صفحات مميزة

أسطورة داريا: مقالات مختارة

داريا، 22/4/2011/ صبحي حديدي

«الجمعة العظيمة»، أو «جمعة الآلام» مناسبة مسيحية سنوية تستذكر مسير يسوع على درب الجلجلة، وصولاً إلى الصلب؛ ويوم 22/4/2011، شاء الحراك الشعبي السلمي السوري أن يؤكد على التضامن المسيحي ـ المسلم في سوريا، فأطلق على جمعة التظاهر تلك اسم «الجمعة العظيمة»؛ وقبلها كانت قد مرّت خمس جُمَع، منذ 18 آذار (مارس) 2011: «الكرامة»، «العزّة»، «الشهداء»، «الصمود»، و«الإصرار». لكنّ تلك الجمعة سجّلت، أيضاً، دخول بلدة داريا في سجلّ شهداء الانتفاضة؛ إذْ استُشهد ثلاثة من فتيانها: عمار محمود، وليد خولاني، والمعتز بالله الشعار؛ كما استنشقت البلدة، بستان العنب البلدي وحاضنة كروم عمرها 7000 سنة، غاز النظام المسيل للدموع، ممتزجاً بزخات الرصاص الحي.

واليوم، في هذا الطور الطروادي من تاريخ ارتباط داريا بالانتفاضة، أستعيد (مع نقل العامية إلى الفصحى) شريط فيديو/ شهادة شخصية للمواطن السوري محمد بشار الشعار، في وصف استشهاد ولده المعتز بالله: «قبل أربعة أسابيع كنّا في دمّر، وعدنا منها، فأدركتنا الصلاة، ودخلنا إلى جامع الشيخ عبد الكريم الرفاعي. صلّينا، وكانت خطبة هادئة ومرتبة وليس فيها إثارة. عند خروجنا، فوجئنا بأعداد من رجال الأمن كبيرة جداً، وكانوا مسلّحين بعصيّ كهربائية وهراوات وسلاسل. شاهدنا قتل الأبرياء، وكبر ذلك في أعيننا كثيراً، رغم أننا لا ننتمي إلى أي تنظيم أو أي شيء ضدّ الحكومة، لكن رأينا أهلنا يُقتلون. والمعتز بالله، وعمره 22 سنة، طالب في جامعة دمشق، كلية الحقوق، تأثر كثيراً لمرأى الأمن يضربون الأهالي بدون رحمة، بالعصيّ، على الرأس، وأينما وصلت العصا».

ومع ذلك، لم يشارك الأب وابنه في التظاهرات، تلك الجمعة، لكنه يتابع وصف الجمعة التالية: «كانت أعداد عناصر الأمن أكبر، وكانوا أيضاً قد جلبوا معهم عمّالاً من المحافظة، سلّحوهم بالعصيّ والسلاسل والهراوات، لكي يضربوا الناس ويبطشوا بهم. الشاب المعتز بالله لم تهن عليه هذه المشاهد، ودم الأبرياء الذي يُراق، فقال لي يا أبي هذا لا يجوز. هذه دماء وليست ماءً، وهؤلاء أهلنا هنا وفي درعا وكلّ مكان، وينبغي علينا أن نخرج في التظاهرات. فقلت له يا بنيّ، العين لا تقاوم المخرز، وهؤلاء في أيديهم بنادق وأسلحة ولا طاقة لنا عليهم. فردّ عليّ: يا أبي، دعني أموت شهيداً، ولا أكون نذلاً مع أهلي وأقربائي وأبناء بلدي. نحن لا نريد شيئاً سوى أن نقف معاً، وتكون أعدادنا كبيرة، لكي لا يستفردوا بنا، لأنهم مجرمون ولا يخافون الله».

في هذه الجمعة، يتابع الأب: «صلّينا في جامع الحسن [حيّ الميدان، في دمشق]. خرجنا من الصلاة، فوقعت بعض الاحتجاجات، ولم يكن المتظاهرون يحملون أي شيء، غير المسير بصدورهم العارية. مضينا إلى بيتنا في داريا، حيث نسكن، فوجدنا الطريق مغلقاً والناس محتشدة، فقال لي المعتز: دعنا ننزل ونشارك معهم، فالطريق أصلاً مغلقة. وهكذا نزلنا، ووقفنا مع الناس، وكانت شعاراتهم كلها سلمية! سلمية! حرّية! حرّية، ولم يردّد المعتز إلا هذه الهتافات، ولم يمسك بيده أي شيء يمكن أن يؤذي الأمن. كان نصيبه هاتين الطلقتين [في الصدر]، فسارعت لإسعافه، فهجم عليّ عناصر الأمن بالعصيّ، وهذه هي العلامات على ظهري، وعلى رأسي، وعلى رجلي. صرت أهتف: يا جماعة الفتى ينزف! أسعفوه على الأقلّ! ظلّ المعتز ينزف طيلة ربع ساعة، وظلّوا غير مكترثين، وبكلّ دم بارد رفضوا إسعافه، وحين وصلنا إلى المستشفى كان قد فارق الحياة».

ويختم الأب أنّ مشاركة الشهيد المعتزّ بالله انطلقت من باعث وحيد هو «نصرة أهله الذين كانوا يُقتلون، هنا وفي بقية المحافظات. وبالنسبة إلى ما يقولونه عن عصابات مسلّحة، نحن نتابع التظاهرات منذ أربعة أسابيع فلم نر أيّ متظاهر يحمل عصا في يده. العصابات التي شاهدناها بأعيننا، واضحة، وبإذن الله أنا أقول الصدق، هي من المخابرات ونظام الأمن التابع للرئيس بشار. هذه هي القصة بحذافيرها، لا يوجد أناس مسلّحون ولا عصابات مسلّحة ولا مندسون، كلّ هذا كذب وتلفيق على العباد. كلّنا مسالمون، طلبنا الحرّية، وأن يُفرج عن الناس الذين في السجون منذ 40 سنة، هذا هو الكفر بنظر الدولة».

جدير بالإشارة أنّ اثنين من أشقاء المعتزّ بالله اعتُقلا أيضاً، الأوّل في الصفّ التاسع (15 سنة) والثاني في الصفّ الحادي عشر (17 سنة).

ولستُ أعود إلى هذه الشهادة، اليوم، لاقتباس برهان إضافي على همجية أجهزة الأمن السورية، بل لأنها ـ إلى جانب ما تختزنه من معانٍ جبّارة تمزج الأسى العميق بحسّ المقاومة الأعمق ـ تعيد تظهير البدايات السلمية النبيلة التي اكتنفت انخراط داريا في الانتفاضة، ونهايات الدمار والخراب والإبادة التي انتهت إليها البلدة على يد همج النظام وبرابرة روسيا وإيران و«حزب الله». كذلك تعيد الشهادة التشديد على أنّ داريا جرح غائر، أسوة بجراح سورية كثيرة، هيهات أن تندمل بدون تكريم الشهيد، بوسيلة أولى لا بديل عنها: استكمال نصرته واكتمال انتصاره، مرّة وإلى الأبد.

القدس العربي

 

 

 

ليلة سقوط داريا/ فائق حويجة

كثر البكَاؤون  واللطَامون على سقوط داريا. وسالت الدموع على وسائل التواصل الاجتماعي. وعلت الأصوات بالويل والثبور وعظائم الأمور.

أغلبية الآراء أرجعت هذا السقوط لوحشية النظام، ونقصان الأسلحة لدى المقاتلين، والتخاذل لدى المقاتلين “الثوار”  في الغوطة الشرقية ودرعا، والصفقات الإقليمية والدولية المستجدة، إلى آخر ما هنالك من تحليلات، لا ترى في هذا السقوط إلا لحظته الراهنة، دون استقصاء العوامل الأساسية – البنيوية إن صحَ التعبير- التي أوصلت له.

لاشك أن النموذج الداراني “من داريا” كان من النماذج المضيئة في سياق طموح الشعب السوري نحو استرداد حقوقه في الحرية والكرامة. ولاشك أن صمود مدينة داريا المحاصرة، طوال أربع سنوات من الحصار والقتل اليومي كان صموداً بطولياً. لكنني رغم ذلك ، أزعم – مع كامل الاحترام والتقدير للبطولات الفردية ولآلام وعذابات المواطنين العزَل وللشهداء – أن سقوط داريا بوصفها مثلاً بطولياً بارزاً، وسقوط النموذج “الداراني” بوصفه ممثلاً لنضالات السوريين السلمية والمشروعة،  كان حاصلاً منذ أن تحولت انتفاضة الشعب السوري إلى “ثورة مسلحة”.

مع التسليم الكامل بما تقتضيه الحالة الإنسانية و ما تقره القوانين الوضعية من حق مشروع للإنسان في الدفاع عن النفس، إلا أنه يمكننا التمييز بين هذا الحق وبين الدعوات المبكرة (…) للعسكرة بوصفها الطريق المجدي والوحيد لإسقاط النظام.

من النافل القول  إن الادعاء بأن النظام السوري هو من بدأ بالقتل، وأن من حق الناس أن تدافع عن نفسها وعن عرضها (كذا …) رغم  صحته، هو ذرّ مقصود  للرماد في العيون. ذلك لأنه ومع التسليم الكامل بما تقتضيه الحالة الإنسانية و ما تقره القوانين الوضعية من حق مشروع للإنسان في الدفاع عن النفس، إلا أنه يمكننا  التمييز بين هذا الحق وبين الدعوات المبكرة – أو التبريرات الشعبوية اللاحقة  والرديئة من حيث الجوهر –  للعسكرة بوصفها الطريق المجدي  والوحيد لإسقاط النظام من قبل شخصيات وأحزاب سياسية محلية لها تاريخ سياسي عريق، متوهٍمة وواهمةً الشعبَ المنتفض أن إسقاط النظام هو قاب قوسين أو أدنى “عضًة كوساية بالتعبير الدارج”، وذلك دون أخذ تعقيدات الواقع السوري بعين الاعتبار. أو دون وضع هذه التعقيدات في حسبانها وبناء تكتيكاتها السياسية على أساس ذلك، لغبائها وقصر نظرها إن افترضنا حسن النية، وبالضد من تطلعات الشعب السوري التاريخية إن لم يكن لحساب دول إقليمية بشكل مباشر أو غير مباشر إن افترضنا سوءها.

سقوط داريا – وقبلها الانتفاضة السورية – باعتبارها الطريق نحو الحرية والكرامة ودولة القانون والمواطنة المتساوية، حدث منذ ذلك الزمن الذي هللت فيه وتصدًرت الأصوات العالية في “الثورة السورية” لأي فعل يقوم بمواجهة النظام مع غض الطرف عن الجهة التي يأتي منها والمآل الذي يمكن أن يؤدي إليه.                           النظام السوري مسؤول عن انسداد الأفق التاريخي السوري وبالتالي فإن إسقاطه حتى لو أدى ذلك  لسقوط الدولة والمجتمع السوريين وبغض النظر عن الكلف البشرية والمادية، هو خطوة تاريخية للأمام من وجهة نظر أصحاب الرؤى الاستراتيجية  تلك، أو أن هذا بالضبط ما كان يريده البعض منهم عبر سقوط الدولة والمجتمع!

سقوط داريا الذي تأخر إعلانه كثيراً نتيجة صمود وبطولات المجتمع الداراني والتي لا يمكن إلا تثمينها من وجهة نظر أخلاقية / اجتماعية، أتى متساوقاً مع السقوط السياسي والنضالي على كامل المساحات السورية، ومع تحول حجم الطموحات من الحرية والكرامة ودولة المواطنة، إلى دول الكانتونات ومجتمعات الملل والنحل وأمراء الحرب ووكلاء الجوار وأصحاب الدكاكين السياسية.

لقد تجلت التراجيديا الدارانية في هذا الأمر بالضبط ، عبر التمسك  ضمن حصار خانق، بقيم الانتفاضة الشعبية الأصيلة، إلى جانب مناخات من “الثورة” غرَدت بعيداً باتجاه الأسلمة والطائفية والمذهبية والارتهان للخارج، وصولاً لغض الطرف عن الإرهاب بأبشع صوره، أي أنها وقفت موضوعياً على الأقل،  ترفع رايات الثورة والانتصار من خنادق الثورة المضادة. الأمر الذي عنى أن المشروع الذي مثلته داريا كان بحكم الساقط في “المحيط الثوري” المناهض لأي ثورة، منذ 2011.

بقي “الدارانيون” مدة أربع سنوات محاصرين، يدافعون تراجيدياً، عن قضية مهزومةِ ممن يدعي نصرتها ويرفع رايتها من بعيد مبشَراً من مأمنه باستمرارها حتى آخر حجر وبشر.

 

 

 

 

طيور داريا/ روجيه عوطة

كأن الطيور اعتادت أن تحوم في محاذاة الداريين، نظراً إلى أنهم كانوا وإياها يحضرون على طرز واحد

ثمة في اللسان العربي تشبيه “كأن على رؤوسهم طير”، يفيد بأن إحدى الجماعات تتجمد في مطارحها خوفاً أو اضطراباً. على أن الطيور، التي حامت فوق داريا في حين بروح سكانها، حولت هذا التشبيه إلى حديث صريح، وقلبته رأساً على عقب. للوهلة الأولى، يشعر مشاهدها أنها تلاحق الداريين، الذين يسيرون تحتها، كي لا يصيبها فزع، أو ينزل بها مكروه. فقد كانت مطمئنةً إليهم، ومتآلفةً معهم، ومرد أنسها بصحبتهم، أنهم كانوا، وعلى سبيلها، يصنعون حيواتهم، التي تتسم بالتجلد والشدة. وهم، في إثر ارتحالهم، يقولون لها بأنهم سينتقلون بصناعتهم إلى رجاء آخر، وبذلك، لا تتردد في مرافقتهم، إذ إنهم يكفلون عيشها، متيحين لها إقران وجودها بوجودهم.

أن تحوم الطيور فوق رؤوس الداريين، فهذا لا يعني أنهم كانوا، في وقت  ذهابهم، ثابتين على ذعرهم، بل إنها كانت، في وقت تحليقها، مرتاعةً لأمرها من بعدهم. كيف ستحيا في مدينةٍ، تحكمها دولة “البعث”، معتقلةً إياها قبل الفناء والدنيا؟ كيف ستسكن إلى هذه الدولة التي، وباعتبارها صميم كل دولة، لا تستطيع التسيد على أي أرضٍ سوى من خلال إزالتها؟ كيف ستسلم نفسها لجنودها، الذين سيقطعون طوافها، ويسدون كل مدى مقابلها؟

فالأبد، عندما يدمر ويحطم، ينتج حضارته، التي، وبوصفها ذروة الحضارة الحديثة، تقوم بمحو الحياة وسحقها. ذلك، أن إنسانه لا يفهمها، ولا يتحمل وقوعها، ولهذا، يعمد إلى لجمها، وحبسها، وخطفها، ولما لا يجد لأفعاله هذه ظروفاً مؤاتية، يحاصرها ويهجرها. غير أن الحياة لا يمكن إقتلاعها ولا نفيها، بل إنها، وعلى دوامها، تَحْدُث فتُصْنَع. هذا ما يفطن الداريون له، وهذا ما واصلوا تأكيده على طول خروجهم من “سوريا الأسد”.

صحيح أن السماء، وبسبب روع الطيور التي حلقت فيها، بدت كأنها تحت رؤوس الداريين، وليس فوقها، لكنها كانت في جوار أرض بروحهم أيضاً. كأن الطيور اعتادت أن تحوم في محاذاة الداريين، نظراً إلى أنهم كانوا وإياها يحضرون على طرز واحد: يثبتون في مكان، يرتبون جريان الحياة فيه، وحين يلوح لهم خارجه، يشير بأن أوان الرحيل إليه قد اقترب. بالتالي، يتستعدون لهجرتهم. الطيور تبدل ريشها بآخر نضر، والداريون يذرفون الدمع، مجددين عيونهم. والإثنان يعتريهما نهم في الحياة، ويأخذهما صوبها.

هناك نظرية في الهجرة الطيّارة، يرى أصحابها أن الطيور لا تهاجر بفعل الحاجة إلى الطعام، بل لأنها، في فصلٍ معين، تدفق منها حيوية، تتشكل كإحساس بالجوع أو العطش، فتلحقها، حتى تلتقي بدفق حيوية أخرى، تتشكل كطعام أو ماء. ولكي تقدر على تتبع دفقها، فلا تنكسر في إثرها، أو تخور، تجتمع وترحل أسراباً. الحال إياها تنسحب على الداريين، الذين احتشدوا في أسرابهم، وتعقبوا دفقهم الحيوي، برمي النظرات على مدينتهم، وبالبكاء، وبالقهقهة، وبالجزم في كونهم طاقوا قصفهم ومحاصرتهم، واظبوا على تهريب وجودهم بين البراميل والحواجز، ولذلك، الهجرة قد تهشمهم، لكنها لن تكسحهم.

على عكس تصوره كرهط مغلق، الحرية تستدعي التغريد ضده، وللسرب معنيان. في الأول، هو القلب والنفس. وفي الثاني، هو الفريق الذي يتألف على أساس الحياة، التي تبزغ من كائناته، أكانوا طيوراً أو بشراً، وتجعلهم يلاحقونها في كل خارج، حيث يلتقون بها.

وبما أنه ليس للداريين سوى أسرابهم، فهذا يدل على أنهم، وكلما خرجوا، يمكنهم ذلك من السكن في قلوبهم وأنفسهم، حتى انهم يعطون للإقامة مساراً آخر: إقامتنا في مكانٍ ما تبدأ بالإقامة في أسرابنا، ولما تضرب دولة الأبد حصارها على ذلك المكان، لن تقدر على محاصرتنا، ولما تقتلعه، لن تعرف أنه موجود في كل مكان. فنحن، حين نسكنه، فذلك، ببساطة، لأنه يتيح لنا أن نقطن في قلوبنا وأنفسنا، أي أنه يتيح لنا الخروج منه، والمضي إلى كل الأمكنة.

قالت إحدى الصديقات أنها عندما رأت الداريين يجرون حقائبهم وأكياسهم، شعرت بأننا، نحن، هنا، في بيروت، وفي مدن غيرها، نعيش لحظات دارية كثيرة. ذلك، أننا، وبين فترة وأخرى، نحمل شنطنا وصناديقنا، منتقلين من منزل إلى آخر، فما أن نستوي في مكان حتى يدفعنا ضيق الأوضاع وشظفها إلى تركه. لاحظت الصديقة أن تلك اللحظات هي لحظاتنا الأكثر واقعية، لكننا، وعلى الرغم من عيشنا لها، نختلف عن الداريين في تلقفها.

فلما كانوا، إسوةً بكل السوريين، لا يتراجعون عن مواجهتها، ويحضرون فيها، غدوا ضليعين في تدبيرها، ولما كنا نستمر في تجنبها وتأجيلها، تعاظم خوفنا منها، لدرجة أننا بتنا لا نتوقف عن الرحيل كي لا نقطن في أنفسنا وقلوبنا.

فعلياً، كم نحتاج إلى وقت من الواقع لكي نستحيل داريين، لكي نستحيل طيوراً!

المدن

 

 

 

 

 

 

كأنَّا يوم داريّا أسود../ أمجد ناصر

هل يعيد التاريخ نفسه؟ كلا. فلا شيء يتكرَّر، بالتمام والكمال، عندما يتعلق الأمر بما هو تاريخي (سياسي واقتصادي وثقافي واجتماعي)، برغم قول ماركس إنَّ التاريخ يعيد نفسه، مرةً كمأساة وثانيةً كمهزلة (أو ملهاة). ولكن ماركس كان يتحدَّث عن السلالة البونابرتية في فرنسا، وليس عن أمكنةٍ وأحداثٍ تاريخيةٍ يغلب عليها، للوهلة الأولى، التكرار. مع ذلك، هناك ما يني يحدث لأمكنةٍ معينةٍ بحيث يصحُّ القول، بسبب تواتر حدوثها، إنَّ التاريخ يكرّر نفسه. فكَّرت بهذا الأمر، وأنا أقرأ لائحة مختصرة بتواريخ مدينة داريا السورية المنكوبة. بدا لي فعلاً أنَّ هذه المدينة التي أرتنا تلفزات العالم خرائبها وهياكل عمائرها الفارغة من أيّ حضور إنساني طالعة من تحت عصف نووي. لا يمكن إلا للتدمير المنهجي أن يوصل إلى ما صارته داريا. لا حرب عصابات، لا مدافع ودبابات يمكن أن تمسح أحياءً برمتها، حسب ما رأينا على التلفزات التي اقتربت كاميراتها من الخراب. فقط الطيران والقصف الجوي والبراميل التي لا تستهدف موقعاً بعينه، بل مساحة، يمكنها أن تُحدث هذا التدمير الذي يخجل منه العدو قبل الصديق، فكيف بابن البلاد نفسها.

محزنةٌ داريا. مبكية. لكن لا حزن على سيماء العالم، ولا دموع في مآقيه. لا شيء. كأنَّ هذا التدمير، بعد التجويع والتركيع، هو ما يجب أن يحدث. كأن ذلك من طبائع الأمور في هذه المنطقة من العالم. فلا دهشة ولا استغراب، ناهيك عن استنكار. ثم إنَّ “الزايد أخو الناقص”، كما يقول مثلنا الشعبي. بل الزائد يبكم ويشلُّ.

ترافق الخروج من داريا مع زلزال ضرب بلدةً إيطالية. إنها كارثة بالنسبة للإيطاليين، والأوروبيين عموماً، الذين لم تعرف أجيالهم الحالية ويلات الحروب. فهناك مئاتٌ قتلوا وجرحوا، وعشرات آلاف يقيمون في أمكنة إيواء مؤقت. هذه مأساة ارتكبتها الطبيعة، ولا يد لبشرٍ فيها. مثلها مثل الأعاصير والطوفانات. الطبيعة لا تفكُّر ولا تتقصَّد السوء، أما الإنسان فيفعل، حتى مع أقرب الناس إليه، فما إن تشيطن شخصاً، طائفةً، شريحةً من الناس، حتى يسهل استهدافها، بل يصبح استهدافها واجباً وطنياً وقومياً مرةً، ودينياً مرةً أخرى. كيف يتحول القتل من جريمةٍ إلى واجب؟ كيف يتم تجريد الإنسان من كل أهليةٍ وحقٍّ بالحياة؟ هذا ما تغطيه الدعاوى والأيديولوجيات، المدنية والدينية على السواء. فـ “الخائن”، في نظر القومي العقائدي، مثل “الكافر” في نظر المتشدِّد الديني. لا فرق. لأن الموت هو العقاب في الحالتين. هذا ما حصل لداريا، وغيرها من المدن والبلدات السورية، فقد حوَّلتها الدعاوى الفاشية من أمكنةٍ “سليمة”، معافاة، إلى أمكنةٍ “موبوءة”. ألم يتحدّث “الدكتور” عن الفيروسات التي تغزو الجسد، وكيف يتم التخلص منها. فقط الأمكنة الموبوءة يمكن أن “تُعالج” على هذا النحو الفظيع.

لا أريد أن أخفّف على المجرم الراهن جريمته في داريا. فينبغي أن تُضاف إلى لائحة جرائمة التي لا يعادلها أيّ عقاب. فأيّ عقابٍ على جرائم مثل هذا النوع رمزي جداً. ولكن، عدّدوا معي بعض ما عرفته داريا في تاريخها الدهري من أحداث، تشي بالتكرار:

تأثرت داريا بمعظم الأحداث التي شهدها العصران، الأموي والعباسي، وما جرى خلالهما من أحداث سياسيةٍ وعسكرية. كانت تقطن داريا قبائل يمانية وأخرى قيسية. وتعرّضت للحرق نتيجة تلك المنازعات عام 26هـ وكذلك عام67 هـ في عهد هارون الرشيد، حيث ثارت الفتن، مجدّداً، بين القيسية واليمانية، أو ما تعرف بفتنة أبي الهيذام، فحرقت ونهبت. وفي عام 233هـ، تأثرت داريا بالزلازل. ومرَّت عليها المنازعات ما بين الأتابكة والسلاجقة، ولم تنج من الغزو الصليبي، والتتار الذين عاثوا فيها فساداً وتدميراً. وقبل التدمير الأسدي، شهدت، في أثناء الاحتلال الفرنسي، “معركة داريا الكبرى”، فصبَّ عليها المحتل جام غضبه.

وفي فتنة أبي الهيذام، أيام الرشيد، بين القيسية واليمانية، قال الشاعر قيس الهلالي يصف الدمار الذي حلَّ بها:

كأنَّا يوم داريا أسود/ تدافع عن مساكنها أسودا. تركنا أهل داريا رميماً/ حطاماً في منازلهم همودا. قتلنا فيهم حتى رثينا/ لهم ورأيت جمعهم شريدا.

هكذا نرى لبشار الأسد أسلافاً (أسوداً!!) في “فتننا” التي لم تخمد نارها حتى اليوم، لأننا، على الرغم من وجودنا في القرن الحادي والعشرين، لم نخرج من كتاب “الملل والنحل”.

العربي الجديد

 

 

 

 

طيور داريّا

رأي القدس

أثارت قضية ترحيل سكّان ومقاتلي المعارضة من مدينة داريّا القريبة من دمشق خضّة جديدة في وجدان السوريّين والمتعاطفين العرب مع نضالهم ضد النظام الحاكم.

وأججت مشاهد إخلاء المدينة من كامل من بقي من أهلها مشاعر سخط شعبيّ في الجنوب السوري فخرجت مظاهرات في مدن وبلدات عديدة من حوران احتجاجاً على ما اعتبره الناس تخاذلاً من فصائل المعارضة الموجودة هناك عن نصرة بلدة، صمد ساكنوها أكثر من أربع سنوات على حصار تجويع خانق كما تصدّت وحدها لحملات عسكرية هائلة استخدم فيها النظام البراميل المتفجرة وقنابل النابالم الحارقة والقصف المدفعي والجوّي.

أثارت التغريبة الحاليّة لأهل داريّا بعد قرابة 1400 يوم من الحصار في مساحة صغيرة نسبيّاً تحت الرقابة المسلطة لميليشيات النظام وحلفائه إحساساً فادحاً بالعار الإنسانيّ الكبير فأطفالها الذين خرجوا من تحت الحصار فوجئوا بوجود أشياء يعتبرها أطفال العالم حتى في أكثر الأماكن بؤسا أشياء بديهية كبعض الخضروات والبسكويت والشوكولاته، وقد صمد سكانها على كل أساليب القتل ومحاولة إخضاعهم وكسر إرادتهم رغم أنهم كانوا غير قادرين على توفير الخبز والدواء.

ومما يضيف لملحمة داريّا نكهة خاصة أن أهاليها كانوا مثالاً للاعتدال ورفع رايات السلمية والدعوة اللاعنفية وقد اشتهر منهم الناشط السياسي غياث مطر الذي كان ينظم المظاهرات السلمية التي تقابل الجيش السوري بالماء والقرنفل، والذي قبض عليه وأعاده رجال الاستخبارات قتيلا مكسّر الأعضاء وسلموا حنجرته المقطوعة إلى أمه، وقد حضر عزاءه، وقتها (للتذكير) سفراء الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا واليابان وألمانيا والدنمارك، وبعد مغادرة المذكورين المكان استباحت قوات الأمن مجلس العزاء وأطلقت العيارات النارية والقنابل المسيلة للدموع كما قتلت فتى في السابعة عشرة من عمره خلال تشييع جثمانه، وكل هذا جرى في السنة الأولى من الثورة السورية وكان أنموذجاً لآلة قتل النظام التي تعتبر أنها أنهت قصة المدينة بفصل عمرانها وأرضها عن بشرها الذين سكنوها منذ آلاف السنين.

يدخل تهجير سكّان مدينة داريّا ضمن ما يمكن اعتباره مخططا أدواته الإبادة البشرية وتغيير الديمغرافيا السكّانية بالتجويع والقتل والتهجير لمناطق بعينها في سوريا، وهو مخطط عملت فيه سكّين القتل والتجويع والتهجير ونقل سكّان من طائفة بعينها إلى الأماكن المفرغة من سكّانها وأدّت حتى الآن إلى فرض وقائع اجتماعية جديدة في القصير والقلمون والزبداني ومضايا وصولاً إلى ما يجري حاليّا في مدينة الوعر في حمص، وهو يقوم على مبدأ «سوريا المفيدة»، من ناحية، كما أنّه يمكن استدخاله ضمن خطّة أطرافها النظام السوري وإيران والميليشيات الشيعية اللبنانية والعراقية، وهو يستكمل تغيير الطبيعة الطائفية لمناطق قريبة من لبنان، وكذلك ضمن حزام العاصمة السورية دمشق، بحيث تخدم هدفين: الأول تحشيد مكوّنات اجتماعية من طوائف بعينها لحماية النظام في دمشق، والثاني تدعيم الوضع العسكري والسياسي لـ»حزب الله» في لبنان.

بما يشبه اتفاق تقاسم دوليّ بين البلدان المؤثرة في المعادلات العسكرية السورية تؤدي هذه الخطط الجاري تنفيذها إلى إعطاء طابع خارجيّ هائل للصراع في سوريا، بدءاً من النظام الذي كان يتصرّف منذ ما قبل الثورة كما لو كان قوّة احتلال خارجيّة ضد «الشعوب الأصليّة» التي كانت موجودة في سوريا قبل وجوده، ووُضع بعد ثبوت عطالته رغم وحشيّته الهائلة ضد «شعبه» في غرفة إنعاش تمدّه بفائض قوّة روسيا وإيران، كما أنه يتلقّى الدعم المباشر شرقاً وغرباً من حدود العراق ولبنان، فيما تمنع غرفة العمليّات الموجودة في الأردن (المدعوّة موك) أي حركة عسكرية ضدّه من الجبهة الجنوبية، ومن الشمال يقوم حزب العمال الكردستاني بنقل معركته مع السلطات التركية، كما يضاف اندياح تنظيم «الدولة الإسلامية» من العراق وانتشاره في كل بقاع سوريا، ليجعل بلاد الشام مجال عمل آلة قتل وتهجير لا مثيل لها تملأ أركان البلد (والعالم) بالضحايا والنازحين واللاجئين.

ترافق نزوح أهالي داريّا مع عبور آلاف الطيور المهاجرة فوق سمائها فصنع مشهداً رائعاً يعكس أملاً لا يمكن لأكبر مؤسسات الاستبداد والقتل في العالم أن تقضي عليه.

في السنة الهجرية الأولى لأهل داريا حمل أحد المقاتلين الراحلين سلاحه الفرديّ إضافة إلى سلاحه الموسيقيّ (طبلة أو دربكّة) وكان زملاؤه في الحافلة يشاركونه الغناء.

هذه، وليس الطغيان، هي روح سوريا التي ستبقى.

القدس العربي

 

 

 

 

إفناءٌ للثورة وليس تغييراً ديموغرافياً/ عمار ديوب

يَستسهل قطاعٌ واسعٌ من سياسيي سورية القول بالتغيير الديموغرافي، وإن النظام هَجَّرَ أهل حمص والقصير وأخيراً داريا، وتكرّر الأمر عينه في حلب. يستند هذا الاستسهال واقعياً إلى إجلاء النظام السكان فعلاً عن تلك المناطق إجلاءً كاملاً. ولكن المسألة أكثر تعقيداً؛ فالنظام ذاته خسر عشرات الألوف ممن يُعتقد أنهم سيكونون البدائل، وكذلك تم إفناء أغلبية المليشيات التي أتت لنصرته من خارج سورية، ونضيف أن مناصريه من العلويين لن يقبلوا العيش في منطقةٍ ليست لهم، واحتمال قتلهم ممكنٌ في المستقبل، عدا عن أن الحرب السورية دفعت الشعب نحو تظهير الهويات ما قبل الحداثية، أي أن الشعور بالقوة والأمان يتأتى من الوجود بين أبناء الطائفة أو القومية نفسها، وهو ما أدى بسوريين كثيرين، ومنذ 2012 خصوصاً، إلى العودة إلى قراهم بمن فيهم الأكراد. ضمن هذه الرؤية، لا يمكن للنظام أن يهدف إلى التغيير الديموغرافي، ولو أراد ذلك، لن يجد أحداً يستوطن تلك البلدات. قصد النظام من التهجير هو إفناء الحاضنة الشعبية للمناطق الثائرة، وتلقين بقية المناطق درساً “ابتدائياً” بأن الاستمرار في دعم الفصائل المعادية له سيؤدي، بالبلدات الثائرة وأهلها، إلى الدمار والقتل والتهجير.

ولكن، لماذا يتكرّر حديث التغيير الديموغرافي؟ المشكلة أن لكل سياسات النظام والمعارضة جذراً واحداً، يقول إن الثورة طائفية والحرب أصبحت كذلك، ومنذ بعض الوقت، انضم قطاع جديد من المثقفين لقول الشيء نفسه، ولعبت جبهة الفتح على الموضوع نفسه، وأطلقت على عملية فك الحصار عن حلب الشرقية، والدخول إلى بعض المناطق في حلب الغربية، اسم غزوة إبراهيم اليوسف، وهذا للتأكيد على طائفية الثورة، وأن أصلها يعود إلى خسارة السنّة في الثمانينيات. لا علاقة للثورة بتلك الخسارة، ولا بالإسلاميين، لكن الأخيرين “ركبوها”، ودفعوا بها هم والنظام لتصبح كذلك. لم يهتم الإسلاميون بأسباب الثورة، والتي تكمن في السياسات النيوليبرالية والإفقار الشديد الذي عاناه السوريون، والتوانسة والمصريون كذلك. ولم يهتموا بالسياسات القمعية الشديدة، ورفض أغلبية السوريين، وبكل طوائفهم وقومياتهم، لها؛ كُل ذلك لم يُقرأ!

قُرئَ الأمر إخوانياً بأنه الانتقام من النظام، وربما من الشعب، بسبب خسارة الثمانينيات، وبالتالي، يجب استثمار الممارسات الطائفية للنظام في تطييف الثورة. النظام الذي تدرّج في الردِّ على الثورة، وصولاً إلى المجازر والدبابات والطيران والكيماوي، ومختلف أشكال القنابل العنقودية، وأخيراً النابالم، كان ينمّي، هو و”الإخوان المسلمون” الميل الأصولي والسلفية والجهادية، وهذا يتضمن خطاباً إقصائياً وممارسات اجتثاثية للآخر، وبالتالي، تم تغييب أسباب الثورة الفعلية والأهداف القادرة على تحشيد أغلبية الشعب في التغيير السياسي، والانتقال إلى دولة لكل المواطنين، وبعيداً عما يصبو النظام و”الإخوان” إليه. يريد الأول إعادة إنتاج سلطته وتأبيدها. والثاني يريد دولة “إسلامية” عبر مصطلح الدولة المدنية.

يلقى مفهوم التغيير الديموغرافي صدىً واسعاً بسبب التدخل الإيراني وأدواته، من حزب الله

“النظام يعمل وفق خطة محددةٍ، وهي تصفية مناطق الثورة الأساسية، مثل حمص وداريا وسواهما” والمليشيات الشيعية الطائفية، ومن سياسة القضم المستمرة في الزبداني وقربها من الحدود اللبنانية. يعزّز موقع داريا أيضاً من هذه الفكرة، فهي مُشرفة على الطريق الدولي للزبداني، والمُوصل إلى مناطق خاضعة لحزب الله. لا شك في أن إيران تفكّر بهذه العقلية، وربما كل ما يفعله حزب الله للوصول إلى هذه الفكرة، لكنها أيضاً فكرة غير قابلة للتطبيق، ولا يمكن مبادلة الزبداني بالفوعا وكفريا، فأهل الزبداني، وكل المناطق المحيطة بها، وكذلك داريا، لن يقبلوا أبداً بالتهجير واستبدال العيش قرب دمشق بمدينة نائية، عدا عن أن أكثرية السوريين، ومن كل الطوائف والقوميات، سيرفضون الفكرة من أساسها، وستنتهي كليةً حالما تتوقف الحرب. إذاً لا أنفي وجود الفكرة بالعقلية الإيرانية الطائفية بشكل خاص، لكنها ليست ممكنة التحقق في سورية، ولا يُغير في الأمر شيئاً لو بقي الوضع السوري قائماً لسنوات مقبلة.

ربما سيتم في الأسابيع المقبلة ترحيل سكان حي الوعر في مدينة حمص، وربما سكان ريف حمص الشمالي التي فيها الثوار، وهذا أيضاً سيرفع من شهية القائلين بالتغيير الديموغرافي. يتجاهل هذا المنطق أن في مناطق النظام نفسها أكثرية سنية. أقصد من كل هذا النقاش أن النظام يعمل وفق خطة محددةٍ، وهي تصفية مناطق الثورة الأساسية، مثل حمص وداريا وسواهما، وصمودُه خمس سنوات، وبعد التدخل الإقليمي والدولي الواسع والإنهاك الكلي لمناطق الثورة، سيؤهله لفرض نفسه طرفاً أساسيّاً في النظام المقبل؛ هذا هو الهدف المركزي لكل عمليات التهجير في كل مناطق سورية.

المعارضة والثوار معنيّون بفهم الملاحظات السابقة، ومع ذلك سأشطبها، وأقول إن النظام يستهدف التغيير الديمغرافي، فهل من مصلحة الثورة والسوريين تأكيد هذه الفكرة، وشطب طوائف بأكملها بحجة تأييدها النظام؟ لا أعتقد أن من الصّواب بمكان الاستمرار في هذه السياسات، لا سيّما وأنها ليست سليمة بشكل كبير. وبالتالي، هناك ضرورة سياسية ولصالح الثورة أولاً، وكل السوريين، لإيجاد رؤية سياسةٍ ثوريةٍ، تنطلق من أن الثورة لصالح كل السوريين، وأن الوضع الحالي أصبحت سورية فيه محتلةً من روسيا وإيران وأميركا وتركيا بشكل رئيسي، وهناك ضرورة لمشروع وطني، تتشكل بموجبه هويةٌ وطنيةٌ للسوريين، وفقاً لقيم المواطنة وشرعة حقوق الإنسان، ويُحيَّد فيه الدين عن الدولة، ويظل مسألة اجتماعية خاصة بالجماعات الأهلية.

هناك أفكار كثيرة من الضرورة الإشاحة عنها، ولا سيما كل ما يخص الطائفية والحل العسكري خياراً وحيداً والتبعية للخارج، واعتماد رؤية وطنية للثورة في كل أوجهها، والتوجه بخطاب وطني لكل السوريين، وبما يعزل كل المجموعات الطائفية والمافيوية عن حقل السياسة والثورة؛ سورية أصبحت كلها بخطر، وليس النظام والثورة فقط.

العربي الجديد

 

 

التهجير القسري في سوريا/ د. رياض نعسان أغا

يصر النظام السوري على تهجير السكان الأصليين للمدن والقرى التي يحاصرها ويقصفها ويهدم منازلها ويقتل أهلها منذ نحو خمس سنوات حتى تضطر أن تخضع وتذعن لما يسميه المصالحات، كما حدث مؤخراً في داريا، وكما يحدث في المعضمية وحي الوعر الحمصي، وقد جرت عملية التهجير سابقاً في حمص وفي الزبداني وفي العديد من المناطق السورية التي تعرضت لحصار شديد شاركت فيه قوى الاحتلال الإيراني وميليشيات طائفية لبنانية وعراقية وأفغانية. وقبل عام ونيف عرضت إيران تغييراً ديموغرافياً بين منطقة الزبداني وبين قرى شيعية تقع قرب مدينة إدلب (الفوعة وكفريا)، ورعت الأمم المتحدة اتفاقاً بين إيران وحركة «أحرار الشام» لنقل الجرحى، واليوم يفسر أكثر السوريين ما يحدث بأنه خطة للنظام تهدف إلى طرد سكان المناطق المحيطة بدمشق ليحل محلهم مستوطنون شيعة يأتون من إيران والعراق وأفغانستان ليتملكوا أراضي وبيوتاً وممتلكات ليست لهم، على غرار ما فعلته إسرائيل حين هجرت السكان الأصليين من الفلسطينيين.

لكن الهجرة الأكبر التي تشكل عمق المأساة السورية هي هجرة ما قد يزيد على اثني عشر مليون سوري، أكثرهم من أهل السنة الذين سيصبحون أقلية في سوريا إذا استمر هذا النزوح. أما عمق المأساة فهو هجرة الكفاءات العلمية والتقنية والصناعية وفراغ سوريا من طاقاتها الأكاديمية ومن علمائها وأطبائها ومهندسيها من مختلف الشرائح والأديان والمذاهب، وقد هُجّروا رغماً عنهم خوفاً من الاعتقالات العشوائية ومن براميل الموت الجماعي.

ولا يجد السوريون تفسيرات أبعد من استقراء مفجع لدوافع التهجير القسري والتغيير السكاني، وقد نشط تفسيران أولهما شك في كون النظام يريد تلبية الأغلبية من الموالين الذين أطلقوا على صفحات التواصل الاجتماعي دعوات (مبرمجة) للنظام تطالبه بمحو محافظة إدلب من الخارطة السورية، وتحض على إبادة جماعية، وقد عزز هذا التفسير إصرار النظام على تهجير أهل داريا إلى إدلب بالتزامن مع تصاعد القصف السوري والروسي اليومي على المدنيين في إدلب، وقد استخدمت فيه القنابل العنقودية والفوسفورية والنابالم، وانتشرت صور الضحايا من الأطفال والنساء، لكون الأهداف تنحصر في المدن، وتحديداً في المنازل والساحات والأسواق، وهي ليست أهدافاً عسكرية.

أما التفسير الآخر عند بعض السوريين فهو أن ما يحدث هو ترسيخ لخطة خفية للتقسيم بحيث تفرغ سوريا (المفيدة) من المعارضين، ويحشر كل الذين طلبوا الحرية والكرامة في إمارة دينية يتم حصارها من العالم كله، وتتعرض لقصف من قوى التحالف الدولي ضمن حربه على الإرهاب، وتكون محافظات الشمال «سوريا غير المفيدة» لمجرد أنها لا تؤيد النظام، ويظن بعض السوريين أن الطلب من حزب «البي يي دي» بأن يغادر إلى شرق النهر وبعض وسائل الإعلام تدس كلمة «المناطق الكردية» تهميداً لمنح هذا الحزب إقليماً يسميه بعضهم «كردستان السورية» متجاهلين وجود العرب وسواهم من المكونات في المنطقة. ومع أنني لا أرى صواب هذه التفسيرات فإني أشارك كثيراً من السوريين مخاوفهم من الغموض المبهم الذي بات خفياً حتى على دول كبرى من مضامين مباحثات واتفاقيات (كيري ولافروف)، ومن هذا الصمت الدولي المريب على ما حدث في داريا وما يحدث في المعضمية والوعر، وعلى خطة النظام بفرض مصالحات قسرية على المناطق الساخنة عبر تخيير سكانها بين الحصار القاتل والإبادة الجماعية وبين القبول بتسليم أنفسهم ومغادرة ديارهم!

إن ما يحدث من فظائع يفتح المستقبل لاحتمالات مزيد من الدمار ومن ارتداداته الإقليمية والدولية، ورغم الشعور العام لدى السوريين بأن الحل السياسي الذي اعتمد على بيان جنيف وعلى القرارات الدولية قد فقد حضوره منذ أن أهملته الدول التي دعت إليه وتمكنت روسيا وإيران من تعطيل فاعليته، فإن بث الحياة فيه هو مسؤولية دول أصدقاء سوريا، ونرجو أن يكون إحياؤه موضوع بحثهم في مؤتمر لندن القادم.

الاتحاد

 

 

 

دمشق_حلب: صراع مدينتين/ ساطع نور الدين

عدا عن موجات الهجاء او الدعاء، فإنه يندر الوقوع على نقاش سوري جدي حول ما يدور هذه الايام في أرياف الحاضرتين السوريتين الأكبر والأهم، العاصمة دمشق وحلب، وهو ليس مجرد شأن عسكري لا يعني الا المحاربين، ولا يدركه الا الراسخون في الحرب.

قيل الكثير عن تمكن النظام السوري من تهجير أهالي بلدة داريا في ريف دمشق الغربي، لكنه كان كلاماً عاطفياً مؤثراً عن أيقونة الثورة السورية وأسطورتها السلمية ورمزيتها السياسية، لم يجب على أي من الاسئلة التي طرحت حول تلك النكسة الجديدة للمعارضة السورية، وتتطلب شرح الاسباب والظروف والنتائج.. ومنها النتيجة المحرمة التي يتكرر الحديث عنها مع كل تحول عسكري في الحرب السورية، وهي التغيير الديموغرافي.

وفي غياب أي عنوان سوري يمكن التوجه إليه بهذه الاسئلة، يصبح الاستنتاج بان الغلبة في العاصمة وريفها ما زالت للنظام، هو المنطق العسكري (والسياسي) الوحيد السائد، ويجعل بقية البلدات العاصية في محيط دمشق عرضة للتدمير ثم التهجير في الفترة المقبلة، إنفاذاً لخطة النظام الثابتة والدائمة على جميع الجبهات السورية.

اما كيف حوصرت داريا ثم دُمرت ثم أُفرغت من سكانها، وهل كان يمكن إنقاذها من هذا المصير الاسود، فتلك قضية غير مطروحة على جدول أعمال أحد من المعارضة السورية، وغير متصلة حتى بالمحصلة النهائية وهي ان النظام لم يستطع إقتحام البلدة المتمردة بالقوة، ولم يجروء على الاشتباك مع المدافعين عنها، او ربما لم يستطع تحمل كلفة ذلك الاشتباك معهم، فاختار السماح لهم بالخروج الآمن، على غرار ما فعل في أنحاء أخرى من ريفي دمشق وحمص.

حتى المسألة الديموغرافية لم تثر الاهتمام الكافي ما خلا بعض الاشارات العابرة حتى الان عن نوايا مبيتة لدى النظام لاحلال لبنانيين او ربما عراقيين او حتى ايرانيين في البلدة المنكوبة الواقعة على مقربة من خط دمشق بيروت.. وهو ما يبدو صعباً على أرض الواقع، لأن إعادة بناء داريا وجعلها مكاناً صالحاً للسكن مرة أخرى يحتاج الى جهد ووقت ومال إستثنائي.

التعامل مع داريا بوصفها معضلة إنسانية يخفف من وطأة فراغ سياسي كشفته البلدة التي سويت بالارض، ولم تجد من الائتلاف ولا من بقية فصائل المعارضة من يتقدم لتحمل المسؤولية، ويدعو الى المحاسبة او على الاقل الى المراجعة لمجمل التجربة التي يزداد تعقيدها وتشرذمها.. وبشكل لم تعرفه حتى الحرب الاهلية اللبنانية في أسوأ مراحلها.

مأساة داريا هي بلا شك سقطة كبرى للمعارضة السورية، ليس فقط لمكانتها الخاصة في ذاكرة الثورة، بل أساساً لموقعها الجغرافي المتصل بالعاصمة التي يكاد النظام يعلنها منطقة خالية من المعارضين، فيحقق بذلك مكسباً سياسياً مهماً لا يمكن ان تعوضه معركة حلب التي كشفت عن حدود قدراته القتالية وأوراقه السياسية.

ليس هناك دليل على ان النظام يرد في ريف دمشق على هزائمه في ريف حلب. لكن الفكرة واردة، بل راجحة. فالدخول العسكري التركي في الشمال السوري الذي يتمتع بغطاء اميركي روسي ليس تفصيلاً بسيطاً في سياق الحرب السورية، ولا يمكن حصره بتصفية داعش او بمحاربة الكرد، او حتى بالمنطقة الامنية التي طال إنتظارها، والتي لا تكفي لقياس النفوذ التركي الفعلي في سوريا، بل ربما تؤدي الى تحجيمه. ثمة ما يوحي بان العاصمة السورية الاولى ستكون مقابل العاصمة السورية الثانية. ولعل هذا هو المسعى الجديد لضمان إستقرار موازين القوى الداخلية، والخارجية على حد سواء.. تمهيداً لاستئناف البحث عن تسوية سياسية تنهي الحرب.

لم تقترب تلك التسوية، ولم تظهر النهاية في الافق. الصراع الحالي على العاصمتين السوريتين، هو في جانب منه صراع بين العاصمتين، وهو صراع تاريخي قديم، ومستقبلي حاسم في تحديد هوية الدولة السورية المقبلة.

المدن

 

 

 

أسطورة داريا/ ماجد كيالي

ما كان أحد يتوقع صمود أهالي داريا، أو من تبقى منهم (حوالي خمسة أو ستة آلاف من أصل ربع مليون)، كل هذه المدة، أي طوال أربعة أعوام بأيامها ولياليها، في مواجهة ظروف قاسية وصعبة، وتحت طائلة القصف بالطائرات والمدفعية، مع إخضاعهم للحصار المشدد، إذ أن هذه المدينة الصغيرة التي تقع في الجنوب الغربي من دمشق، والقريبة إلى أهم المعاقل العسكرية للنظام (مطار المزة العسكري)، بقيت صامدة وصابرة وشامخة، رغم عزلتها وقلة إمكانياتها، أكثر مما هو منتظر منها.

لا تتوقّف أسطورة داريا على ما حقّقته في صمودها العسكري غير المسبوق، فحسب، وتسجيلها أروع صور الصمود والتضحيـة والتحـدي، رغـم البراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية وقذائف الدبابات، ورغم سلاح التجويع، إذ أنها فوق ذلك كانت المدينة التي تفرّدت، تقريباً، بميزات كثيرة، ما جعل كثيرين يعرّفونها باعتبارها درّة الثورة السورية، والمثال الذي كان ينبغي أن يحتذى به، وهي تستحق ذلك عن جدارة.

ما ينبغي معرفته أن داريا هي من أولى المدن التي خرجت المظاهرات فيها، منذ بداية الثورة السورية (مارس 2011)، وأنها تمسّكت بالفعاليات السلمية إلى أقصى حد، وبمعاملاتها مع جنود النظام باعتبارهم إخوة في الوطن، بتقديم المياه والورود لهم، وقدم الشهيد غياث مطر ثمن ذلك من حياته، علما أن هذه المدينة لم تذهب نحو خيار الدفاع العسكري إلا بعد ارتكاب النظام مذبحة كبيرة فيها ذهب ضحيتها المئات (في العام 2012). أيضا، ومنذ البداية، تمسك ثوار داريا بخطاب الثورة وبمقاصدها الأساسية المتعلقة بالحرية والكرامة والديمقراطية وإنهاء الاستبداد، العلماني والديني، وقد ترجمت ذلك برفضها دخول “جبهة النصرة” وأخواتها، و“الغرباء”، وتجار السلاح والأدعياء إليها. وإضافة إلى كل ما تقدم فقد قدمت داريا نموذجاً في الإدارة الذاتية بانتخاب هيئة محلية، تخضع كل ما يجري لقراراتها، سواء على الصعيد المدني أو العسكري، وهذا ما ميّزها عن المناطق الأخرى التي أخفقت في إيجاد بدائل مناسبة للسلطة.

لعل هذا كله يفسّر إصرار النظام وحلفائه، طوال الفترة الماضية، على قتل داريا، فهو في الحقيقة أراد قتل روح الحرية والكرامة والصمود التي تبثّها هذه المدينة في سوريا كلها، وتالياً قتل الأسطورة التي تسطّرها، وقتل نموذجها النبيل الذي يدحض كل ادعاءاته، وذلك بانتهاجه سياسة التدمير الممنهج ضدها، لإبادتها بشراً وحجراً، بل وإزالة معالمها نهائيا.

كما يفسر ذلك أن التسوية التي تم عقدها لم تقتصر على انسحاب المقاتلين (حوالي 700 مقاتل)، فقط، منها، إذ أنها شملت خروج، والأصح إخراج، كل من تبقى فيها من مدنيين، أي أننا إزاء عملية تهجير (ترانسفير) إجباري، يتم تحت علم الأمم المتحدة، بحيث أن هذا يصبّ في إطار عملية التغيير الديمغرافي التي جرت في حمص وتجري في دمشق (بعد ما حصل ذلك في الزبداني ومخيـم اليرمـوك والتقدم والتضامن والحجـر الأسود والقصير ويبـرود)، لتحصيل ما يسمى بـ“سوريا المفيدة”.

في هذا الإطار لن ننسى، بالطبع، أن داريا قتلت أيضا عندما اهتم البعض من الأمراء العسكريين في المعارضة باستعراضات الألوية والكتائب واستغلال اسم الله لحرف الثورة عن مطلب الحرية والديمقراطية، والاشتغال بإزاحة النشطاء السلميين مثل؛ رزان زيتونة وسميرة الخليل وناظم حماد ووائل حمادي (المختطفين في الغوطة الشرقية)، ناهيك عن انسحاب هذه الفصائل العسكرية المعارضة من القصير والنبك والضمير (حوالي دمشق)، وعدم القيام بأي عمل لنجدة مخيم اليرموك أو الزبداني، أي أن ما حصل في داريا كان تحصيل حاصل لكل ذلك.

من جانب آخر، ربما من المفيـد ملاحظة أن ما جرى في داريا يأتي في إطار التموضع الجديد للقـوى الدوليـة والإقليميـة المتصـارعة على سوريا، في ضوء التفاهم الأميركي – الروسي، وبالتزامن مع تحجيم الدور الإيراني، والدخول التـركي على الشمال السوري، من بوابة جرابلس، وفق تفاهمات تركية ـ أميركية ـ روسية.

والفكرة هنا أن النظام بعد خسارته في الشمال السوري، إثر التطورات الحاصلة بنتيجة الدخول التـركي على الخـط، وانحسار الدور الإيراني، يحاول إحراز مكاسب بديلة في دمشق وما حولها لتعزيز وضعه، ووضع حليفه الإيراني، والمعنى من ذلك أن ما جرى في داريا ربما يكون بمثابة بداية للهجوم على معاقل المعارضة في محيط العاصمة، ولا أحد يعرف مدى استعداد المعارضة العسكرية لمواجهة مثل هذا التطور، وهي التي تركت داريا أمام مصيرها دون أن تفعل شيئاً.

داريا هي قصة للبطولة والمأساة، وهي تختصر حكاية السوريين، والمدن السورية، التي تم تدميرها بالبراميل المتفجرة، والتي تمت استباحتها من قبل الطيران الروسي والميليشيات المذهبية الموالية لإيران، والتي يراد تغيير خريطتها الديمغرافية. وبحسب تعبير لمراسل “فرانس برس”، سجل هذه اللحظة، ثمة “قهر كبير بين السكان…ذهبت الأمهات بالأمس إلى المقابر لوداع الشهداء، إنهن يبكين على داريا أكثر مما بكين حين سقط الشهداء”، لذلك فإن هذه القصة لم تنته بعد. داريا في القلب.

كاتب سياسي فلسطيني

العرب

 

 

إخلاء داريا: سقوط الدور العربي؟/ علي الأمين

الضاحية الدمشقية الجنوبية الغربية، أو مدينة داريا، هي القصة التي يمكن أن تشكل نموذجا للمدى الذي يمكن أن يصل إليه نظام بشار الأسد وحلفاؤه في التدمير والقتل. هذه المدينة التي تشكل إحدى أكبر ضواحي العاصمة السورية ضمت في الأحوال الطبيعية نحو ربع مليون نسمة، وهي على تماس مع مطار المزة العسكري، ودخلت منذ العام 2012، كما العديد من المناطق السورية، في عداد المدن والبلدات الثائرة على نظام الأسد والساعية إلى تغيير النظام.

خلال أكثر من 4 سنوات وداريا تتعرض لهجوم عسكري دمر معظم منشآتها المدنية. حتى المستشفى الوحيد جرى تدميره بالكامل. وتعرضت لحصار طال كل شيء، ما اضطر، منذ سنوات، ما تبقى من السكان، إلى سدّ رمقهم بالحشائش والأعشاب. وبقيت داريا صامدة وفاجأت جيش النظام بقدرة الثوار على خرق الحصار وتهديد مطار المزة العسكري، وصولا إلى تهديد الطريق الدولي الذي يربط بين دمشق وبيروت. وبقيت عصية على الاستسلام والرضوخ، رغم أكثر من عشرة آلاف قتلهم النظام بالبراميل المتفجرة وبالقذائف المدفعية وغارات الطيران التي شاركت روسيا أخيرا فيها بطائراتها، لضرب أي معلم للحياة في المدينة.

الأسد استكمل عملية التدمير والقتل من دون توقف مستعينا بالحرس الثوري الإيراني ومقاتلي حزب الله بالإضافة إلى روسيا، لكن الأهم كان إدراك الأسد أن سقوط دمشق خط أحمر دولي وإسرائيلي، وبالتالي استخدم كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة لتدمير داريا، وجرى إحكام الحصار عليها إلى الحدّ الذي لم يعد من ذخيرة لدى المقاتلين في داريا، فوافقوا أخيرا على الخروج بسلاحهم إلى خارج منطقة “سوريا المفيدة”، وإلى محافظة إدلب تحديدا. وهذا ما جرى خلال ثلاثة أيام بإشراف الهلال الأحمر السوري.

الخذلان لداريا هو ما نقله بعض الذين خرجوا من المدينة التي أُفرغت بالكامل يوم الأحد. الخذلان بسبب عدم تحرك فصائل المعارضة على جبهة الجنوب لنصرة داريا أو فتح الجبهة لتخفيف ضغط الحصار، أو محاولة مدها بالحد الأدنى من الذخيرة والمؤن. على أن ما يثير الانتباه هو أن داريا لم يجد داعش فيها موطئ قدم ولا استطاعت جبهة النصرة أو فتح الشام أن تكون ضمن فصائلها المقاتلة. أبناء داريا الذين دافعوا عنها ببسالة استثنائية، هم النموذج الذي لم يدخل في أجندات إقليمية ولا استهوته التنظيمات الدينية المتطرفة، رغم أن الهوية الإسلامية تبقى الهوية الطبيعية لأبناء داريا التي توجد فيها أقلية مسيحية من الطائفتين الكاثوليكية والأرثوذكسية.

هنا تكمن أهمية داريا. وبالتالي فإن دلالة سقوطها في يد النظام بعد تدميرها شكلت من الناحية العسكرية نموذجا للفصائل الوطنية السورية. فقد أدرك النظام أن خطورة داريا تكمن في النموذج الذي تقدمه، إذ أن الأسد والحرس الثوري الإيراني، كان هدفهما ضرب أي نماذج للمعارضة يمكن أن تشكل بديلا مقبولا دوليا للنظام. لذا شجعا على تقوية التطرف وقاتلا بشراسة أي مظهر لمعارضة معتدلة. وهذا بات واضحا في سيرة الثورة السورية ولا يحتاج إلى أدلة لكثرتها.

داريا اليوم… والخطوة التالية الغوطة الشرقية وما تبقى من مناطق نفوذ للمعارضة السورية تمهيدا لإمساك الأسد وحلفائه بالعاصمة وريفها بالكامل. داريا كانت تمثل استكمالا لما قام به حزب الله في القصير ومناطق القلمون السوري المحاذي للبنان. فمنذ العام 2013 جرت أكبر عملية تهجير لأبناء القلمون من خلال تدمير شبه كامل للمدن والبلدات والقرى السورية. هذا التفريغ استكمل بتهجير أكثر من مليون سوري من حمص، بالطبع ممن ينتمون إلى الأكثرية السنية. هي إذن خطوات تطهير مذهبي ضمن خارطة سوريا المفيدة. إذ يجب الانتباه إلى الكتل السكانية الكبرى في ريف دمشق، من مخيم اليرموك إلى داريا وبرزة والغوطة وغيرها من ضواحي دمشق، تلك التي تعرضت لعملية تدمير هائل وعمليات قتل غير مسبوقة في التاريخ السوري، والهدف التغيير الديمغرافي تثبيتا لدعائم نظام الأسد الذي بات طموحه أن تستقر له السلطة في “سوريا المفيدة”، أي تأمين جزء من سوريا تشكل فيه الأقليات الدينية مع النفوذ الإيراني وحزب الله وزنا ديمغرافيا وسياسيا يؤمن شروط الحكم.

ليس خافيا أن السيطرة من قبل النظام على داريا ترافقت مع دخول تركي إلى جرابلس بغطاء روسي وأميركي وإيراني، بغاية تحجيم الدور الكردي وتوفير الحسابات الأمنية التركية الداخلية، من خلال القضاء على آخر جيوب تنظيم داعش هناك. وفيما كان الجيش السوري الحر يدخل جرابلس بدعم تركي في الميدان، كان النظام السوري يدخل داريا باتفاق لا يخل بمعجزة صمود داريا كل هذه السنوات، ولكن في ظل صمت إقليمي وعربي ودولي رافق كل الارتكابات التي طالت داريا بشكل لا يوصف.

جامعة الدول العربية حذرت قبل أيام من جريمة التغيير الديمغرافي في سوريا. الصمت العربي هو الثغرة التي نفذ منها النظام للمزيد من عملية التطهير الديمغرافي، لا سيما أن تركيا كما روسيا وإيران فضلا عن واشنطن وإسرائيل، تعيد ترسيم سوريا بما يتناسب مع نظام المصالح المرتبط بكل دولة من خلال تقاسم النفوذ، بينما العرب وحدهم أصحاب المصلحة بإعادة بناء سوريا على قاعدة مصالح السوريين. وهو ما يبدو غير مقبول بالمعايير العربية.

إيران تطمح إلى المحافظة على نفوذها بالمزيد من تهميش الدور العربي، وتركيا تولي حساباتها الوطنية الأولوية التي فرضت عليها الاقتراب من إيران وموسكو ولم تقطع مع إسرائيل وواشنطن، فيما باتت إيران تعتبر أن الحصان التركي هو من يجب الرهان عليه بعدما ضمنت مستوى متقدما في العلاقة مع روسيا وواشنطن، وهي السياسة التي تريد من خلالها المزيد من تهميش الدور العربي في سوريا.

يبقى أن الثورة السورية، بما هي سعي لتغيير نظام الاستبداد والانتقال إلى نظام ديمقراطي، هي القضية الحية، وهي المدخل لإعادة ترميم الدور العربي في سوريا. خيار العرب في سوريا هو السوريون وثورتهم، وسوى ذلك سيكونون خارج التأثير ليس في سوريا فحسب بل في المنطقة العربية عموما.

كاتب لبناني

العرب

 

 

 

إلى آخر الحياة/ الياس خوري

كيف نحتمل عبء الذاكرة؟

منذ خمس سنوات ونحن نعيش الحاضر كأنه ذاكرة، فتصير ذاكرتنا حاضرنا.

هل علينا أن ننظر إلى الوراء كي نتذكر، أم أن الذاكرة أمامنا، ونحن لا نحيا سوى في منام طويل مصبوغ بالأسى والدم.

خمس سنوات طويلة من شدة سرعتها، وقصيرة بالهول الذي ينزف منها. لا أريد أن أناقش من يقتسمون سوريا اليوم، ويحولون الكلام عنها إلى ممسحة للكلام.

كما لا أريد أن أحلل مسارات تهجير سكان داريا، على يد سلطة تدّعي أنها تمثّل الشعب السوري!

هذا النقاش صار إهانة للكلام، ومسخرة لغوية مليئة بوحول الدم.

أريد فقط أن أسافر إلى ذاكرتي التي يصنعها القتلة كل يوم بشكل مختلف بحيث لم تعد تشبه الذاكرة، كي أرى أربع صور لأربعة أسماء، حفرت في روحي مغارة أريد أن أخبئ فيها نبضات الحياة التي ترشح من الموت السوري الكثير.

أريد أن أستمع إلى غياث مطر، وأضم أشلاء حمزة الخطيب، وأرى بعيون باسل شحادة، وأغني بحنجرة ابراهيم القاشوش المقطوعة، وأرحل معهم إلى سميرة الخليل ورزان زيتونة والأب باولو، كي أنتشل صوتي من بئر الموت والخيبة.

أرى غياث مطر حاملاً قناني الماء كي يوزعها على الجنود الذين سيقتلونه ويمزقون احشاءه، أرى ابتسامة الموت على شفتيه، نعم فالموت لا يبتسم إلا على شفاه الرجاء، وغياث مطر ابن داريا، صنع أعجوبة تحويل عصير العنب إلى ماء، كي يقاوم به عطش الناس إلى الحرية.

أنظر إلى جسد حمزة الخطيب، طفل سنابل القمح السمراء في سهول حوران، وابن الأرض السوداء التي تفيض حياة، أراه يكتب بيده الطفلة على حيطان درعا تمرد الأطفال على زمن الأوباش، ثم أنحني كي ألم أشلاءه التي ملأت سماء سوريا بالغضب والأنين. أرى حمزة الخطيب في عيون مئات آلاف القتلى، فعيون الموتى في سوريا تلتمع بحياة تلتقطها من تراب الأجساد.

وأرحل إلى حمص باسل شحادة، الفتى الدمشقي الذي أقفل الشبيحة أبواب الكنيسة في وجوه الذين أتوا للصلاة في ذكراه. السينمائي الشاب الذي صارت الكاميرا في يديه الطريتين شاهداً وشهيداً، والذي عانق تراب حمص، ودخل في نسيج خرابها الذي سيبقى علامة على مقاومة التتار والمغول الجدد الذين يحكمون سوريا، ويحولونها إلى ملتقى الوحشية بالوحشية.

وأريد أيضاً أن أستمع إلى صوت نهر العاصي وقد تقمّص حنجرة القاشوش، وصار ماؤه صدى لصرخة الحرية والكرامة الانسانية التي انطلقت من حنجرة مقطوعة لن تتوقف عن الغناء.

وأريد في النهاية أن ألتف بالعتمة حيث سميرة ورزان وباولو وكل المخطوفين والمعتقلين، وأن أقول لهم أن عتمتهم صارت ضوءًا ينير عيوننا الغارقة في عتمة هذا الزمن، وأننا اكتشفنا معهم أن لصوص الثورات من أدعياء الاسلام وصبيان أنظمة الاستبداد النفطي، هم الوجه الآخر الذي يكمل الديكتاتور ويبرره.

بهؤلاء تستعيد اللغة شرفها، ولهم وحدهم، في صمتهم الرهيب، تنحني لغة العرب، كي تلتقط معناها من حلمهم ويأسهم، ومن موتهم واختفائهم.

نعم يا أصدقائي الموتى والمخطوفين، أشعر اليوم بالحاجة إلى الكلام معكم، ومعكم أنتم فقط، كي أتعلم من صمتكم الرهيب معنى الكلام، وكي أغسل لغتي من وحشية هذا الزمن، حيث تُذلّ العرب وتُمتهن كراماتهم، ويتحولون إلى كرة يتقاذفها وحوش الاقليم وأسياد هذا العالم، من أجل تحقيق طموحات حمقاء بدم الشعب السوري الشهيد.

لم يسبق للعرب أن رأوا شعباً كاملاً صار في مرتبة الشهداء قبل حمام الدم السوري الذي لا يتوقف عن النزيف.

شعب كامل يُقتل ويُطرد من دياره ويشرّد، والقاتل ليس عدواً أجنبياً، القاتل هو المستبد المحلي وريث نظام الاستبداد الذي تأسس على أنقاض فكرة الانبعاث العربي التي هدمها، قبل أن يكتشف بأن بربريته لا تكفي لانجاز المهمة، فاستعان بقوى ليست أقل بربرية منه.

شعب كامل سرق لصوص الأصولية الغارقة بروائح الكاز والغاز ثورته، وباعوها لداعش وأخواتها، كي يتم وأد النور في العيون وسحق الأمل، وتحطيم الحلم.

شعب كامل صار دمه وسيلة التخاطب بين مجرمي الحرب، وقاعدة مفاوضاتهم على مناطق النفوذ في سوريا والمشرق العربي.

شعب شهيد يمسك بالحياة التي تنبثق من موته، كي يأخذنا إلى أعماق أرواحنا، هناك حيث نلتقي بسوريا جديدة، سوريا مغتسلة بماء العاصي وصوت القاشوش، ومكتوبة بكاميرا الحرية في حمص، تستعيد طفولتها في أجساد الأطفال الممزقة، ويضيء ليلها وليلنا عيون الموتى التي صارت أنجم سمائنا.

من خلال هؤلاء أرى أرضاً جديدة وسماء جديدة، وأنحني كي ألتقط لغتي من تراب الموت.

القدس العربي

 

 

 

داريا: الانجاز والانكسار/ فداء عيتاني

لا تقدر خسارة داريا بثمن، فما هو اهم من واقعها الجغرافي، والحفاظ على تواجد الثورة على الجانب الجنوبي الغربي من العاصمة السورية، وتهديد خط الطرق الحيوي بين العاصمة ولبنان عبر الوصول الى خط بيروت دمشق، وقطع طريق المزة، اهم من كل ذلك هو:

١- مواصلة النظام السوري لعملية الفرز الديموغرافي، وهي عملية بات النظام يقوم بها في كل المناطق التي ثارت عليه في محيط العاصمة، وصولا الى الحدود مع لبنان وامتدادا الى حمص والساحل.

٢- وصول احد افضل نماذج الثورة السورية الى الحائط المسدود بعد اربعة اعوام من بدء الانتفاضة في داريا، وثلاثة اعوام ونصف من العمل المسلح ضد النظام، وحوالي العام من الحصار المطبق بعد قطع الطريق ما بين داريا والمعضمية.

الا ان خسارة داريا، وتهجير الباقي من سكانها ليست هزيمة بالمطلق للثورة، وان كان شعور الخسارة هو الطاغي في صفوف المناصرين للثورة السورية، الا انها احدى اجراس الانذار، التي قد تكون الاخيرة، التي تقرع للقيام بتغييرات هيكلية في جسم الجيش الحر، وفي علاقة الجيش الحر بالخارج والداخل، بعلاقاته الداخلية، بين فصائله المختلفة، وبينه وبين الدول الداعمة، والتي اصبحت تملك فواتير ضخمية تجبره على دفعها فورا، وبين الجيش الحر وبين الهيئات السياسية، وربما اليوم اهمها الهيئة العليا للمفاوضات. اضافة طبعا الى العلاقة القائمة بين الحر وبين المجالس المحلية، وبينه وبين الهيئات القضائية في المناطق.

ويمكن استخلاص مجموعة من النقاط من تجربة داريا:

– لقد رفضت داريا منذ اليوم الاول للقتال وجود مقاتلين اجانب، كما رفضت صراحة تنظيم القاعدة، والتعاون معه، او السماح له بالعمل من مناطق وجود قوى الجيش الحر، وبغض النظر عن الطابع الاسلامي للفصيلين المقاتلين في داريا، الا ان الفصيلين حافظا على رفع علم الثورة السورية، والقتال تحت الراية السورية دون غيرها، واحد الفصيلين ينتمي الى الجبهة الجنوبية.

شكلت داريا ايضا تجربة متميزة، حيث انتخب المجلس المحلي فيها القيادة العسكرية، وليس العكس، وفي حين ان كل المناطق السورية الثائرة تخضع المجالس المحلية للقوى العسكرية، وتتصرف القوات العسكرية، سواء اكانت تابعة للجيش الحر او لجيوش وجبهات وغرف عمليات اسلامية بصفتها ميليشيات امر واقع وامارات حربية تختزل كل شيء في مصالح قياداتها وحروبها، فان داريا تمكنت من افراز تجربة ثورية حيث تتبع القوى المقاتلة للمجلس المحلي، على رغم ارتباط القوى المقاتلة بهيئات خارجية داعمة او سياسية.

لم تحصل داريا على ما حصلت عليه المناطق الاخرى من الدعم، لم تحصل على اليات مدرعة ودبابات، ولا على مدفعية ثقيلة، وربما اصبح بالامكان التحدث عن احد اسرارها العسكرية، خاصة ان قوات النظام التي ستدخل اليها ستكتشف ان من كان يواجههم يفتقر الى الاسلحة المتوسطة ايضا، والى المتفجرات، والى المدفعية المباشرة، ان النقص الحاد في المواد المتفجرة (والذي وصل الى مرحلة الصفر في الاسابيع الاخيرة) هو ما سرع في الموافقة على الاخلاء، حيث قال احد القادة العسكريين من داخل داريا قبل ايام “لقد كسر النظام الطوق الدفاعي الخامس، وليس لدينا اية عبوة لنضرب دباباته، اذا ما اكتشف ذلك سيدخل ويدهسنا بالدبابات دون ان نتمكن من الدفاع عن انفسنا”. وعلى الرغم من التسليح الضعيف الا ان المدينة قاتلت لاعوام بالخطط الحربية واعتماد العقل بدل السلاح والذخيرة.

لم تكن العمليات في داريا دفاعية فقط، اذ منذ اقل من شهرين نفذت القوات فيها عملية هجومية محدودة، حيث اجتاحت المسافة الفاصلة بينها وبين المعضمية، والتي تسيطر عليها قوات الفرقة الرابعة من النظام، وتمكنت من الوصول الى المعضمية، ونقل عدد كبير من المسنين، وذوي الامراض الخطرة، وادخال بضعة اطنان من المساعدات الغذائية الى داخل داريا، وهذا الخط الواصل بين المنطقتين تم استخدامه سيرا على الاقدام، نظرا لخطورته، وايضا لاختفاء المحروقات من داريا، فكان المقاتلون ينقلون المصابين والعجزة والمرضى على ظهورهم. وكلفت العملية ارواح ١٣ من مقاتلي داريا.

زرعت داريا كل شيء، بما في ذلك الاعشاب، اذ استنبتت الاعشاب والمزورعات في عدة تجارب محلية لمنع الجوع من قتل السكان، بعد ان انحصرت المساعدات الدولية بشحنة واحدة مخصصة لالف قاطن، دخلت مرة واحدة الى المدينة ولم تتكرر. وعلى رغم احراق وقصف المناطق الزراعية، الا ان المدينة حاولت مقاومة الجوع بالزراعة، وكذلك استخرجت النفط من البلاستيك، ولكن بكميات تكفي لتشغيل المولدات الكهربائية لاعادة شحن الهواتف والاجهزة العسكرية وتأمين طاقة للمستشفى الميداني الوحيد. تولى المجلس المحلي ادارة الموارد، وكما العديد من المناطق السورية تمكن من الصمود على رغم استحالة الحياة.

ان قصف روسيا بالنابالم المحرم دوليا للعديد من المرافق الحيوية هو ما جعل استمرار تقديم خدمات اولية مستحيلا، مثل المشفى الميداني الذي قصف منذ حوالي الشهر، هذا الواقع ضغط ايضا على القوى العسكرية (اضافة الى فقدان المواد المتفجرة نهائيا).

لا يغلق سقط داريا الباب امام انتصارات ممكنة للجيش الحر، وان كان التركيز على الجيش الحر دون القوى الاسلامية، فلان تلك شريك جاهز وصامت ووفق الفتوى الجاهزة للتعاون مع الدول العربية والاجنبية، وهو طبعا ينتظر الفرصة للحصول على ما يمكن الحصول عليه من حصة في النظام القائم، ان اعادة تدوير تنظيم القاعدة في سوريا، مع احرار الشام وجيش الاسلام يعني ايجاد ممر سياسي واسع اما لتصفية ما بقي من ثورة الحرية وتغيير النظام، والدخول في تسوية دولية مع النظام القائم، واما تقسيم سوريا الى ادلب، التي يصر كل مرة النظام على نفي المقاتلين اليها دون غيرها، وباقي المناطق.

وحده الجيش الحر يمكن ان يكون قاعدة عسكرية مقاتلة لمشروع سياسي يقضي بتغيير النظام السوري، طالما بقي الجيش الحر يكتب على اوراقه الرسمية: الجمهورية العربية السورية – الجيش السوري الحر، فانه سيكون الشبح المرعب للبديل السياسي عن النظام القائم. وداريا كانت خير مثال عن بديل ثوري، تقوده هيئات مدنية، وتخدمه وتحميه قوى عسكرية شعبية.

 

 

داريا، وأوهام التغيير الديمغرافي/ إياد الجعفري

فيما ينتشي النظام بأوهام تفريغ موقع جغرافي استراتيجي بجوار دمشق، من سكانه الأصليين، لصالحه، ولصالح مشاريعه للتغيير الديمغرافي في “سوريا المفيدة”.. تجري مساعٍ حثيثة لإنجاز مشروع اندماج بين الفصائل الكبرى في سوريا، وتحديداً في الشمال، حيث وصل إلى هناك، المقاتلون المُبعدون من داريا.. فقصّة داريا لم تنتهِ على ما يبدو، وستستمر في أذهان وآمال أبنائها المقاتلين الذين سينخرط بعضهم دون شك، في فصائل الشمال المعارضة، بانتظار اليوم الذي سيعودون فيه إلى بلدتهم، مكرمين..

بعيداً عن الأماني.. ونزولاً عند حقائق التاريخ، يمكن تلمس إحدى الحتميات المتكررة، وهي فشل محاولات التغيير الديمغرافي الكبرى، في بقعة ما، إلا إذا تحول السكان الجدد إلى أكثرية، دون أن يجاورهم إمتداد ديمغرافي للسكان القدامى..

بلغة أكثر تبسيطاً.. لا تتوافر في مشاريع التغيير الديمغرافي التي يديرها النظام في “سوريا المفيدة”، مقومات الاستمرارية والاستقرار، لأن القائمين عليها أقلية، تحيطهم امتدادات سكانية ضخمة، من نسيج السكان القُدامى المُهجّرين، الأمر الذي يجعل التغيرات الديمغرافية التي نجح النظام في تحقيقها، في أكثر من مكان خاضع لسيطرته، مجرد محاولات، من المستبعد أن تستقر على الأمد التاريخي الطويل، وتتحول إلى حقيقة ديمغرافية مُستديمة..

ففيما تمكنت الهجرات العربية التاريخية الكبرى، الثلاث، خلال العصور القديمة، ومطلع القرون الوسطى، من إذابة العنصر السكاني القديم في الهلال الخصيب، بحيث أنه اختفى تقريباً، وذاب في أوساط ثقافة وحضارة القادمين الجدد، بحكم كثرتهم وغلبتهم العددية،.. وتمكن العنصر التركي المتحدر من أواسط آسيا وشرقها من تغيير الوجه الديمغرافي للمنطقة المعروفة اليوم بـ “تركيا”.. ونجح المستعمرون الغربيون في إزالة الهنود الحمر من خريطة الوجود، ليتحول من بقي منهم إلى المحميات، أيضاً، بحكم عنصري، وفي الغلبة العددية والتكنولوجية.. ذكر لنا التاريخ عشرات محاولات الإحلال الديمغرافي الفاشلة.. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، محاولة العرب التاريخية في اسبانيا، والتي لم يُكتب لها الديمومة رغم استمرارها لأكثر من 800 سنة.. ومحاولة “الصليبيين”، في فلسطين وساحل المتوسط الشرقي، والتي لم تحظَ بالديمومة التاريخية أيضاً، رغم استمرارها حوالي 200 سنة.. ومحاولات استيطان عديدة للأوروبيين في مناطق من شمال إفريقيا ووسطها، وفي الهند وشرق آسيا..

نلحظ أن محاولات الإحلال الديمغرافي الفاشلة واجهت عمقاً سكانياً ضخماً، للسكان القدامى، بقي على تماس مع السكان الجدد في المناطق التي حلّوا فيها.. وتمكن السكان القدامى، ولو بعد أجيال، من استعادة مواقعهم القديمة..

الحتمية التاريخية تؤكد أن عنصر الإحلال الديمغرافي لا ينجح من جانب أقليات في وسط أكثريات.. ولا ينجح من دون امتداد سكاني موالٍ له.. كما أنه لا ينجح في مواجهة امتداد سكاني ضخم مناوئ له..

وفيما تجري مساعي النظام، على قدم وساق، لتوطيد المشهد في محيط دمشق، بصورة تخدم غاية الاستقرار والديمومة له، يبدو أن داريا، الصغيرة جداً، سكانياً، وجغرافياً، مقارنة بـ “دوما”، مثلاً، كانت قادرة وحدها على إرهاق النظام لأكثر من خمس سنوات، قبل أن يتمكن من تفريغها.. الأمر الذي يُوحي بأن تحقيق حزام آمن لـ دمشق، وفق معايير النظام، أمر غير ممكن، على الأمد المنظور، على الأقل..

لا يعني ذلك، بطبيعة الحال، أن تلك الحتميات التاريخية تفعل فعلها دوماً، بل هي في نهاية المطاف نتيجة عمل بشري يؤدي إليها،.. بمعنى، أن استعادة السكان القدامى لما خسروه من أراضٍ، لا يتم دون عمل وجهود ومحاولات حثيثة، تتطلب في بعض التجارب التاريخية، عدة أجيال.. وتتطلب في حالات أخرى، جهود جيل واحدٍ فقط لا أكثر، وربما، بضع سنوات لا أكثر.. ذلك وقفٌ على مدى قدرة الظهير الديمغرافي للسكان القدامى على التوحد والتحرك، لاستعادة ما خسر من أرض..

وفيما يهتف جنود النظام بحياة رئيسه، أثناء مغادرة الباصات التي تحمل السكان الأصليين من داريا،.. تستمر المعركة، ونزيف الدماء، واستنزاف العنصر البشري المحدود في ضفة أنصار النظام.. وتكثر الأرامل، وصور القتلى على جدران مدن كاللاذقية وطرطوس، لتُذكّر أتباع النظام هناك، بأن عدّاد الاستنزاف في أوساطهم يكاد يصل الى حده الأقصى، ليصبحوا في ذروة العجز عن تقديم المزيد.. الأمر الذي يطرح تساؤلات جديّة حول مصير الحاضنة الطائفية للنظام، وسط استعداد الأخير لاستجلاب شيعة عراقيين وأفغان، تحقيقاً لمساعيه للتغيير الديمغرافي..

المدن

 

 

 

 

دلالات حدث داريا والحوادث الأخرى/ ماجد كيالي

لم يكن حدث داريا، حيث تمّت عملية تهجير قسري لمن تبقى من سكانها تحت التهديد بخطر الإبادة، مجرّد مأساة إنسانية فقط، ولا مجرّد فعل سياسي يستهدف إخراج جماعة ما من دائرة الصراع ضد النظام فحسب، فعلى أهمية هذا وذاك فما جرى يكشف عن دلالات أعمق وأعقد وأخطر بكثير.

ما حدث في داريا يكشف، أولاً، طبيعة السلطة في سورية، التي كفّت عن كونها دولة، أو التي التهمت أو احتلت الدولة، منذ عقود. والحال فإن كل تصرفات وإشارات «الدولة الأسدية» تبيّن أنها تحتقر الدولة، بما هي دولة مؤسسات وقانون ودستور، وقد استطاعت هندستها أو تحويلها من النظام الجمهوري، إلى النظام الوراثي، ومن كونها ملكاً عاماً إلى كونها ملكاً خاصّاً بعائلة، أي ليس لطائفة (على ما يدعي البعض) ولا لطبقة ولا لإثنية، وهو ما تم اختزاله والتعبير عنه في شعار: «سورية الأسد إلى الأبد». ومعلوم أن فكرة الجمهورية تأسست على الاعتراف بالمواطنة، وتبعاً لذلك فهي تحيل السيادة للشعب، عبر ممثليه، فيما قامت النظم الاستبدادية، في أوضاعنا، على مصادرة فكرتي الوطن والوطنية، مع إلغاء مكانة المواطن، ومصادرة حقوق الشعب.

ثانياً، تأسيساً على ما تقــدم نلاحظ أن الدولة الأســـدية لم تستول على الدولة، أو نظام الحكم فقط، على ما تفعل النظم الديكتاتورية عادة، بل استولت أيضاً على الفضاء العام المجتمعي، أو بالأصح همّشته أو محته، إلى حــد كبير، حتى لم يعد يظهر منه إلا ما تريده وتبيحه، أو ما يخدم شرعيتها واستمرار وجودها. فالدولة الأسدية ليس فقط أعاقت تطوّر الدولة إلى دولة مؤسسات وقانون، بمعنى الكـــلمة (وهذا ليس له علاقة بالديموقراطية) بل أطاحت، أيضاً، إمكان تحولها إلى دولة مواطنين أفراد، أحرار ومتساوين ومستقلين، وبالتالي قطعت امكان تكوّن الجماعات السورية، باختلاف مكوناتها الدينية والمذهبية والأثنية والعشائرية، على شكل مجتمع.

المشكلة في هذا الوضع الشاذ أنه أبقى السوريين في حيّز الهويات القبلية المغلقة، الأثنية والطائفية والمذهبية والعشائرية، ولم يسمح لها، في ذات الوقت، بالتبلور والتعبير عن ذاتها، أي أنها أبقيت مجالاً لتلاعبات وتوظيفات السلطة، وضمن ذلك وضعها في مواجهة بعضها.

ثالثاً، تأتّى عن إخراج السوريين من دائرة المواطنة، بالمعنى الحقوقي والسياسي، وحرمانهم من التكوّن كشعب، أو كمجتمع، حرمانهم من حقوقهم الفردية، وتالياً حرمانهم من السياسة، فهذه سورية الأسد، وهؤلاء عليهم أن يعيشوا على هذا الأساس، وباعتبار أن العيش في هذه «السورية» بمثابة منّة من النظام، ينبغي أن يكونوا شاكرين لها، وأن يكونوا طوع املاءاتها ومتطلباتها، وفي مقدمة ذلك نسيان أنهم مواطنون وأن لهم حقوقاً.

رابعاً، في كل ذلك تتبدّى الدولة الأسدية إن في رؤاها عن ذاتها أو في تصرّفاتها وسياساتها، بمثابة دولة احتلال، أو أقله بمثابة سلطة خارجية، إزاء شعبها، أو ما يفترض أنهم شعبها، ولعل هذا ما يفسّر انعدام حساسيتها ليس السياسية أو القانونية فحسب، وإنما حتى الأخلاقية، إزاء قتلها مواطنيها، بالبراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية وبالكيماوي، أو في المعتقلات تحت التعذيب، وكذا محاصرتهم الى حدّ الجوع، وتشريد الملايين منهم. هكذا ليس مهماً لهذا النظام أن يُفرّغ البلد من معظم السوريين، أو أن يتحول العيش فيه إلى مأساة أو كارثة، وكأنه ضرب بقنبلة نووية، المهم أن يبقى النظام، فهذه سوريته، التي لا يرى لأحد سواه حقاً فيها. المشكلة هنا أن النظام لا يهمه أن يشاركه الروس والإيرانيون، وحتى الأميركيون أو الطليان، في سورية، في حين أنه يقاوم ويمانع ذلك من شعبه، إلى حد استعداده خوض حرب إبادة ضده. هكذا تبدو الدولة الأسدية مكشوفة وهشة ومرنة ومنفتحة إزاء الخارج، وضمن ذلك إسرائيل، ومحجوبة وصلبة وقاسية ومغلقة إزاء الداخل.

في السرديات أو التوهّمات التي تم ترويجها، والتي عشنا عليها لعقود، كنا نسخر من ادعاء الأنظمة أن إسرائيل لم تنتصر عليها بدليل بقائها أو صمودها، على رغم أنها انهزمت عسكرياً، لكن ما يجري هذه الأيام يبيّن أن تلك الأنظمة كانت جادة في ذلك، وأن هذا حقاً ما يجري. والحال فليس مهماً تهجير معظم أهل البلاد، وخراب عمرانهم، في سبيل بقاء النظام، أو بقاء طغمته في الحكم، ولعل هذا يفسّر شعارات كـ «سورية الأسد إلى الأبد، أو «سورية الأسد أو لا أحد» أو «سورية الأسد أو لتخرب البلد».

الطامة الكبرى أن هذا الأمر لا يتوقف على النظام وحلفائه الروس والإيرانيين، إذ هذا يشمل إسرائيل وربما الإدارة الأميركية، والأنكى أنه يشمل كيانات «يسارية» و»قومية» و»علمانية» و»مقاومة»، لا تريد أن ترى في سورية شعباً، فعندها هذه سورية الأسد فقط!

في الحقيقة، وفي غضون العقود الماضية للدولة الأسدية، تم ابتذال عديد الأفكار التي تبينت عن مدى تلاعب هكذا أنظمة بشعارات مثل: الوحدة والحرية والاشتراكية، لكن فكرة الوطن أو الوطنية تبدو أكثرها تعرضاً للانتهاك والابتذال والتحوير والتوظيف. وكما قدمنا فنحن هنا نتحدث عن وطن من دون مواطنين، وعن وطنية من دون حقوق مواطنة، وفوق هذا وذاك عن نظام اختصر الوطن والوطنية بذاته، أو بشخص الرئيس، واختزل السيادة بطواعية السوريين لأهوائه وسلطته والرضوخ لشرعيته؛ بغض النظر عن تآكل هذه السيادة إزاء الخارج.

القصد أن ما حصل في داريا، من تهجير قسري، حصل قبلها في اليرموك والتضامن والتقدم والحجر الأسود وبابا عمرو، وفي القصير ويبرود والزبداني، ويخشى ان يحصل في المستقبل أيضاً، في المعضمية وفي حي الوعر بحمص، فهذا تحصيل حاصل لهذه الدولة الاستبدادية، التي قابلت ورود غياث مطر بالقصف وبقتله تحت التعذيب، وقابلت التظاهرات السلمية بالبراميل المتفجرة، والتي رفضت خروج المقاتلين من داريا وحدهم، إلى إدلب، وإنما بخروج كل أهالي داريا من نساء وأطفال وشيوخ من مدينتهم المدمرة، متوعدة بدفنهم أحياء إذا لم يرضخوا. «سقف الوطن» أيضاً تبدى بكامل فضائحيته وانكشاف عاره ووحشيته وغربته في صورة المرأة التي دفنت تحت سقف بيتها الذي كان تعرض للقصف، كأن هذا أبلغ دلالة على سقف الوطن.

الحياة

 

 

 

داريا وأخواتها/ حسام كنفاني

كان المشهد استثنائياً في داريا السورية. آلاف من المواطنين يتم اقتلاعهم من أرضهم وبيوتهم، وترحيلهم إلى بقاع أخرى بعد حصار استمر أكثر من أربع سنوات. مشهد يقود تلقائياً إلى التفكير بسيناريوهات مماثلة عاشتها أراض عربية، ولا سيما فلسطين المحتلة، والتي لا يزال يعيش النظام السوري وحلفاؤه تحت راية تحريرها، ورسم الطريق إليها.

داريا التي سطرت، منذ بداية الثورة السورية وحتى يومها الأخير من الصمود، سقطت ضحية التهجير الممنهج الذي يتبعه النظام وحلفاؤه، باعتراف الأمم المتحدة، ضمن مخطط تأسيس ما بات يصطلح على تسميتها “سورية المفيدة”، وهو مسمى لم يعد خافياً أنه يهدف إلى رسم حدود التقسيم، وتحديد الأراضي التي يريد نظام الأسد الاحتفاظ بها ضمن أي اتفاق سياسي مرتقب، أو حتى في حال تعثر التوصل إلى مثل هذا الاتفاق، وتقرّر إبقاء الوضع على ما هو عليه.

ضمن هذا السياق، لم تكن داريا الأولى، ولن تكون الأخيرة. والترانسفير الذي بدأ سابقاً من الزبداني في 2015 عبر ترحيل 225 عائلة، ها هو يتمدّد ويتوسع، ليصل إلى داريا ومن بعدها المعضمية، في إطار إفراغ الغوطة من سكانها المعارضين، وإيجاد بيئة حاضنة للنظام وحلفائه فيها ضمن المشروع “الممانع”.

كثير من الكلام يتداول عن مخططات الإحلال في المناطق المفرغة من سكانها، قد يكون في معظمه شائعات لا أساس له من الصحة. غير أن ما هو صحيح ومتأكد منه أن داريا باتت خالية، وأن لا موعد أعطي لأهلها للعودة إليها، ولا سيما بعد تسجيلات مصورة تظهر عمليات بيع أثاث المنازل التي لم يتمكن أصحابها من نقلها معهم. حال هي عملياً استنساخ للسياسة الإسرائيلية التي اعتمدت تجاه الفلسطينيين المطرودين من أراضيهم في عام 1948، حين تم اعتبار كل ما تركوه خلفهم “أملاك غائبين”، يحق لدولة الاحتلال التصرف فيها. وهو الأمر نفسه الذي سيحصل مع أراضي أهل داريا الغائبين أو المغيبين، فكلها ستكون ملكاً للأسد الذي رفعت صورته على أنقاض المدينة.

قد لا تكون هذه فقط هي الصيغة المستنسخة من تجربة الاحتلال الإسرائيلي، فالتهجير بالأساس ونقل السكان وإحلال آخرين محلهم هي عملياً ما قامت به الدولة العبرية في الفترات اللاحقة لقيامها على خلفيات دينية وعقائدية، وهو الأمر الذي يسير على هديه النظام على خلفيات مشابهة أساسها الولاء، وتأسيس كيان صافٍ سياسياً يؤمن الاستمرارية للأسد وآله.

وقبل التهجير والإحلال والمصادرة، لا يمكن تجاهل العقلية المؤسسة لهذه الممارسات، وهي أيضاً عقلية مستوحاة من الممارسات الإسرائيلية. عقلية لا تقتصر على المستوى الرسمي السوري، بل أصبحت منتشرة بين أنصاره من كل الفئات وعلى المستويات كافة، وحتى غير السوريين. فكل من هو غير موال للنظام أو لا يبجل الأسد وممانعته يستحق القتل. أمر مشابه للنظرة الإسرائيلية أو اليهودية إلى الآخرين من “الأغيار” الذين يرون أيضاً أنهم لا يستحقون الحياة. وعلى هذا الأساس كانت المجازر في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1948 إلى اليوم. غير أن الأسد وحلفاءه تمكنوا من التفوق في هذه النقطة وارتكبوا من المجازر خلال الأعوام الخمسة الماضية ما لم يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي خلال السنوات الثماني والستين الماضية.

على الرغم من ذلك، لا يزال النظام السوري وحلفاؤه يرفعون شعار أن كل ما هو جارٍ على الأرض السورية هو في سبيل وقف محاربة إسرائيل، أو سد الطريق إلى القدس، والتي يبدو أن الوصول إليها، بحسب هذا المنطق، لن يكون إلا بعد تدمير كل المدن السورية المعارضة وتهجير سكانها.

الحياة

 

 

داريا تقلق أبوالغيط../ محمد قواص

يعرب الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبوالغيط عن قلقه إزاء الاتفاق الذي أبرم حول مدينة داريا في الريف الدمشقي.

أعلن أمر “القلق” متحدث باسم الأمين العام، فالأمر هامشيّ عرضي داخل المأساة السورية ولا يستحق ظهور الأمين العام بشخصه في مؤتمر صحافي للتعليق على الحدث، ولا يستحق طبعا دعوة لوزراء الخارجية العرب ولا حتى اجتماعا على مستوى المندوبين.

والحقّ يقال إننا فوجئنا بـ“موقف” أبوالغيط، ذلك أننا في وجداننا، قد أعفينا منذ زمن “جامعة العرب” من أي دور أو وظيفة تتعلـق بالمـوقف من الحرب في سوريا.

استقال النظام العربي السياسي برمّته حين نجح في طرد مندوب النظام السوري من الجامعة ولم ينجح في استبداله بمندوب لسوريا يمثّل معارضة هذا النظام.

وبما أن النظام السوري لم يعد يقبل بأي انخراط للجامعة العربية في شؤون سوريا، فقد استجابت الجـامعة ونفضت يدها برشاقة من الوحول السورية، تاركة لإيران وتـركيا وإسرائيل وروسيا والـولايات المتحدة وغيرها الانهماك في طبخ لم يعد للعرب في ورشته إلا استنشاق روائحه من بعيد.

قلقٓ أبوالغيط من “صيغة داريا”، التي عرف بها عبر وسائل الإعلام، كما يقول البيان، لأنها لم تتمّ تحت رعاية الأمم المتحدة، أي أن القلق متعلّق بشكل ارتكاب الجريمة وليس مضمونها.

يقلق أبوالغيط ولم يصدر عن جامعته القديرة في السنوات الأخيرة أي موقف لافت يتعلق بالمجازر التي ترتكب في المدن السورية الأخرى التي تتعرض، وفق تقارير لا تصدرها الجامعة، للبراميل المتفجرة وقصف النابالم واستخدام الغازات السامة وحصار التجويع.. إلخ.

وقد لا يمكن لوم الأمين العام الحالي ولا السابق ولا الأسبق، طالما أن العرب أنفسهم منقسمون حول المسألة السورية، ومنشغلون بمعضلاتهم البيتية التي يحاولون مواجهتها بحيث تدفع النموذج السوري عن أبوابهم.

لكن لماذا يقلق أبوالغيط في داريا ولم يقلق في حمص ولا يقلق في حلب؟

لا نملك جوابا منطقيا، ذلك أن قلق الجامعة لا منطقي. وقد يكون البيان الصادر عن الأمين العام زلّة لسان وتمرينا لدفع السأم عن “بيت العرب” في القاهرة.

ثم إن أبوالغيط القلق من حدث داريا، هو سليل الدبلوماسية المصرية وأحد وجوهها الأساسيين في العقود الأخيرة، كما أنه في هذه الأيام يمثل فلسفتها على رأس المنظمة الإقليمية الأولى للـدول العـربية. فهل أطل قلق الرجل من كونه رأسا للجامعة أم صوتا آخر يعكس صدى للسياسة الخارجية المصرية في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي؟

تفرغ داريا من أهلها، لكن حجارتها مازالت تتحدث عن أهل المدينة وعن حكاية صمود أسطوري، وستتحدث لاحقا عن رحيل قوم ومرور أقوام أخرى وعن نكسة تسقط مدن العرب وتحيلها تفصيلا في حشايا التسويات

ثم لماذا يقلق أمين عام جامعتنا العربية؟ ألا تعتبر “استعادة” داريا من قبل النظام السوري متّسقة مع رؤى القاهرة في الدعم الضمني لنظام دمشق ضد “الإرهابيين”؟ أولم تتم الصفقة برعاية الحليف الروسي المتفق مع القاهرة على مكافحة الإرهاب، حتى في داريا؟ أوليست “التسوية” انتصارا للأجندة الإيرانية التي لم نسمع أن القاهرة عارضتها بشكل جدي أو استخدمت ضدها موقفا حاسما جازما؟

أما إذا كان قلق الأمين العام يتمحّور حول التفريغ السكاني المقيت الذي ارتكبته هذه التسوية في مدينة عربية داخل دولة عربية هي “قلب العروبة النابض” وفق معلّقات نظام دمشق، فهل أمر كهذا لا يستأهل إلا القلق، والقلق فقط؟

تفرج صفقة داريا عن لبّ الهواجس التي تقضّ مضجع النظام في دمشق. يعتبر النظام السوري أن مشكلته ليست مع “المندسين” ثم “الإرهابيين التكفيريين المتصهينين العملاء للإمبريالية”.. إلخ. فحين أخرج معمر القذافي يوما كتابه الأخضر اعتبر أن مضمونه قابل للتطبيق في دول كالسويد والنرويج وليس على الشعب الليبي القاصر عن أن يكون بمستوى فهم فكر القائد.

مشكلة النظام السوري هي مع الشعب السوري نفسه، الذي أعمل فيه خلال عقود الحكم الغابرة السيف والسجن والاغتيال والترهيب انتهاء بالمجازر منذ العام 2011، فبات من الضروري أن يرحل هذا الشعب كما رحل ناس داريا.

يقلق الأمين العام لجامعة الدول العربية من ترحيل شعوب العرب عن مدن العرب. سبق لإسرائيل أن مارست ذلك علنا في فلسطين، ومذاك يعتبر العالم أجمع أن إسرائيل دولة محتلة. فهل يقصد أبوالغيط من خلال قلقه أن الدولة السورية باتت دولة محتلة تجوز ضدها مسلمات مواجهة الاحتلال وفق الشرائع الدولية، بما في ذلك الحقّ في مقاومة الاحتلال؟

ثم إن إسرائيل حين أجلت العرب عن مدنهم شيّدت مستوطنات واستقدمت يهودا من العالم للعيش داخلها، فهل يعيّ الأمين العام أن ما بعد تفريغ داريا وغيرها (وهنا الكارثة المقبلة) إحلال سكان جدد في داريا وغيرها، بما يعني أن الوطن سيتحوّل إلى ورشة استيطان خبيثة.

لم تعد التقارير تخفي خطط النظام السوري وحلفائه في طهران على إحداث تغيير ديموغرافي يؤسس لسوريا المفيدة العزيزة على قلب بشار الأسد.

في التقارير وقائع وبيانات ومستندات وإحصاءات وخرائط لمخططات لا تكلّ تستبـدل هـويـة مـذهبيـة بـأخـرى وفـق أجنـدة معلنة لا لبس فيها تطلقهـا أبواق إيران دفاعا عن “المراقد”. فأما وقد حوّلت إيران العراق إلى حسينية كبرى، على حدّ تعبير أحـد الأصدقـاء العـراقيين، فلماذا لا تتمدد تلك الحسينية نحو سوريا باتجاه لبنان؟

ستعمل روسيا والولايات المتحدة المولجتين، بتواطؤ حميم، بالتعامل مع “الحالة” السورية على مواكبة خطط دمشق-طهران لردع “الإرهابيين” عن تخوم دمشق. وهنا يبدو قلق الجامعة العربية هزيلا، فحتى جون كيري وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية، الدولة البعيدة غير العضو في جامعة الدول العربية، سبق أبوالغيط في التعبير عن ضيق من صفقة داريا. لكن الواضح أن ردّ فعل كيري يعبّر عن شأن هو من صلب ميدان العمل الأميركي، فيما ردّ أبوالغيط يبدو استشراقيا يتعلق بشأن من خارج ميدان عمل جامعة الدول العربية.

لا عليك أيها الأمين العام فلجريمة داريا قصة تجمعت خيوطها وأظهرت حبكتها تواطؤا جماعيا دوليا إقليميا لإسقاطها.

في أواخر عام 2014 وصلت فصائل “الجبهة الجنوبية” التابعة للجيش السوري الحر إلى مشارف الغوطة الغربية ولم تفصلهم سوى 30 كيلومترا عن داريا وبضعة كيلومترات إضافية للوصول إلى جنوب دمشق وبلدات الغوطة الشرقية.

شيء ما حال دون ذلك لاحقا: تدخّل الميليشيات التابعة لإيران؟ ربما. لكن الأهم، هو تبدل مزاج غرفة العمليات الدولية المشتركة “الموك” ومقرها الأردن، التي تقدم الدعم لفصائل المعارضة، التي أعادت قلب خرائط العمليات وتشتيت فصائل الجنوب ودفعها لخوض معارك في قلب حوران وشرقها. فكانت معارك تحرير الشيخ مسكين واللواء 52 وبصرى الشام ومعبر نصيب الحدودي، إلى أن تزامن التدخل الروسي مع تراجع “الموك” تدريجيا عن تقديم الدعم لمعظم فصائل “الجبهة الجنوبية”، وذلك ضمن اتفاقيات دولية. فبات مستحيلا، بقرار دولي، فكّ الحصار عن داريا.

تفرّغ داريا من أهلها، لكن حجارتها مازالت تتحدث عن أهل المدينة وعن حكاية صمود أسطوري، وستتحدث لاحقا عن رحيل قوم ومرور أقوام أخرى وعن نكسة تُسقط مدن العرب وتحيلها تفصيلا في حشايا التسويات، فيما أهل المدن يهيمون بحثا عن أحياء أخرى تبتلعهم بانتظار قدر آخر لا يسبب قلقا للأمين العام لجامعة العرب.

صحافي وكاتب سياسي لبناني

العرب

 

 

 

 

انظروا: المتدخّلون يتناهشون مناطق النفوذ في سورية/ عبدالوهاب بدرخان

قُصفت داريّا بوابل من قنابل النابالم، قبيل إخلائها، وقال شهود عيان أن الحرائق بدت ليلاً من دمشق أشبه بفوّهة بركان مشتعلة. لم يقل أحد، ولا الأمم المتحدة، أن نظام البراميل المتفجّرة عبّأ براميله بسلاح محظور دولياً، ولو من قبيل توثيق الواقعة. الأرجح، أن التعب الدولي من انتهاكات النظام جعل التنبيه الى جرائمه بلا معنى أو مغزى، فهي كثيرة ويومية. غير بعيد من داريّا، في المعضمية، قبل ثلاثة أعوام، كان القتل بالسلاح الكيماوي، وتعاون الأميركيون والروس على لفلفة الجريمة آنذاك، والأرجح أنهم سيتعاونون على حماية النظام القاتل بعدما حمّله التحقيق الدولي مسؤولية واقعتين كيماويتين بأدلة قاطعة.

كانت لداريّا رمزية خاصة بدلالة تجربة العيش المشترك بين أبنائها مختلفي الانتماءات، ففيها تجلّت «سلمية الثورة» بأبهى حللها في تقديم الورود الى جنود السلطة، وفيها انكشف باكراً الوجه العنفي الحاقد للنظام بقتل حامل الورود غياث مطر بعد اعتقاله، وفيها كذلك ارتكب النظام المجازر المنهجية الأولى قبل أن يشرع في حرب إبادة ضد المدينة، وفيها أخيراً سجّل عسكريون وشبان اضطرّوا للتعسكر واحدة من تجارب الصمود الإنساني الأكثر إذهالاً. كانوا مقاومة شعبية حقيقية، ذات هوية وطنية، ولا ارتباطات خارجية لهم، ولا أسلحة ثقيلة، ولذلك كان وجودهم على مقربة من دمشق مصدر إزعاج لا للنظام وإيرانييه فحسب، بل حتى لفصائل أخرى قريبة وباتت الآن تحت ضغوط براميل النابالم تمهيداً لإخلائها بدورها.

بالنسبة الى إعلام نظامَي بشار الأسد وملالي إيران، شكّل الانتهاء من عقبة داريّا خطوة متقدّمة في «تأمين دمشق»، بعد القلمون والزبداني، والتأمين هذا اسم مرادف لاقتلاع السكان والتغيير الديموغرافي. هو استنساخ دقيق لنموذج الإرهاب والمجازر الإسرائيلي في إخلاء المَوَاطن من أهلها، ومن ثَمّ التصرّف بما يسمّى «أملاك الغائبين» والسهر على تهويد الأماكن. قبل داريّا، مورس النهج «التهويدي» في حمص، ويستكمل الآن – بالنابالم – في حي الوعر، الرقعة الأخيرة منها خارج سيطرة النظام.

لكن هذا النظام قبل طوعاً تقزيم وجوده في الحسكة، بعدما طردته منها قوات «حزب العمال الكردستاني»، وليس «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي، وفق التسمية التي اعتمدها محافظ الحسكة. وفي هذه الواقعة أيضاً، سيكون للتغيير الديموغرافي أثره القاسي في الناس، تحت أنظار الروس الذين تولّوا «التوسّط» بين النظام والأكراد. وهو تغيير يتمّ في سياق يخدم أجندة النظام، إذ يقبل سيطرة الكرد طالما أنهم سيهجّرون العرب. وما دام الـ «بي كي كي» السوري تسبّب بنفي قسم كبير من مواطنيه الأكراد غير المتوافقين معه سياسياً وتهجيرهم، فماذا يُتوقّع منه حيال العرب، وقد هجّر منهم مَن هجّر، وعلى رغم نفيه المتكرّر لم يستطع أحدٌ منهم العودة الى قريته أو بلدته.

لوقائع مثل داريّا والحسكة أبعادٌ «مستقبلية» باتت تنبثق من قذارة الحرب وأهداف اللاعبين فيها، ويمكن أن تضاف إليها الحالات الميليشياوية التي فرضت نفسها على مناطق المعارضة، كما دأب الإيرانيون على نشرها في «مناطق النظام» حتى أن الروس الذين ازدروها في بداية تدخّلهم، لم يجدوا مناصاً من التعامل معها وأصبحوا يستقبلون وجوهها في قاعدة حميميم. هذه وقائع أقلّ ما يقال فيها أنها لا تسابق «الحل السياسي» وتضاعف صعوباته وتعقيداته فحسب، بل إنها ماضية في قتله وفي تغيير الوقائع على الأرض، الى حدّ أن القرار الدولي 2254 الذي لم يظهر إلا في العام الخامس للصراع، أُفرغ من مضمونه في غضون شهور قليلة. وإذ يُنظر بيقين الى «داعش» على أنه خطر زائل لا محالة بعدما وفّر لجميع من ساهموا في ظهوره حقولاً للقتل والتدريب وتجريب الأسلحة، فالمؤكّد أن «داعش» لا مستقبل له في سورية أو في العراق، لكن ما يحصل على الأرض ماضٍ في صنع مستقبل لمن أوجدوا التنظيم واستغلّوه تحديداً في إفساد قضية الشعب السوري.

فمن داريّا التي أعادت إنعاش حلم الأسد والإيرانيين في «سورية المفيدة»، الى الحسكة التي أكّدت وجود تفاهم أميركي – روسي على منح الأكراد كياناً خاصاً بهم، الى جرابلس التي دشّنت دخول تركيا منطقة النفوذ التي أفردها لها الروس والإيرانيون، الى مواصلة الأميركيين والروس بحثهم عن «هدنة شاملة» في حلب وعن أفضل تنسيق لنشاطاتهم الجوية وأفضل تمييز ممكن بين معارضتين معتدلة ومتطرفة، وإلى استمرار النقاش والخلاف حول «مصير الأسد» فيما تتمسك به موسكو وطهران وتستعد أنقرة لتطبيع العلاقة معه وتسلّم واشنطن بوجوده في مرحلة «قصيرة» لا يريدها الأسد نفسه، بل لا يعترف بأي صفة «انتقالية» لها… يبدو أن الطرف الوحيد الذي لن يتاح له أن يقرّر مصيره هو الشعب السوري، وإذ كانت تركيا حتى أمس قريب أشبه بحصن أخير لقضية هذا الشعب، أقلّه بحكم موقعها الجغرافي، فإن التحاقها باللاعبين الخارجيين الآخرين مرشحٌ لأن يُضعف التزاماتها تجاه المعارضة.

لا شك في أن الدخول التركي الى الأراضي السورية، لمقاتلة «داعش»، صار مقبولاً أميركياً بعدما نالت تركيا قبولاً روسياً – إيرانياً، بل قُبل معها أيضاً «الجيش السوري الحرّ» الذي كانت أميركا أمعنت في إهماله وتهميشه يوم كان قادراً على صدّ اختراق «داعش» وانتشاره، ثم مانعت لاحقاً أي دور له في محاربة الإرهاب، كأنها لا تجد له مكاناً في «سورية المستقبل» كما تتصوّرها، ولذا فضّلت الاعتماد على «بي كي كي» السوري لأنها حجزت له مكاناً في «سورية المستقبل» كما تتصوّرها. تم تحريك هذا الفصيل من «الجيش الحرّ» تحت الإمرة التركية، ووفقاً للصيغة التي اشترطتها أميركا منذ 2014، أي لمقاتلة «داعش» لا لمقاتلة النظام. هذا يناسب المعايير الروسية، ولا يقلق إيران، وإن كان مجرد ذكر «الجيش الحرّ» يثير كل الحساسيات داخل الحلقة الضيّقة للنظام، وحتى لدى جمهوره. لكن حسابات الحلفاء برهنت في محطّات عدة، أنها لا تكترث بهواجس الأسد وزمرته.

في أي استراتيجية يمكن وضع التحرّكات الدولية والإقليمية الراهنة، وهل هي منسجمة مثلاً مع نص القرار 2254 الملتزم «وحدة سورية»، أو حتى مع «المبادئ» الثلاثة التي ادّعاها «التفاهم الثلاثي» الروسي – الإيراني – التركي (وحدة سورية أراضيَ وسيادةً، حكومة وطنية موسّعة، إعطاء الشعب السوري الفرصة لتقرير مصيره…)؟ الواقع، أن الأمم المتحدة اتّبعت مع أمينها العام الحالي خطّ العمل في موازاة ما تتفاهم عليه أميركا وروسيا اللتين عطّلتا كل سلطة مبدئية أو أخلاقية للمنظمة الدولية كما ألزمتا المبعوث الأممي بمراعاة إيران والنظام على حساب الأطراف الأخرى.

لكن المتدخّلين الخارجيين جميعاً، كما نظام الأسد، لم يُثبتوا يوماً احترامهم وحدة سورية. إيران أولاً لاستحالة تحقيق مطامعها في سورية موحّدة، وإيران مع النظام بعدما بانت صعوبة استعادته الحكم على كل البلد، ثم روسيا التي أدركت سريعاً أن سورية تجزّأت قبل تدخّلها، وأن خيارها الوحيد حماية «سورية المفيدة» كمشروع إيراني – أسدي يمكن أن تحافظ على مصالحها فيه، أما الولايات المتحدة فانتزعت نفوذاً عبر إدارة المعارضة وكبحها في الجنوب وتمكين الأكراد في الشمال، ومن خلال الدورَين الروسي والأميركي حصلت إسرائيل على «حقّها» في التدخل، وإذا لم تكن تبحث عن منطقة نفوذ فلأن لديها الجولان وتريد اعترافاً بأنه لم يعد محتلاً، بل أصبح «حلالاً لها»، وأخيراً انضمّت تركيا الى اللعبة وهي تعلم أن لـ «البازار» الذي يرحّب بها قواعد وشروطاً لا تتلاءم بالضرورة مع كل ما تسميه «ثوابت» لا تحيد عنها.

نعم، قد يشكّل تقاطع مصالح أنقرة وطهران ودمشق ضد الكرد قاعدةً لتقاربها، لكن المشروع الكردي يحظى بتفاهم أميركي – روسي وبتشجيع إسرائيلي، وبالتالي فإن ما تستطيعه الدول الثلاث المتضرّرة هو إبطاء هذا المشروع وحصر تداعياته عليها. ولا شك في أن نظام الأسد يمثّل هنا الحلقة الأضعف، فهو، على قول بعض القريبين، لم يعد معنياً إلا بـ «قصر المهاجرين» (مقرّ حكمه)، أما انزلاق سورية أكثر فأكثر الى مستنقع التقسيم فلا يشغله، لأن التقسيم حصل في رأسه منذ اندلاع الأزمة.

* كاتب وصحافي لبناني

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى