صفحات الثقافة

أشياء نرفعها بالنظرة/ أوغستو رودريغس

 

 

[في جنوب القارة الأميركية، وتحديداً في الإكوادور، يقود الشاعر الإكوادوري أوغستو رودريغس (Augusto Rodriguez) حركة ثقافية مع مجموعة من رفاقه الكُتّاب تحت عنوان “باص ورقيٌّ صغير”، كأنما هي رحلة في عالم الأدب ضمن جغرافيا محدَّدة بمدينته خواياكيل التي وُلد ونشأ فيها.

يُعتبر رودريغس (1979) من الشعراء والكتّاب النشيطين الذين لا يركنون إلى أحد في مسيرتهم الأدبية، بل هو صاحب فضل ومبادرة في تنظيم معظم الفعاليات الأدبية (من محاضرات وندوات وأمسيات شعرية وورش عمل) في مدينته، دون التفاتٍ لمحدودية الإمكانيات المادية.

رودريغس، المعتمد أساساً على موهبته، أخذ طريق الاحتراف في كتابة الشعر وغذّى هذه الموهبة بالمعرفة. في قصائده، يقفز من ثيمة إلى أخرى بمرونة تصيب القارئ بالدهشة والإعجاب، فتتراءى لنا بجلاء حيرته وهواجسه وتساؤلاته عن الموت والوجود والذات الإلهيَّة؛ قصائد نتلمس في عدد منها نَفَساً صادقاً لتأثَّرها بموت والده المبكر ومعاناته مع المرض، فيما تتراوح قيمة قصائده الغزلية بدون أن تسقط في المبتذل.

عن احتكاكه بالشعر العربي يقول رودريغس: “القليل جداً من الشعر العربي بلغ هذا الجانب من العالم. وما قرأته منه أدهشني بآفاقه وصوره وطابعه الخاص جداً. أحياناً أشعر أن الشعر العربي خُلق ليُسمع لا ليُقرأ فقط، وقد استمعتُ إلى نماذج منه في نيكاراغوا والإكوادور والمكسيك”.

في “غرفة العمليات”، وهي دار نشر صغيرة أسَّسها بالتعاون مع كتَّاب آخرين جمعتهم الأحلام ذاتها، يصدر رودريغس عدداً من الكتب والدواوين كل عام بتوزيع محدود لا يتجاوز المئتي نسخة للكتاب الواحد. هذه المحدوديّة في الموارد لا تجعله ييأس أو يتراجع عن الطريق الذي مضى به لإسماع صوت آداب القارّة اللاتينيَّة في بلده. ويعلِّق على ذلك بقوله إنها دار نشر متواضعة لكنّها تهتم بالكتابات الجديدة والمختلفة وخصوصاُ من الجيل الحديث الذي غالبا ما تهمِّشه المؤسسات الثقافية الحكومية.

يعمل رودريغس في الصِّحافة إلى جانب نشاطه في النشر. من أعماله الشعرية: “بينما هي تقتل البعوض” (2004)، “حيوانات مفترسة” (2005)، “الوحش الذي يسكن داخلي”، “أناشيد ضد ديناصور ثمل”، (2007)، “قواعد الرغبة” (2009)].

 

دم القتلة

 

في الغرفة

تشعل الكتابة لهباً

يكشف عن أشياء لا أرغب في رؤيتها

أو سماعها

ليس هو سوى مصباح يضيء

بدم القتلة

ومخلوقات ليليَّة

ليست هي سوى خريطةٍ تحملني

لمقابر من عظام

خريطة تتجاوز الحدود

حين تشير إلى الخطّائين

 

الكتابة غابة

تفكِّك لنا حوافَّ موتنا.

 

 

رأس على المائدة

 

الرأس بلا جسد

يسترخي على المائدة

لا أحد يعرف كيف وصل هنا

ولا من فصله عن جسده

لا نظريَّات

لا متواطئين ولا شهود

يجلس الرجال

مع شُوَكهم وسكاكينهم على المائدة

بلا سعادةٍ ولا حزن

فقط يُقطِّعونه قطعاً صغيرةً

يُقطِّعون الرأس ويأكلونه.

 

 

ثمَّة أشياء نرفعها بالنظرة

 

ثمة أشياء نرفعها بالنظرة

ثقلها مجهول

واضحةٌ كالماء

لكنها غداً ستكون معتمة

كأسنان الذئاب المفترسة

أشياء لها أسماء

لكنَّها مع الوقت تغيِّر هويَّتها

أشياء لها ألوان مختلفة

حسب العين التي تراها

أشياء تتغير قامتها

ملامحها وهيئتها

التي تولد وتموت في صمتٍ

تماماً كالناس في زماننا.

 

 

حلم المحكومين بالإعدام

 

عظامي

أنجزت مهمَّتها

في الحفاظ على هذه الجمجمة

وعلى هذا الجلد التالفِ

مع كلِّ عاشقٍ وفي كلِّ لحافٍ

واسعٌ هو الكون لرجلٍ مثلي

لا يتقن غير الشُّرب

والتَّزاوج

وإنكار الحياة

ها قد أنجزت عظامي الأمر الأهم

وها هو حلم المحكومين بالإعدام

يتحطَّمُ شراذم

ويتهيَّأ للنَّوم.

 

 

آلة اصطناعية

 

تعلن النُّبوءاتُ

نهاية الإنسانية

فيما أمارس العادة السريَّة وأسقط

قليلٌ ما أستطيع كتابته

من جانب الأشياء هذا

من هذا العالم الذي أنتمي إليه

في تقلُّبات الأبجديَّة

ومن المرايا التي تضيقُ بنا

أرى المرأة التي أحبُّها

أُعانقها

وأفكِّر أنَّ الوقت قليلٌ

كي نكون سعداء

في هذا العالم

أعرف أننا سنموت قريباً

كهذا الكون المريض الذي يتنفَّسُ

من آلةٍ اصطناعيَّة

 

 

عبر ممرِّ المُستشفى

 

الجريح يُجرجرُ نَفْسهُ

عبر ممرِّ المستشفى

محتضرون حديثو الولادة

صيحات، أوجاع، أدوية

ـ منتهية الصلاحية –

جريح يجرجر نفسه

عبر ممر المستشفى

من الداخل يجتاحه

الموت والشياطين

 

 

الجانب الأضعف في جسدي

 

أنا أكثر من مجرَّدِ لقب

سيتلاشى من الجنس البشري

بضعة أوراق ثبوتيَّة

تشي بي إلى القاتل

لا أجد رأسي

في هذا الجسد المختبئ

الذي يهيج وينكر ذاته

أحدهم مات

في جانب جسدي الأضعف

لم أتعرَّف إلى اسمه أو صوته

فجانب جسدي الأقوى

يتزحزح نحو الأمام ويفرُّ.

 

 

بكاءُ مقطوعي الرأس

 

الدمى بلا رؤوس

تذكِّرُني ببكاء مقطوعي الرأس

لا بأس إن عانوا من الهجران

من جرعات المخدرات الزائدة

أو من مشاكل في القلب

يبكون حيضَهُ

ودماءهُ نهاية الشهر

ويُغرِقون كلَّ شيء من الفزع

الدمى بلا رؤوس

تبكي عبر عيني

 

 

دُعاءُ الأموات

 

هذه الليلة

أتذكَّرُ أمواتي

كمن يُخَلِّدُ أوَّلَ عظامِ البُؤسِ،

وطائرَ العنقاءِ،

والقلمَ الذي خطَّ للمرَّةِ الأولى أسماءنا.

في ذاكرتي

تَسبحُ

أسماكُ القِرْشِ

مُكتشفةً الجماجمَ التي تُخَبِّئُ نقوشَ الأَحياءِ.

هذه الَّليلةُ

أُشْعلُ الشُّموعَ

أتذكَّرُ أمواتي

أستدعي أشباحَهُم

وأستقبلهُمْ بذراعينِ مَبتورتَينِ.

 

 

هياكلُ عظميَّةٌ

 

حتماً لن يأتوا إلى الموعدِ

فقد انسلُّوا من الحفلِ مع عاهرةٍ رخيصةٍ.

سيعثرونَ على طاولةٍ ما

سيشربون بعض الكؤوس

محاولين العبور إلى العالمِ الآخر.

لكنهم لن يهربوا

فما زال أمامهم الكثير كي يَثْمَلوا

ويعشقوا

ويضاجعوا

ويكتبوا.

 

 

سأتذكَّرُهم دوماً

كسحرةِ بؤسٍ تافهين

خَطُّوا بأجسادهم العارية

أفضلَ قصائد المجد

دون أن يخلعوا الأقنعة أمام ميدوزا.

يوماً ما لن يعودوا

و أنا لن أعودَ كي أراهم كما الآن

لن يكونَ هناك سوى عشراتِ الهياكلِ المدفونةِ في هذا الكون.

يوماً ما سيجلسون على حافَّة البحرِ

لقراءةِ أفضلِ قصائدهم

عندها لن يكون لنا وجودٌ.

 

 

جمجمة تَحتَرِق

 

الإنسانُ جمجمة مُهَشَّمةٌ مُتَفَحِّمةٌ بلهيبٍ داخلٍ وخارجٍ. جُمجمةٌ لا خلاصَ لها ولا راية. قَلْبٌ دافقٌ لا يعرفُ التَّعبَ. جمجمةٌ كبيرةٌ تَنبضُ وتحلمُ بكوابيسَ مُتقطعةٍ. جمجمةٌ مُهَشَّمةٌ انهارت فيها أفكارٌ كثيرةٌ كي تضمنَ العيشَ، كي تَتَمتَّعَ، كي تبقى على قيدِ الحياةِ، حتَّى لو كانَ كُلُّ ما حولَها تافهاً عديمَ الفائدةِ لا جدوى منهُ. الإنسانُ جمجمةٌ يشْتَعِلُ فيها جحيمٌ كامل.

 

 

عارية في الهواء الطلق

 

لِتَكن الكَلمةُ مِفتاحَ الوَعيِ

مُحَطَّمةً الأبوابَ الموصدةَ بيننا

مُحَرِّضةً لأَفكارنا

ومُزَلزلةً آفاقَ نظراتِنا.

 

لِنَقتلِعَ أعيُننا من محاجرها ونهديها

لعابري العوالم الأخرى.

 

لِتُدْفَنَ الكلمةُ في ذاكرتنا

وَلِتُحَلَّ شيفرةُ دواخِلِنا.

 

لِنُشعِلَ عُقولَنا

ونبقى عراةً في الهواءِ الطَّلقِ.

 

 

جَسَدٌ مَريضٌ

 

ما الكَلِمةُ سوى عمودٍ فقريٍّ لزرافةٍ انشطرت قسمينِ. طائرٌ يَحتضرُ كقدمِكَ البارزةِ من تحت لحافي. علومُ حسابٍ أساسِيَّةٍ معكوسةٍ لأطفالِ المدارسِ. أُذُنٌ تَذْكُرُ دوماً أُغنِيَةً جميلةً لا وجودَ لها. قِطَّةٌ أمريكيَّةٌ لا توجَدُ سوى في ثلجِ الذَّاكِرةِ. رأسٌ مُهَشَّمةٌ تَستيقظُ في الحُلُمِ.

الكلمةُ جسدٌ مريضٌ يَتَخلَّصُ دوماً من الفاكهةِ المُحْتَرقةِ.

 

 

لا موسيقى و لا أياد

 

من الخلف أُغَنِّي. تَهْجُرُني ذراعايَ. أرقصُ دون إيقاعِ طبلٍ، دون دورانٍ. عظامي تستديرُ حول محاورِها وَتَتَحرَّكُ على وَقْعِ أوراقِ جسدكِ. رِجْلايَ وَتَرانِ لقيثارةٍ بِكْرٍ، إذ لا توجدُ موسيقى ولا أيادٍ. تَتَحَسَّسَ أصابعي صدرَكَ، وأَتَوَغَّلُ في ماضيك.

أجفاني خرائطُ صغيرةٌ تَحمِلُني على احتلالِ مَملكَتِكَ البائسةِ المنبوذةِ. أظافري مروحيَّةٌ تُرفرِفُ فوق جبينك. أرقصُ في شَفَتِكَ السُّفلى وهكذا تكون ابتسامَتُك بطيخةً مقضومةً.

 

 

أحمرٌ مُشوَّهٌ من الرَّغبةِ

 

أرى ملائكةً تهوي دونَ أجنحةٍ

يتحدُّون فروع التاريخَ المختلفةَ

وأنا شاهدٌ ستمحيني الذَّاكرةَ.

تتلصَّصُ عَلَيَّ ملائكةٌ في هذه الغرفةِ.

وتهطلُ في المدينةِ أمطارٌ غزيرةٌ

ولا أحد يلتفت إليَّ.

لا زالت الملائكةُ تهوي

حمراءَ من الرَّغبةِ مُشَوَّهةً

وأنا أُحصيهم على جبهتي.

 

 

هندسةٌ خاصَّةٌ بِكِ

 

إلى ماريتسا روميرو بيرنال

Maritza Romero Bernal

 

أرى

آلاتك المدهشةَ

أتشَمَّمُ عنقك خلفَ ضفائِرِكِ.

كأنَّني عقربٌ على أقمشةِ الثِّيابِ

بكماءَ و سامّة.

أتأمَّلُكِ كَمُعجزَةٍ

في مرآةِ الزَّمن.

أُحَدِّقُ في يديكِ البريئتينِ

وبِكُلِّ هدوءٍ

أُداعِبُ أطرافَ أصابعك.

زمنٌ يُناكِفُني

حتماً لن أفقدكِ فيه.

 

ترجمة عن الإسبانية وتقديم: غدير أبو سنينة

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى