صفحات سورية

أكتب اسمك يا بلادي

 


سمير عيطة

أطلق صبيان مراهقون من درعا، ما كان يجول في خاطر الجميع ضمناً: وهو أنّه لا يمكن أن تبقى سورية بعيدة عن روح اليقظة العربيّة الحديثة التي انطلقت من تونس ومصر. لقد تأثّروا بما سمعوه على الفضائيّات وكتبوا على جدار: “الشعب يريد إسقاط النظام”. ولكن ما بدأ كتصرّفٍ صبياني، تحوّل إلى شرارة كتلك التي أطلقها محمّد البوعزيزي. اعتقلت قوّات الأمن المراهقين، وتعاملت معهم بقسوة، ثم تعاملت مع أهلهم بقسوة أكبر وبالنار. هذا كان كافياً لانطلاق “انتفاضة” كرامة في درعا وحوران، قمعت بشكلٍ دامٍ ليل أربعاء مظلم، وتجرّأ الكثيرون في سورية يوم الجمعة التالية على التظاهر لنصرتها.

في الحقيقة، تلبّدت الغيوم سوداء في سورية كلّها منذ صباح الخميس، عندما عرف الناس الثمن الذي دفعته حوران. وكان الصمت الثقيل كافياً كي تظهر الناطقة الرسميّة السوريّة وتعلن أنّ هناك “مطالب محقّة”، ولتعلن قرارات من القيادة القطريّة أقلّ ما يقال أنّها لم تكن على مستوى الحدث (وعود فقط بحريّات وبإلغاء قانون الطوارئ، وبعض التقديمات للموظفين الحكوميين وحدهم، معظمها أصلاً قرارات مأخوذة سابقاً). مع ذلك يبقى الحدث الهام هو أنّ السلطة في سورية اعترفت للمرّة الأولى أنّ “الشعب السوري يريد…”.

أهمّ نقطة جوهريّة بين أحداث درعا وموقف السلطة هذا، أنّ الإشكاليّة تكمن في مصداقيّة أيّ إعلان عن احترام الإرادة الشعبيّة. فهذه المصداقية تحتوي ضمناً تغيّراً أساسيّاً في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين الأجهزة الأمنيّة وكافّة الشعب: وهو احترام حريّة الرأي والتعبير كحقّ أساسيّ مصان. بمعنى أنّه لو قام صبيان آخرون، أو بالغون، وكتبوا هكذا على جدار، ألاّ يؤخذ الأمر بأكثر ممّا هو: تعبير عن رأي…. هذا يتطلّب انقلاباً صميميّاً، يجعل مجرّد تحصيل حاصل إطلاق سراح معتقلي الرأي من متظاهري ساحة المرجة في دمشق، وطلّ الملوحي، وغيرهم؛ ليس كمنّة انتقائيّة، ونتيجة ضغوط حكومات أو سفارات أجنبيّة، بل لأنّه لا يمكن اعتقال أيّ شخص دون توجيه تهمة إليه من قبل قضاء مستقلّ. وإذا تمّ هذا التغيير-الانقلاب في الأيّام القليلة القادمة، فهذا يعني أنّ دماء شهداء حوران، ثمّ الصنمين واللاذقيّة وغيرهم، لم تذهب هدراً.

النقطة الجوهريّة المهمّة الأخرى تكمن في الهدف من وراء حريّة التعبير والتظاهر والاعتصام، وهو الوصول إلى نظام حكمٍ مختلف، يكون المسؤولون فيه… في النهاية مسؤولين أمام الإرادة الشعبيّة، وخاضعين للمحاسبة. واللافت في هذا السياق، هو النقاط الثلاث عشر التي جاءت في افتتاحية صحيفة الأخبار اللبنانيّة [1]، القريبة من حزب الله ومن بعض أوساط السلطة في سورية، التي أبرزت مطالب “السوريين الذين يدعمون موقف النظام في المسألة العربيّة الخاصّة بالصراع مع الغرب وإسرائيل، وهم في الوقت نفسه على خلاف كبير مع آليّات حكم النظام”، والتي يشكّل الوصول إليها “فرصة ذهبيّة أمام الرئيس الأسد”. توضح هذه النقاط آليّة للانتقال إلى نظام حكم جديد تسوده التعدديّة، على أساس أحزاب تسجّل “بالعلم والخبر”، ويلغى فيه دور حزب البعث القائد ويصار للعمل على دستور جديد، وتحيّد الأجهزة الأمنية عن الأمور المدنيّة، ويتمّ إسقاط رموز “الفساد” في الاقتصاد السياسي ووضع ممتلكاتها تحت الحراسة. هكذا ببضعة أيّام ذهبت الأمور أبعد بكثير من مجرّد حريّات عامّة.

تأخذ اليقظة العربيّة منحىً مختلفاً في كلّ بلد عربي، وتتعلّم الشعوب بسرعة من تجارب تلك التي سبقتها. ليس فقط من تونس الشابي ومصر أحمد فؤاد نجم، بل أيضاً من اليمن المسلح حتّى أخمص قدميه، التي بقيت انتفاضته سلميّة ومدنيّة برغم كلّ الشهداء وكلّ المناورات، حتّى غابت المطالبة بانفصال الجنوب أمام الحلم بتحقيق مستقبل أفضل للجميع. وفي البحرين أيضاً عبرة، من حيث تدخّل قوّات أجنبيّة، وإن كانت عربيّة خليجيّة، لفضّ الاعتصام؛ فالوقت لن يلعب لمصلحة النظام القائم إذا لم يتمّ التغيير. أمّا ليبيا، فكثيرون يتحفّظون على النهج الذي اتخذته الأمور، وذلك بحمل السلاح في منطقة سقطت فيها أدوات القمع “لتحرير” المناطق الأخرى. فمهما كانت مخاطر وحصيلة قمع دمويّ لنظام مستهلك، لن تؤدّي “حرب أهلية” إلاّ إلى حصيلة أكبر من القتلى، وتدخّل قوى أجنبيّة طامعة، كي تؤول الأمور في أفضل الأحوال إلى ديموقراطية… تابعة لمن ساعد بطائراته على القيام بها.

الشعب السوري… شعب عظيم. لأنّه شعب بلدٍ كان وسيبقى دوماً أكبر من حجمه. شعبٌ لن يسمح لأحد بإثارة فتنة طائفيّة ولا أن يكون أحداً وصيّاً على مستقبله. شعب سورية 1956 هو الذي دخل الحرب لنصرة مصر لدى العدوان الثلاثي عليها. وبرلمان سوريّة التعدّدي هو الذي منح الفلسطينيين المقيمين على أراضيه نفس حقوق السوريين. وشام معاوية الشعبيّة، وليست الحكوميّة، هي التي احتضنت أهل الجنوب اللبناني وأبناء المقاومة إبّان العدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006. وشعب سورية هو الذي استقبل مليون ونصف عراقي من مختلف الأطياف، نصرة لهم ضدّ الحقد الطائفي الذي أطلقه جنون جورج والكر بوش في العراق. وشعب سورية هو الذي حمى نظامه في 2006، بالرغم من الإحباط الذي أصيب به بعد وأد “ربيع دمشق”، لحفظ بلاده ولأنّه يفضّل أن يصنع حريّاته ومستقبله هو بنفسه، سلميّاً ومدنيّاً، بدل أن يصنعهما له الخارج.

اليقظة والنهضة لا تعني في بداية الأمور سوى قلّة قليلة، لديها الشجاعة والعزّة للدفاع عن الكرامة والحقوق. وربّما لا يتخطّى عديدها أزلام السلطة المنتفعين. أمّا معظم فئات الشعب فتبقى صامتة مترقّبة، ولكن هي التي ستحسم الأمور، وستحكم على حاملي مشروع التغيير من حضاريّتهم ومن تفانيهم ومن سلميّتهم ومن مدنيّتهم من وطنيّتهم ومن نبذهم لأيّ خطاب طائفي. ستنتصر لهم إذا وجدت فيهم هذه الخصال، حتّى لو هزموا آنيّاً… فما يصنعه العرب اليوم هو تاريخ وذاكرة آخرى للأجيال القادمة.

* اقتصادي، رئيس تحرير النشرة العربية من لوموند ديبلوماتيك، ومؤّلف: Les Travailleurs Arabes Hors-La-Loi, L’Harmattan, 2011. ورئيس مجلس ادارة موقع مفهوم A Concept mafhoum, www.mafhoum.com

[1] ابراهيم الأمين: “سوريا: السباق بين الفتنة والإصلاح”، 28/3/2011؛ http://www.al-akhbar.com/node/7706

افتتاحية لوموند العربية

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى