفرنسيون منذ أكثر من قرنين. الثورة الفرنسية بدأت باجتياح “الباستيل ” والسورية كسرت حاجز الخوف وهو “الباستيل” الذي يحمله كل مواطن سوري في قلبه. الثورة السورية تطالب بالديمقراطية وبالدولة المدنية ، وهي نفس مطالب الثائرين الفرنسيين الذين فرضوا شرعة حقوق اﻹنسان و أول دستور فرنسي في وجه حكم غاشم ومطلق. أحرار سورية يريدون دولة لكل مواطنيها ، وهو ما يعادل “سحب الامتيازات ” في فرنسا القرن الثامن عشر. النظام الملكي الفرنسي البائد كان فيه “مخلوف” و “أسد” و”شاليش” وغيرهم من ٳقطاعيي “الثورة اﻷسدية ” .

المقارنة بين الثورتين السورية والفرنسية لا تنتهي عند هذا الحد، فالثورتان واجهتا محيطاً شديد العداء لهما. في فرنسا، تحالف أعداء الملكية الفرنسية وأصدقاؤها وهبوا جميعاً لنجدة النظام الملكي المنهار خوفاً على أنظمتهم. ألد أعداء العائلة المالكة الفرنسية ، مثلهم مثل أصدقائها ، بما فيهم البريطانيون خفوا ﻹنقاذ الحكم الملكي الذي سبق وحاربوه !. بعد أكثر من قرنين، ها هو التاريخ يعيد نفسه في سوريا ، حيث يتفق العراق وإيران وحزب الله مع إسرائيل و روسيا والنظام الرسمي العربي بهدف ٳنقاذ نظام اﻷسد من شعبه ومن نفسه.

الفرق بين سوريا اليوم و فرنسا الملكية هو أن النظام الملكي الفرنسي على علّاته ، كان أكثر وطنية وٳنسانية من نظام الشبّيحة في دمشق بما لا يقاس. فلم يفرط بأرض ولم يقترف مجازر جماعية ولا هو دك مدناً بكاملها أو حفر خنادق حول الحارات المنتفضة ! هذا ما ساعد على الحفاظ على الهوية الفرنسية و على وحدة البلاد بعد سقوط النظام.

أما في سوريا، فاﻷسد يبدو في عالم آخر حين يتحدث عن الشعب السوري الرافض للغزو الخارجي، في حين يترقب الملايين من مواطنيه شواطئ بلادهم حالمين برؤية أساطيل الناتو الآتية لتحررهم من “حاكمهم ” الوطني أو يهدسون بأزيز طائرات أمريكا القادمة لدك معاقل جلاديهم. يكاد الشعب السوري في أغلبيته يستجدي النجدة من الخارج اﻷجنبي ، تركياً كان أو غربياً و يخصص الجمع للمطالبة بذات “الغزو” الذي يحذّر منه جلادهم. فما معنى تخصيص جمع للمناطق العازلة والحظر الجوي غير أنها عناوين للتدخل الخارجي العسكري الذي ينتظره السوريون لكي يخلصهم من قيودهم.

اﻷسد لا يمل من تكرار معزوفة المؤامرة الهادفة لزعزعة استقرار نظام الممانعة ، و لا يرى أن العالم كله بقضه وقضيضه ” يتآمر” لكن معه ﻹخماد ثورة شعبه ضده ! ينتقد اﻷسد التدخل التركي واردوغان في حين أن شعبه المظلوم هو من عانى من وعود الزعيم التركي الكاذبة و من عنترياته الفارغة. اﻷسد يندد بالدعم واﻷسلحة اﻹسرائيلية المقدمة للمعارضة في حين لم يبق سوى اﻷغبياء ليصدقوا أسطورة عداء اﻷسد ﻹسرائيل التي هي أول الداعمين له ولنظامه، لا حباً به ولكن لضمان هدوء جبهة الجولان المحتل والذي سيقى محتلاً ما عاش اﻷسد. تعرف ٳسرائيل أيضاً أن كل بدائل اﻷسد، خاصة قيام نظام ديمقراطي حر ، هي أخبار جد سيئة بالنسبة للنظام العنصري الصهيوني.

اﻷسد ينتقد السياسة اﻷمريكية ” المعادية ” لنظامه في حين يكتفي “الرئيس اﻷسمر، العالم بآلام الشعوب المسحوقة” بأن “يرجوه” أن يتنحى لحقن دماء شعبه!. اﻷسد وأبواقه يشتمون السياسة اﻷمريكية، لا فرق لديهم بين “جورج بوش الصغير” و بين اوباما ، في حين “يسب” ملايين السوريين الساعة التي انتُخب فيها اوباما ويترحمون في سرهم على سلفه “بوش الصغير” قائلين : “هل كان اﻷسد ليجرؤ على سفك دمائهم بهذه الأريحية لو كان في البيت اﻷبيض رئيس قوي ، ذو مبادئ ، حتى لو كان متهوراً ومتأثراً بفكر محافظ ؟”.

لو لم يقم “بوش الابن” بغزو العراق و تخليصه من طاغيته الدموي ، صنو اﻷسد ، لكان صدام حسين لا يزال متربعاً على عرش الجماجم في بغداد و يحضر لتوريث أحد نجليه.

ماذا تعني طلبات السوريين بحظر جوي وبمناطق عازلة غير طلب النجدة من غرب و من عالم لا يبالي بمعاناتهم ؟ طلب التدخل الدولي المباشر بل واستجداء التدخل “البري” رهن بمجزرة مقبلة يقترفها شبيحة اﻷسد. كل هذا في ظل “طرش ” الرئيس اﻷمريكي الحالم بٳعادة انتخابه ولو على جثث السوريين. “بوش الابن ” أرسل جيشه بعدما هدد وأوعد وطالب صدام بالرحيل ، انتهى اﻷمر ٳلى تحرير العراق من جلاده، بكلفة باهظة دفعها العراقيون يومها ويدفع السوريون وسيدفعون ربما أكثر منها للتخلص من قاتليهم.

الرئيس الصنديد ” اوباما ” أرعد وأزبد ، لكن ضد “الهاكرز” ولحماية أفلام هوليود من القرصنة… وحين حسم أمره ” للقتال” لم يرسل المارينز، بل أرسل ال “اف بي آي” ليغلق موقع ميغا ابلود (Megaupload) ! ماذا ننتظر من رئيس جاءت به “وول ستريت” و ستوديوهات هوليوود غير “صف الكلام” و اللامبالاة بمعاناة المظلومين ؟ على الأسد أن يشكر ربه لأن الربيع العربي لم يقع أيام حكم الرئيس ” بوش الابن” لا أن ينتقد سيد البيت الأبيض الحالي.

أخيراً ، وفي خطابه الذي سيدخل التاريخ كمثال عن الانفصال عن الواقع و العيش في عالم افتراضي لا علاقة له بما يحصل خارج أسوار قصره الذي كلف أكثر من 24 مليار ليرة ( نعم ، في سوريا الأسد أيضاً قصر “فرساي ” خلف دمر ، و قصر “تويلري ” في المهاجرين…) وجد الرئيس الوريث الوقت مناسباً للحديث عن الزيتون وزيت الزيتون وعن موقع سوريا المتقدم عالمياً في ٳنتاجهما ! الدم السوري يُهرق دون حساب على يد الشبيحة والشعب السوري يؤكل على موائد اللئام ، والرئيس الوريث يُتحفنا بمحاضرة عن زيت المائدة…

خطابات القذافي لم تكن أكثر إنسانية، لكنها كانت على الأقل مسلية….

أحمد الشامي  http://www.elaphblog.com/shamblog

نشرت في بيروت اوبسرفر 26 كانون الثاني 2012

http://beirutobserver.com/index.php?option=com_content&view=article&id=69864:assad&catid=39:features

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى