حسين عبد العزيزصفحات سورية

أشكال جديدة للصراع على مدينة الرقة/ حسين عبدالعزيز

 

 

منذ أشهر والأنظار تتجه إلى اليوم التالي لسقوط تنظيم «داعش» في مدينة الرقة السورية، لمعرفة مصير المدينة في شكل خاص والمحافظة في شكل عام، في ظل صراع علني – مضمر بين فرقاء محليين وإقليميين ودوليين، منعت الحربُ على التنظيم تفجيرَه وإظهارَه في شكل حاد إلى العلن.

لكن تصريح وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون بأن «استرجاع مدينة الرقة أدخل الأزمة السورية في طور جديد»، يشكل توصيفاً دقيقاً للمرحلة المقبلة، حيث سيأخذ الصراع منحنيات حادة، وإن كانت بلباس سياسي لا عسكري وفق المعطيات الراهنة.

ولم تكن صدفة أن تعلن «قوات سورية الديموقراطية» (قسد) في اليوم ذاته الذي أعلنت فيه انتهاء المعارك في المدينة، أن مستقبل محافظة الرقة سيحدده أهلها ضمن إطار سورية ديموقراطية لا مركزية اتحادية يقوم فيها أهالي المحافظة بإدارة شؤونهم بأنفسهم.

إن التسرع في هذا الإعلان يحمل رسالتين واضحتين: الأولى أن «حزب الاتحاد الديموقراطي» الكردي ماضٍ قدماً في تطبيق اللامركزية حتى في المناطق التي ليست جزءاً من الهوية الكردية، وليست جزءاً من الكينونة السياسية للأكراد، كما هي حال الرقة.

والثانية، أن «الاتحاد الديموقراطي» ليس بصدد ضم المحافظة إلى مشروع «روج أوفا» الفيديرالي كما ذهب إلى ذلك الكثير من الكتاب والمحللين، فإذا كانت مرحلة محاربة تنظيم «داعش» تتطلب تغليب البعد الكردي في معادلة الرقة، فإن مرحلة ما بعد التنظيم تتطلب تغليب البعد العربي، أو على الأقل تقوية البعد العربي، كي لا تخضع المحافظة لتأثيرات إثنية من شأنها أن تفجّر الوضع المحلي.

هذا الأمر يدركه الأكراد جيداً، ولديهم أكثر من تصريح حول هذه المسألة، فما يهمّ «الاتحاد الديموقراطي» هو نشر ظاهرة اللامركزية في عموم سورية حتى لا تبدو مطالبهم في لا مركزية كردية وكأنها نشاز أو استثناء، فكلما انتشرت ظاهرة اللامركزية كان ذلك في مصلحتهم.

من هنا تحمل تصريحات «قسد» ليونة سياسية واضحة، فتجربة كردستان العراق الأخيرة لا تزال تشكل صدمة للوعي الكردي بعامة، ذلك أن ضم الرقة إلى «الإدارة الذاتية» سيقابل بفيتو محلي وإقليمي ودولي، قد يدفع الأكراد ثمنه في هذا المفصل التاريخي، وهذا أمر قد يشكل سلباً لطموحاتهم وأهدافهم المحلية التي يجب أن تنحصر في إطار الإمكان التاريخي.

هكذا يمكن فهم سرعة انسحاب بعض مقاتلي «وحدات حماية الشعب الكردي» سريعاً من مدينة الرقة بعد انتهاء المعارك، وتسليم مواقعهم لعناصر عربية من «قوات سورية الديموقراطية».

هذا لا يعني بطبيعة الحال أن «قسد» ستتخلى عن المحافظة، فهذا أمر خارج المُفكر فيه، ولعل البيان الذي تلاه الناطق باسم القوات في الرقة واضح للغاية، «نتعهد بحماية حدود المحافظة ضد جميع التهديدات الخارجية».

إنها رسالة بالدرجة الأولى الى النظام السوري الذي يستعد لمواجهة الهيمنة الكردية في الشمال السوري بعد انتهائه من دير الزور، وهو ما تدركه الوحدات الكردية جيداً، فمرحلة تحالف الضرورة بين الجانبين تشرف على الانتهاء من دون أن يعني ذلك حدوث تصادم عسكري، لكنه قد يعني إجراءات على الأرض من كلا الجانبين لتعزيز نفوذ كل طرف وإضعاف الطرف الآخر.

وهي رسالة موجهة الى الأتراك ثانياً إذا فكروا في القيام بأية خطوة ليس في الرقة فحسب، وإنما في أية منطقة تسيطر عليها الوحدات الكردية.

المقاربة الكردية لمحافظة الرقة تنحصر في جعلها في منزلة بين المنزلتين، فلن تكون جزءاً من «روج أوفا»، ولن تكون جزءاً من قوى أخرى بسبب أهميتها الجغرافية كصلة وصل بين الحسكة شرقاً، وعين العرب (كوباني) وعفرين غرباً.

وأمام تحديات إبقاء المحافظة محايدة، أصبح «الاتحاد الديموقراطي» في حاجة الى شرعنة وجوده بأدوات سياسية، فعمد منذ أشهر الى اختراق البنى العشائرية، وتسليم ممثليها مناصب في المجلس المحلي لمدينة الرقة.

غير أن هذا الواقع لا يستقيم مع تركيا والنظام السوري، فكلا الجانبين أطلق تحذيرات من مغبة هذا الواقع الذي يحمل في ظاهره شكلاً متنوعاً من الحكم، لكنه في باطنه يمنح الوحدات الكردية السيطرة الرئيسية. فقد أعلن مجلس الرقة الموجود في تركيا رفضه المجلس المحلي المصنع من جانب الوحدات الكردية، في وقت أعلن النظام أنه لا يعتبر الرقة محررة إلا بدخول الجيش السوري إليها.

بالنسبة الى تركيا، تعني هيمنة الوحدات الكردية على الرقة حرية التحرك بين الشرق والغرب، وتعزيز الأوراق الاقتصادية، والانتشار على مسافة حدودية طويلة معها من شأنها أن تهدد الأمن القومي التركي. كما تعني بالنسبة الى النظام فقدان منصة مهمة بحكم موقع الرقة الجغرافي الذي يربط الشرق بالغرب، ويطل على محافظتي حمص وحماة في الجنوب والجنوب الغربي.

قد تكون مرحلة ما بعد تنظيم «داعش» في الرقة، فرصة مواتية لأنقرة ودمشق لتحجيم الدور الكردي، والعمل في شكل غير مباشر على خلق وقائع عسكرية وجغرافية تضيق الخناق على الوحدات الكردية، وقد علمتنا التجربة السورية كثرة المفاجآت والتغيرات السريعة في التحالفات، فضلاً عن تداخل التحالفات وتصارعها في الوقت ذاته.

* كاتب وإعلامي سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى