سعاد جروسصفحات سورية

أطلق عليّ رصاصك وكن دقيقا في التسديد


سعاد جروس

أشهر ثلاثة مرت .. قلت وأنا أعاين وجهي في المرآة صباحا، بدا لي غريبا، منذ ثلاثة أشهر لم أر وجهي، يبدو لي غريباً. هل هذا أنا؟! للحظة شككت في أن يكون هذا الوجه لي، لا لجارتي في الشقة المقابلة، التي نادراً ما أراها .. انتابتني ضحكة، تذكرت نكتة الحمصي الذي تساءل أمام المرآة، أين سبق ورأيت هذا الوجه؟ هل أصبت بشيزوفرينيا؟ ربما.

يوم أمس زارتني صديقة مضى على آخر لقاء بيننا عدة سنوات مع أنها تسكن على الطرف المقابل من الشارع، لم نفكر خلالها بتبادل الزيارات بيننا، كل واحدة منا لها اهتمامات وآراء مختلفة، ونمط حياة مختلف تماماً، يجمعنا تبادل إعجاب صادق، هي تقول إنها معجبة بكتاباتي، وأنا معجبة بإصرارها على تطوير نفسها وإصرارها على متابعة دراستها الأكاديمية رغم زواجها المبكر جداً في سن 14. ومع أنها أنجبت أربعة أولاد، نالت الشهادة الإعدادية والثانوية والجامعية، واليوم تزيد حصيلتها في إتقان اللغات الأجنبية وتترجم وتكتب للصحافة إلى جانب عملها في مؤسسة حكومية. كل ذلك جعلني معجبة جداً بها، دون أن يشكل هذا الإعجاب أساساً لتوطيد علاقة شخصية بها.

فوجئت بها تطرق بابي. كانت مذعورة. بادرتني قائلة إنها لم تجد من تذهب إليه لتبوح بما يتزاحم في رأسها، ويطفح من قلبها. ..

ـ سلامة قلبك بماذا تشعري؟ سألتها باستغراب.

بدت لي زيارتها خارج سياق حياتي المضبوط على إيقاع الأحداث اليومية المتدفقة من نشرات الأخبار التلفزيونية وتحديثات (الفيس بوك).

قالت: اشعر أني مصابة بشيزوفرينا.

تعجبت، فاجأتني بشعورها، كأنه أصابتنا عدوى سارية خفية تعم البلد.

وراحت كلماتها تنهمر كالمطر من فمها: أكون جالسة في مكتبي أمارس عملي بشكل طبيعي، فجأة يخطر ببالي أن أحداً تخترق رأسه رصاصة، أو أن أماً تلطم وجهها وتنوح لا تعرف مصير أبنائها. أو أسرة محاصرة أضناها العطش، وربما جريح ملقى في الشارع يصعب إسعافه، أو أب فقد ابنه بينما يهمون باعتقاله، أو أطفال فاجئهم رصاص أعمى .. أو .. أو .. أو .. صور مرعبة تخطر لي، وأقول لنفسي كيف أجلس في مكتب وثير ومكيف واشرب ماءً بارداً وأمارس عملي، وأعود إلى البيت وأتناول الطعام مع زوجي وأولادي، وكأن شيئا لا يحصل. تصمت برهة وتتابع، عندما أكون في طريقي إلى البيت، أحدث نفسي، ترى ما الذي يخبئه التلفزيون اليوم لي. وبمجرد تشغيله تنهال عليّ الفظائع من الشاشة!! هل هذا يحصل حقاً في بلادنا. انظر حولي فلا أرى شيئا .. أقول ربما أكاذيب. أعود فأقول لا ليست أكاذيب؛ زميلتي في العمل قتل شقيقها يوم الجمعة في مظاهرات خرجت في ريف دمشق، وجاءت إلى العمل اليوم، ولم يجرؤ أحد على تقديم العزاء لها جهاراً. الذين تعاطفوا معها ضمناً افتعلوا مناسبة للدخول إلى مكتبها ومواساتها همساً. كانت حزينة جداً، تخفي دموعها، ولا ترفع عينيها. كم شعرنا بالخزي والخوف؟

لماذا الخوف؟! سألتها.

تنتفض في مكانها، أنت لا تعلمين كم الأجواء محتقنة في أماكن العمل، لا يمكن التفوه بكلمة، لئلا نؤذي من حيث لا ندري شخصاً ما، أو نستفز آخر لينفجر كقنبلة موقوتة .. تنهي كلامها أخشى أن أصاب بالجنون، إن لم أكن قد أصبت به .. هل أبدو وكأنني أهلوس؟

بعد أن غادرت، فهمت لماذا زارتني، بما أنني كاتبة بامكاني أن أتفهمها من دون استفزاز، من دون استنكار، وإنما سأتعاطف معها. لم تأت إلا بعدما قرأت مقالاتي، ربما شعرت من خلالها أن بامكاني تقبل “هذيانها” غير المترابط.

قد أكون أفلحت في استماعي إليها بهدوء، وإعادة صياغة “هذيانها” وجعله مترابطاً. لكني لم أكن على هذا النحو عندما اتصل بي صديق ليخبرني انه قرر مع عائلته مغادرة البلاد بسبب الاضطرابات، طالباً أن اطل على منزلهم بين فترة وأخرى.

سألته بتوتر شديد، وكأنه جاء دوري بالهلوسة: لم كل هذا الذعر؟ لماذا تبالغون بأوهامكم، سوريا بألف خير. غضبت واتهمته وأمثاله بافتعال الأزمة وتضخيمها.

رده جاء أعنف مما توقعت: ألا تسمعين بالقتل الجاري هنا وهناك؟ عدد القتلى في ازدياد يومياً ومن دون توقف، بالعشرات والمئات. عصابات مسلحة وتنظيمات إرهابية، جماعات سلفية ،مندسين ومخربين، ومحاولات بث الفتنة الطائفية … ألا تسمعين أم أصابك الطرش؟!

اختزلت المكالمة سريعاً، وتمنيت له أن يكون سفره مناسبة لتقنين متابعته لوسائل الإعلام المحلية، والعودة إلى قراءة التاريخ والتوقف مليا ًعند مرحلة الاستقلال الأول والثاني، علّ ذلك يفيده في استعادة الثقة بالعقل السوري.

” عقل عمره آلاف السنين من الحضارة، افهم هذا” تلك كانت خاتمة الاتصال.

مساءً، التقيت مع مجموعة من الأصدقاء في مكتب زميل لنا وسط البلد قريبا من ساحة عرنوس؛ كتاب وشعراء وصحافيين شباب من طوائف متنوعة ومدن مختلفة، يجمعنا هم الكتابة والوطن، لكل منا موقفه ورؤيته السياسية المختلفة عن الآخر. تحدثنا طويلاً .. تشاجرنا وعلا صراخنا.. وتناوبنا على ضرب الطاولة حنقاً وغضباً، دون أن يقنع أحدنا الآخر، ولم نهمل تبادل النكات والسخرية لتخفيف حدة المواجهات ليقيننا بأن كل تحليلاتنا ستبقى قاصرة طالما لا يمتلك أي منا نظرة متكاملة لما يجري، ولا نثق تماماً بمصداقية ما يذكره كل واحد منا عما يرده من أحداث تدور في منطقته.

انتهى اللقاء إلى اعتراف ضمني، لا أحد منا يعرف حقيقة ما يجري. أحدنا ختم الجلسة ساخراً، مؤكداً على جهلنا: في هذه اللحظة قد تكون هناك مظاهرة في الشارع حيث نحن الآن، ولا ندري بها. بينما نحن نتناقش، قد يكون هناك عناصر الأمن يلاحقون المتظاهرين، ويشحطونهم ويركلونهم..

خرجت من اللقاء وكانت الساعة السادسة .. تمشيت لغاية ساحة عرنوس وسط دمشق، جلست في الحديقة عدة دقائق ثم مضيت إلى البيت. بعد نحو ساعتين تماماً، دخلت موقع (يوتيوب) وإذ بي أشاهد فيلماً عن مظاهرة خرجت في ساحة عرنوس!

هل كان صديقنا على علم مسبق بها؟

مقطع الفيديو يوضح إنها حصلت الساعة السابعة مساء، ويظهر رجال الأمن وهم يلاحقون ويعتقلونالمشاركين الذين أدركوهم في شارع سوق الصالحية، يدفعونهم بقسوة، ويدكونهم دكاً في سيارة فان، ويبدو في الفيديو رجل ضخم داخل السيارة يقوم بضرب المعتقلين.

إنه الشارع الذي كنت فيه قبل ساعتين!! فهل هذا حصل؟ أقول لنفسي. أجيب: نعم حصل، ولكن بلمح البصر، المظاهرات في بلادنا اختلاجات سريعة ومتوترة، في مخاض متعثر، فجأة تخرج المظاهرة في الأماكن ذات التواجد الأمني الكثيف، تمزق السكون وتتلاشى. يطلق عليها الناشطون “مظاهرات طيارة” مصطلح مبتكر، سوري بامتياز.

في كل العالم تستمر المظاهرات زمناً يكفي كي تؤدي الغرض منها، إلا في دمشق وبعض المدن السورية حيث التشديد الأمني، تخرج مظاهرات طيارة .. حتى الجنازات صارت طيارة… كل شيء في بلادي تغير.

مساء الخميس اتصلت بصديق، وطلبت منه تنظيم رحلة يوم الجمعة، اليوم المعتاد للـ(سيارين) الدمشقية، في هذا اليوم نادراً ما تجد دمشقياً في منزله، الجميع يتجهون إلى المنتزهات والمقاصف يقضون يومهم هناك. كان بقائي في المنزل أيام الجمع طوال الأشهر الثلاث الاخيرة من أجل متابعة الأخبار، قد أضجرني، رجوته: ما رأيك أن نخرج غداً الجمعة لتناول الفطور في مكان ما خارج المدينة مع عدد من الأصدقاء ؟

صديقي العلماني، لا بل الملحد اعتذر مني قائلاً: يوم الجمعة!! لا أستطيع، سأذهب إلى الصلاة. لنؤجل المشروع إلى يوم آخر!!

نعمة الإيمان الجديد التي هبطت على الكثير من السوريين، كانت أصابتني عدواها وها أنا سأصلي الجمعة، ككل جمعة في البيت أمام التلفزيون، وسأرتل أسماء مدن وأحياء وقرى بلادي وأكتبها على ” الشمس اللي ما بتغيب”.. كل جمعة هناك أسماء أسمع بها لأول مرة . وكالعادة سيرن الهاتف ليسألني أصدقاء من محافظات عدة وكأني أستاذة في الجغرافية: أين تقع الجيزة قرية الطفل حمزة؟ أين تقع بلدة تل الشور؟ أين تقع تير معلة … أين تقع بلدة بداما؟ وأين وأين .. أسماؤك يا بلادي سفر تكوين.. تعيد تكوينك من جديد، تكتب وجهك كقصيدة بأحرف مدماة ..

أهرع إلى خرائط المحافظات المتناثرة حولي، اشتريتها منذ أسابيع ولم أجد لها مكانا على الجدران، افرد خريطة سوريا وابحث عن اسم جديد ظهر في وسائل الإعلام كأنه نبت مؤخراً، وأصبح خلال الخبر، قرية أو مدينة، ألاحقها وأحاول أن أسبق خط مسير الدبابات إليها، من الجنوب إلى وسط البلاد وصولاً إلى الساحل ومن ثم إلى الغرب أو إلى الشمال، وأيضا إلى الشرق .. أتساءل، ترى هل لدى جيشنا عدد من الدبابات يكفي لتغطية كل البلاد؟ مواطن ظريف من محافظتي حمص، ناشد السلطة عبر تلفزيون محلي، إرسال مزيد من الدبابات إلى الشارع الذي يسكن فيه لأن أربع دبابات لا تكفي لمنحه الأمان.. ! ترى كم تحتاج قرى وبلدات ومدن بلادي؟!

مساء الجمعة خرجت لزيارة زميلتي الصحافية ابنة المناضل المتقاعد. لأول مرة يأتي لمجالستنا. في السنوات الماضية كان ينظر إلينا كجيل عاثر الحظ يستحق الشفقة. يلقي التحية علينا وينكفئ في غرفته يقرأ الصحف. آخر مرة اذكر أني رأيته في الخريف الماضي، بدا لي حينها عجوزا محبطاً جداً، كشجرة توت هرمة شربت ملحا.. تيبس حتى جذعها. حينها أخبرتني ابنته أن لا هم له سوى أن يعجل الله في إنهاء حياته.

عرف أبوها كل أنواع النضال والعمل السياسي السري منه والعلني، الفدائي والمسلح، وخاض معارك ومغامرات كادت تودي بحياته أكثر من مرة، ثم مارس العمل السياسي من خلال حزب تآكل مع مرور الزمن. مع نهاية عام 2010 كان قد فقد الأمل بنهضة الأمة العربية عدة مرات. واعتبر كل تضحيات جيله ذهبت هباء منثوراً.

في المطبخ ونحن نعد القهوة قلت لها والدك يبدو وكأنه عاد عشرين عاماً إلى الوراء، ارتد إليه نشاطه، لمعت عيناه وتورد خداه ..

ردت ممازحة: أأبحث له عن عروس؟ وأردفت بلهجة جدية: عندما هبت ثورة تونس استعاد عشر سنوات من عمره. لكن فرحته بثورة مصر أعادت إليه حيوية الشباب، طيلة النهار يتكلم عن نضالاته وذكرياته في العمل السري وتنظيم المظاهرات.. يتحدث ولا يمل.

الأب المناضل عاد عن تقاعده وجلس معنا يناقشنا في السيناريوهات المحتملة، ولا يسمح لنا بالتعليق إلا حين يأخذ نفساً، لا يصيبه التعب ولا يوفر الفرصة ليتهمنا بالرعونة في التحليل، وعدم امتلاك رؤية سياسية ناضجة دون أن يخفي إعجابه بمعجزة الشباب العربي الذي نهض من تحت الرماد. كان بين فكرة وأخرى يكرر لازمة “من كان يصدق أن يحصل هذا”.

لدى عودتي إلى البيت وجدت ورقة معلقة في مدخل البناء؛ تنبيه من البلدية، بضرورة إحكام إغلاق باب البناء وباب السطح. تنبيه سبق ووزع في أماكن ومناطق عدة، بعدما تردد عن أن قناصة أو مسلحين غرباء يتسللون إلى الأسطح ليقوموا باصطياد المارة وبث الفوضى.

للحظة .. تخيلت القناصة يقتحمون البناء ويحتلون السطح ويقتلون المارة، ثم ينزلون ويحكمون باب بيتي ويصوبون أسلحتهم نحوي… مشهد من فيلم أكشن أمريكي، لم ترق لي يوماً مشاهدة هذه الأفلام. نفضت رأسي من المنظر وخرجت منه سالمة. ترى هل يمكن أن يصل القناصة إلى هذا الحي الواقع وسط العاصمة حيث الكثافة الأكبر للشرطة والأمن؟ استبعدت ذلك. صعدت السلم وأنا أتلو على نفسي بيان ينطق باسمي:

أنا ابنة هذه البلاد ..هذه الأرض .. لست طارئة عليها، ولا عابرة فيها .. هذه البلاد هي أنا، والوجه الذي رأيته في المرآة اليوم هو وجهي، وإن بدا لي أنه تغير .. أنا ابنة هذا الزمان وجذوري في هذا المكان، لست لاجئة ، أنا هو الوطن والمواطن..

لن أنتظر القناص ليأتي إلى قلب مدينتي، سأذهب أنا إليه، سأصوب عينيّ نحو عينيه، وأقول له أطلق عليّ رصاصك. وكن دقيقا في التسديد، أريد رصاصاً قاتلاً، يصيب هدفه في الرأس أو القلب تماماً، اقتلني… وأعدك أن تنبت أغصاني قبل الفجر، و أوراقي الندية المعمدة بالدمع والدم ستكون أكثر اخضرار.

زمان الوصل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى