صفحات الثقافة

أكتبُ كمن يحكي حياته لرفيق/ محمد بنميلود*

 

الحربْ

الأرملةُ الجميلةُ تُحرّك العصيرَ بالملعقةْ، السُّكَّرُ يستسلم ويذوب في دباديب العصيرْ، الكأسُ مُتَحَرِّقَةٌ للقُبل، الملعقة تغتنم الفرصة لتلحس الحلاوة، النّافذة كبيرة ومفتوحة كحضن، الشّمس تستريح قليلاً فوق أسلاك الغسيل، سوتيان الأرملة ورديّ، ضوء الشّمس يملأ مكان النّهدين، الأشياء تدخل عارية في الأشياء، الأرض لم يتغيّر حجمها يوماً، طولها هو طولها، وعرضها هو عرضها، والرّجال ماتوا في الحرب لأجل لا شيء.

زكام

أتقلَّبُ فيكِ كَوَعْلٍ جريحٍ ساقطٍ من جُرفْ، أضاجعكِ كالبردِ القارسْ، كلّما كنتِ وحيدةً أكثرْ، وحزينة أكثرْ، ومبتردةً من الدّاخلْ، أكونُ أعمقَ في أعماقكِ، بارداً أكثر منكِ. كلّما دخلتِ أكثرَ في غطاء الصُّوف كَكُوز الذُّرة الشّقراءْ، دخلتُ أكثر في مسامكِ كسنبلة في كُمِّ الحصَّادةْ. تسعلينني من سحيقِ روحكِ، ترتعشين لسماع اسمي المتجمِّدْ. أنا زُكامُ حياتكِ الحزينْ، حتّى في الصّيف المشرق الجميلِ، حين تتفتّح أزهار عَبَّادِ الشّمس على التَّلَّة، كمظلاّت الرّاقصات، حين تكون تنُّورتكِ الصفراءُ قصيرةً كعمركِ، حين تشتاقين كثيراً للحبّ، أجيئك كالغريب الوسيم بلا حصان، في هيئة نزلةِ بردٍ مميتةْ.

أنتِ ترتعشينَ طيلةَ حياتكِ، وأنا أدفئك بالحُمّى.

 

كمن يحكي حياته لرفيق

 

أنا شاعر من الطبقة الغاضبة

من العمال المسرّحين من الخدمة

والجنود الذين يكرهون الجنرالات

والنجارين الذين لا يملكون ورشة ولا أدوات نجارة

واليساريين المتطرفين الذين أنهكت الزنازين السرية أجسادهم

ولم تنهك أرواحهم

والمهندسين المدمنين على المشروب والمهدئات

المهندسين النحيفين الانطوائيين

الذين بلا عائلة

يتركون رسومات العمارات تنهدم في الورق الشاسع

فوق حياتهم البئيسة

وينزوون في نظرة عصابية

صالبين سواعدهم حول سيقانهم كالأسرى

كي يهندسوا مبنى عالياً ونحيفاً من ألمنيوم الفضاء

بمشنقة ناعمة للعالم

كجديلة المومس

أنا شاعر من أولئك الرجال الصموتين

الكتومين

الميؤوس منهم

ذوي العيون الصغيرة المريبة

والنوايا الغامضة

أكره الفلسفة والفلاسفة والمثقفين

والشعر البطولي

واللّفّ الكثير والدوران قبل قول الحقيقة

كلامي مسنن وواضح كرمية النبال

وحياتي قصيرة وسريعة كالطريدة

لا أحب الميتافيزيقيا

ولا أرتاح كثيراً لرفقة الملائكة في طريق بعيد

ولا في غابة

حين أرى السماء

فأنا أرى السماء

سحب وغمام وطيور مهاجرة وطائرات حرب

لا أرى شيئا آخر غير مرئي

وحين أكتب الشعر

فأنا أكتب الشعر

كمن يحكي حياته لرفيقْ

حياته التي كانت حذرة ككلبة حبلى

في أحياء الصفيح العملاقة

حيث التهوية سيئة والبنات جميلات

والسرقات مشاعة بين الناس كالنصائح

ومن هناك

الشّرَف يطلّ بجبن على الزقاق المظلم الخطير

فيعود أدراجه مدحوراً إلى مدن الفضيلة

حياتي السيئة

التي كانت بين عمال مسرّحين من الخدمة دون معاش

وجنود يكرهون الجنرالات

ونجارين أصحاب نكتة لا يملكون ورشة ولا أدوات نجارة

ويساريين متطرفين أنهكت الزنازين السرية أجسادهم

ولم تنهك أرواحهم

ومهندسين وسيمين

انتحروا

نشرب الشاي البارد من كأس واحدة

وأنا أحكي لك حياتي يا رفيقْ

كأني

أكتب الشعر.

 

رقم 04

 

أسكن في حيّ شعبيّ

ضاجّ بالأطفال والباعة ومصلّحي الرّوبابيكيا

ومشتري المتلاشيات

والكوّايين الجوّالين

والبرّاحين

وثقَّابِي آذان البنات الصّغيرات بماكينة يدويّة غير مرخّصة

من أجل أقراط جميلة وَفَالْصُو

رقم بيتي هو 04

قبالة بيت أرملة مشلولة

لا تخرج لترى ضوء النّهار إلاّ نادراً

محمولة على عربة

أساعد أحياناً على حملها مع شباب الحيّ العاطلين

إلى الشّارع المحفّر

ثم كلّ مرّة يدفع بها العربة

متطوّعٌ جديد.

في الصّباح

توقظني عصافير الدُّوريّ غير الملوّنة

وماكينة ورشة حِدادة ليست بعيدة

قرقعة ناعمة للحديد على الرّصيف المقابل

هي ما يوقظني

الحلاّق أيضاً يحبّ رفع صوت المسجلة إلى أقصاها

كي يسمع الجميع القرآن بصوت عبد الباسط

إذ لا أحد يحلق شعره في الصّباح الباكر

أنا لا يزعجني ذلك

بل أجد صوت عبد الباسط هو الأفضل

إضافة إلى صوت سيّد مكّاوي

خصوصًا في الصّباح

عند الحلاّقين.

أطعم الدُّوريّات من قمح كتاكيت أمّي

وأكتب الشّعر العاقّ كل يوم.

أمدح بالأشعار الطّويلة عمّي المنسيّ

الّذي كان إسكافيّاً ذا شأن في ما مضى

وبنّاء مداخن عالية

أمجّده علناً في كلّ ما أكتب

وأهجو الملوك والسّلاطين والأبطال

لسبب ما

ودون سبب.

والآن

إن كنتم تريدون قتلي

فها أنتم تعرفون عنّي كلّ شيء

وتعرفون الرّقم 04

الّذي هو رقم بيتي

في الحيّ الشّعبيّ الخطير

المزدان بالجريمة

حيث موت شاعر مغمور

لن يُحزن

سوى الدّوريّات.

* شاعر مغربي

 

 

 

ملحق كلمات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى