صفحات سورية

أضواء كاشفة على الحضور الكردي في المشهد السوري/ محي الدين شيخ آلي *

يدرك المراقبون ومن يهمهم الأمر على اختلاف نواياهم وانتماءاتهم  ، أن أكراد سوريا رغم الغبن التاريخي اللاحق بهم تمكنوا من تحقيق نجاحات أبرزها :

أ – حفاظهم على أواصر الصداقة وحسن الجيرة مع المكون العربي ، خاصةً في محافظة الحسكة – الجزيرة شمال شرق البلاد ومحافظة حلب – منطقة عفرين شمال غرب البلاد ، وكذلك في منطقة عين العرب وناحيتي صرين والشيوخ التابعتين لها – شرق نهر الفرات .

ب – صونهم لعلاقات الود والوئام مع المكون المسيحي بمختلف كنائسه ( أرثوذوكس ، كاثوليك ، بروتستانت … ) وكذلك مع التركمان والشركس والأرمن .

ج – تصديهم وإفشالهم للهجمات العسكرية الغادرة التي لطالما شنتها كتائب وألوية إسلامية متطرفة وأخرى منتحلة صفة ( الثورة والجيش الحرّ ) ضد المناطق الكردية بهدف اقتحامها لاستباحتها والسيطرة على كامل منافذ الحدود الدولية مع الجارة الشمالية تركيا التي أخفقت حكومتها في الوقوف على مسافة واحـدة من مكونات المجتمع السوري.

د – مكافحتهم لآفة المخدرات وخصوصاً نبات القنب الهندي ( الحشيش ) ، حيث تم إتلاف وحرق عشرات الأطنان منها في منطقتي عين العرب وعفرين وريف الجزيرة .

هـ – استقبالهم الرحب لعشرات الآلاف من النازحين العرب من المناطق والمحافظات السورية الأخرى وتقديم ما أمكن من العون والمساعدات لهم .

و – مشاركة حقيقية للمرأة إلى جانب الرجل في معترك الدفاع عن الوجود وصد الهجمات ضد المناطق الكردية وحمايتها ، حيث انخرطت ألوف النسوة والفتيات الكرديات في مهام الدفاع في الخطوط الأمامية لوحدات حماية الشعب YPG.

الغريب في الأمر ، أن وسائل الاعلام بما فيها تلك التي تمثل المعارضة بفضائياتها والناطقين الاعلاميين باسمها لم تلتفت إلى الحقائق سالفة الذكر ، بل وهمشتها على مدار قرابة ثلاثة أعوام مضت من عمر الثورة السورية.

من جانب آخر ، واصل الكُـرد ومن خلال مجلسيهم الوطني الكردي وشعب غرب كردستان وعنوانهما السياسي الأبرز ( الهيئة الكردية العليا ) إصرارهم على التمسك الثابت بخيار الحل السياسي السلمي للأزمة السورية ، ودعوتهم الصادقة إلى وقف دوامة العنف والقتل قبل أي اعتبار آخر ، محمّلين النظام المسؤولية الأساس في ما حصل ويحصل ، ومشيرين بوضوح منذ البداية إلى مخاطر تفشي واتساع دور الاسلام السياسي المتشدد وخصوصاً الانتشار الميداني لقوى التكفير والتفجير بمختلف تشكيلاتها المتناغمة مع والمرتبطة بشبكات تنظيم القاعدة الإرهابي العالمي.

فمنذ عقود وإلى اليوم ، لم يهدأ بال للأكراد ، وخصوصاً منذ استلاء نظام البعث على دست الحكم في دمشق 1963 ومن قبله أيضاً ، وذلك جراء انتهاج الحكومات المتعاقبة سياسة الاضطهاد القومي والتمييز العنصري والإهمال المتعمد في مجالات التنمية وتوفير فرص العمل في المناطق الكردية من شمال سوريا ، إلا أنهم كانوا مدركين تماماً ومنذ بداية حراكهم السياسي المنظم في 1957 أن مصيرهم مرتبط مع كيان سوريا الشعب والوطن والدولة ، وأنه كلما توفر مناخ ديمقراطي كلما ساعد ذلك في حل قضيتهم القومية ، والحد من المظلومية التي يعيشونها ، إلا أنهم كلما دعوا إلى المساواة في المواطنة واستعادة الجنسية التي جرد منها الكثيرون ، كلما جوبهوا بتهمة الانفصالية ، وكلما رفعوا شعار ( الحرية للمعتقلين السياسيين في سجون سوريا ) واحترام حقوق الانسان ، كلما اتهموا بالعدائية ، وكلما طالبوا التعلم بلغتهم الأم ، كلما نعتوا بالإساءة إلى العروبة ووحـدة البلاد ، فكان خيارهم الموضوعي والطبيعي هو خيار المعارضة الديمقراطية بعيداً كل البعد عن لغة العنف أو استسهال حمل السلاح في وجه الدولة ، بصرف النظر عن إعوجاج نظامها وفساد حكوماتها ، وذلك بخلاف البعض من المعارضة وخاصة جماعات الإسلام السياسي ، تلك التي سوّغت وتسوغ العنف مدعيةً بأن الأزمة – القضية في سوريا ( لا تحل إلا بالقوة … ) ، مما حمل أكراد سوريا عموماً إلى التحفظ إزاء هكذا توجه ونوايا كشفها تماماً وصرح بها أكثر من مراقب عام ومرشد إخواني .

 إن نبذ أكراد سوريا للعنف أو الرهان على الخارج ، دفع بالبعض ذوي النفوذ من المعارضة السورية إلى التحامل عليهم ، وبذل جهود كبيرة متشعبة ومتواصلة للنيل من حراكهم وتآلف ووحـدة صفوفهم ، وتسخير ماكنة الإعلام والدعاية لتشويه صورتهم  لدى الرأي العام ، للإيحاء بأنهم أي الكُرد ، وخصوصاً الفصيل الفلاني منهم ، يشكلون عائقاً وخطراً على وحـدة وسلامة سوريا وطموحات أهلها وثورتها في الحرية والكرامة ، حيث يلتقي هذا التوجه الشوفيني لدى البعض من المعارضة مع سياسات النظام الممنهجة وألاعيبه الكثيرة ، فيظهر وجهان لعملة جديدة تفوح منها رائحة الاستعلاء القومي والعنصرية ، يجري الترويج لها عبر أدوات وإخطبوط إعلامي تقف وراءها أكثر من دولة وجهة على الصعيد الإقليمي .

التراجيديا الكردية في المنطقة فيما مضى تجسد جانب منها بتوصيف أكراد العراق بأنهم ( عصاة متمردون ، قطاع طرق ، إنفصاليون ، جيب عميل في الشمال … الخ ) وزعيمهم الملا مصطفى البارزاني هو ( ملا أحمر ، شيوعي ورجل السافاك … ) ، فلم تبقى مفردة نابية في قواميس العربية إلا وحاولوا إلصاقها بقادة ورموز الكفاح التحرري الكردي ، مع معزوفة ( كلنا إخوة في الدين والوطن وأنتم أحفاد صلاح الدين … أما أولئك النفر من المتمردين فهم الأعداء ويجب القصاص منهم ) ، وكذلك الحال مع أكراد إيران سواء في عهد الشاه أو آيات الله ، وليشهد وقتنا المعاصر ومنذ ثلاثة عقود ونيف حملات إعلامية تركية قديمة تتجدد بين حين وآخر وكلها تصب في خانة طمس القضية الكردية في تركيا وتوصيف كفاح الشعب الكردي هناك الذي يقارب تعداده الـ /20/ مليون نسمة بالقول أن ( لاوجود لقضية كردية بل ثمة مشكلة مع حزب العمال الكردستاني ) ، وهنا يجدر التذكير بدرجة الصفاقة والفبركة التي انزلقت إليها بعض وسائل الإعلام – قبل أعوام خلت – عندما حاولت إلصاق جريمة اغتيال الشخصية العالمية أولف بالمه بحزب العمال الكردستاني وزعيمه السيد عبد الله أوجلان الذي لايزال معتقلاً في سجن انفرادي في جزيرة إيمرالي منذ 15 عام  ، وكذلك ربط وإلصاق محاولة اغتيال بابا الفاتيكان بالسيد تسليم تـوره – المفكر الذي اضطر مؤخراً للاغتراب تجنباً للعسف القضائي في بلده .

ما تشهده سوريا اليوم ومنذ قرابة أعوام ثلاثة تنطبق عليه صفة تراجيديا العصر من حيث كارثية الحالة الإنسانية ، فالمرصد السوري لحقوق الإنسان – له مصداقيته – يؤكد بأن عدد القتلى بلغ /140000/ مائة وأربعون ألف من بينهم /7000/ طفل , أما الجرحى والمعاقين فحدث ولا حرج , ملايين السوريين نزحوا وهجروا من منازلهم , مئات الألوف من الخيم المنصوبة في أراضي دول الجوار تكتظ باللاجئين السوريين ليكابدوا عذابات الذل والغربة , ناهيك عن البرد القارص .. ومنهم من في العراء !!

حدائق حلب وغيرها من المدن تحولت إلى مقابر بلا شواهد , .. وجثامين الكثير الكثير من السوريين لا تزال تحت أنقاض الأبنية المدمرة تتفسخ وتتحول إلى جثث ,.. هذا جانب من توحش نظام البعث في المضي بخياره الأمني العسكري مع شعبه , والذي يأبى الإصغاء إلى رأي آخر , فيبيح كل شيء بغية بقائه في الحكم واستئثاره بالسلطة ، مصابا بفايروس الغرور بلا أدنى شك , تقابله معارضة سياسية غبر متآلفة ومشتتة , وأخرى مسلحة تطغى عليها ( فتاوى شريعة ) يطلقها أمراء كثر ليس للشعب السوري فيها ناقة أو جمل , فتخرج ثورة الشعب عن مسارها , تلك الثورة ـ الانتفاضة التي أطلقها أطفال درعا الجريحة طلباً للحرية والكرامة .

لقد بات الشعب السوري منهكاً ـ ولا نفع للوعود ـ يبحث عن مقومات الحياة أساساً ، وإيقاف صناعة الموت أولاً , ومن ثم ليطرق ممثلوه أبواب مرحلة جديدة فيها تحولٌ نوعي للانتقال إلى سوريا جديدة ونظام حكم جديد , ومن هنا كان قرار موافقة الإخوة في قيادة الائتلاف المعارض بفتح الحوار والتفاوض مع النظام والجلوس مع وفده  للتباحث ، وإن كان ذلك بإيحاء ودفع واضحين من الولايات المتحدة الشريكة مع روسيا الاتحادية في رعاية المؤتمر الدولي وترتيبات العمل باتجاه إيجاد حل سياسي للأزمة السورية .

الشعب السوري في يومنا هذا ، بات شأنه شأن شعب كردستان العراق إبان حكم نظام البعث في بغداد الذي لم يتردد في قصف الكرد بالسلاح الكيميائي ( 16ـ 18/3/1988 مدينة حلبجة وغيرها ) وراح ضحيته بين ليلة وضحاها أكثر من خمسة آلاف قتيل وضعف ذلك جرحى ومشوهين …. وكذلك حملات الأنفال الظالمة التي شرد على إثرها مئات الألوف وقتل عشرات الألوف من الكرد , ثمانية آلاف فقط من البارزانيين , ولم يحرك العالم الاسلامي والمجتمع الدولي ساكناً ,.. وفي حينها أيضاً , جميع المناشدات وتقديم أوراق الوثائق والصور لم تجد نفعاً , فأضحى جلياً للساسة والقادة الكرد أن صب اللوم على الأسرة الدولية وشتم الروس والأمريكان دليل عجز وقصور في فهم محددات السياسة الدولية ومصالح الشركات عابرة القارات .

مؤشرات البوصلة كما تبدو , توحي بأن لا تقدم حقيقي في مسار الحل السياسي للأزمة إلى حين : التحقق من إزالة كامل ترسانة الأسلحة الكيميائية التي يمتلكها ويسيطر عليها النظام القائم في دمشق , مروراً بما تتوصل إليه مفاوضات ملف إيران النووي (5+1) وتخفيف العقوبات المفروضة على طهران , ووصولاً إلى تحقيق اختراق في ملف مسار المفاوضات الفلسطينية ـ الاسرائيلية , مما يلوح في الأفق بأن الشغل الشاغل للثنائي الامريكي ـ الروسي في هذه المرحلة , هو إحراز نجاحات في تناول هذه الملفات الثلاث , يرافقه تعايش مع استمرار تفاقم الأزمة ودوامة العنف في أرجاء الجغرافية السورية , ومزيد في انهاك مؤسسات الدولة والمجتمع , لتنتعش في ظلاله شبكات تنظيم القاعدة وإماراتها ( الاسلامية ) , لتتم معالجتها في وقتٍ لاحق .

فهل يبقى الشغل الشاغل لأطر وأحزاب المعارضة هو التعلق في البحث عن شحنة أسلحة ومال ، والرهان على تصريحات دول العالم الصديقة ، وفاعلية حكومة السيد طعمة ومن قبلها السيد هيتو , والتي يبدو أن لا محل لها من الإعراب في الداخل السوري ومسارات الوضع ؟! ، أم ستبادر ـ دون تلكؤ أو اشتراط ـ إلى التلاقي والتشاور ، في ضوء المعطيات وما هو جديد , بهدف بلورة ما هو ممكن عمله والاتفاق عليه ؟! ، وهنا من الأهمية التاريخية الوقوف عند دعوة جمهورية مصر التي أفصح عنها وزير خارجيتها في كلمته المعبرة لدى افتتاح المؤتمر الدولي جنيف 2 , … لتبقى الأولوية تكمن في تضافر الجهود البناءة لتناول الحالة الإسعافية ، بهدف توفير مقومات الحياة ، عبر الاستجابة للحد الأدنى من مطلب الشعب السوري المتجسد اليوم في حمل النظام القائم على :

1ـ الإفراج عن آلاف المعتقلين وخصوصاً النساء والشيوخ والمرضى ونقل الجرحى وضمان سلامتهم .

2ـ فك الحصار عن جميع المدن والمناطق السكنية وضمان إيصال المواد الغذائية والأدوية إليها .

3ـ وقف القصف الجوي والبري ضد التجمعات السكنية وضمان سلامة الطرقات والتنقل .

إن المشهد السوري لم يعد يحتمل سجالات سياسية وانزلاق في ترف نظري أو إدلاء تصريحات لا مسؤولة تصلح لظهور تلفزيوني قد تنتج نجومية صالحة للعرض والاستهلاك ليس إلا . فالتهافت واللهاث وراء تحقيق حسم عسكري على الساحة السورية بات أمراً عبثيا منذ زمن , ولا بديل عن حل سياسي ـ سلمي للأزمة رغم الاستعصاءات والمناخات السلبية ، ومن السذاجة أن يعتبر البعض أو ينظر إلى الحضور الكردي بمثابة ( ورقة ) في جيب وليد المعلم أو أحمد الجربا مع حفظ الألقاب ,.. أما كيل التهم ضد أكراد سوريا ونعتهم بالانفصاليين أو الاستكثار عليهم بالدفاع عن قراهم ومناطقهم وإدارة شؤونهم الذاتية بأنفسهم في هكذا مرحلة استثنائية , فإنه اسطوانة قديمة باتت مشروخة . ويعرف الجميع أن أكراد سوريا على مسافة واحدة من جميع الأديان والطوائف والمعتقدات وأن حضورهم المنظم الفاعل والمنتشر في جميع مناطقهم التاريخية من شمال سوريا يشكل رافعة وطنية حقيقية وسنداً قوياً لجميع القوى الديمقراطية والخيرة التي تتوق إلى السلم والحرية والمساواة .

عفرين ـ سوريا 18 / 2 / 2014

————————————-

* سكرتير حزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا ( يكيتي ) .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى