صفحات سوريةطيب تيزيني

أما آن لليل أن ينجلي؟/ د. طيب تيزيني

 

 

منذ أن بدأت الحرب الضروس في سوريا، كنا نتساءل عما إذا كنا ننتمي لفصيلة «الإنسان العاقل» الذي يستخدم العقل للفهم والاستيعاب والتمييز بين الحق والباطل، والقتيل والقاتل، ومثل ذلك أو أشباهه. أما ما أخذ يطرح نفسه على الناس فقد نشأ ضمن ضرورات المحافظة على حياتهم، وهنا اكتشف البشر أن تحقيق وجودهم لا يكتفي باكتشاف ما يحول دون ذلك من عوائق كانت موجودة وأخرى تنشأ في سياق وجودهم الاجتماعي بعُجره وبجبره. ولكن ذلك اقتضى وجوداً حيوياً يمكن التعرف إليه واكتشاف خصائصه، إيجابية وسلبية وأخرى محايدة، ما اشترط وجود ذاكرة تختزن الخيِّر والشرير والمحايد وما قد يتحرك هنا وهناك.

وكما نلاحظ فإن نشأة تلك الذاكرة مثلت الحاضنة لكل ما يمر على الإنسان إيجاباً وسلباً، وإذا عرفنا أن تمتع البشر بمثل تلك الأخيرة، سهّل عليهم أن يضبطوا ويصنفوا ما يعيشونه، بحيث تحول هذا إلى قاع تاريخي ينطلق منه صاحبه ويستلهم ما يفيده وما لا يسيء إليه، فكان ذلك تحولاً هائلاً في مسار أولئك البشر أولاً، كما في ظهوره معياراً معرفياً عاماً وخاصاً لهم ثانياً، ومن هنا اتضح أن ذلك ظهر بمثابته «ثورة أو أعظم ثورة عرفها الفكر الغربي»، بتعبير المؤرخ الألماني ماين إكه في كتابه «نشأة النظرية التاريخية أو المذهب التاريخي» (صدر عام 1936). والأمر الذي ينبغي تصويبه ها هنا يتمثل في النظر إلى تلك الثورة بمثابتها الأعظم في الفكر الغربي، علماً أن مثل ذلك حصل خصوصاً في قطاعات الصناعة والسياسة مع القطاع الأيديولوجي الديني الإصلاحي، ناهيك عما حدث، كذلك في تواريخ شعوب أخرى، وأخيراً يجب أن نضيف إلى ذلك كله المصالح المجتمعية الطبقية والفئوية وغيرها، مثل الدينية والمذهبية والطائفية.. إلخ، التي تخترق حياة البشر وتتوغل في منظوماتهم النفسية والمعرفية والأخلاقية، لتترك آثاراً في شخصياتهم سلباً وإيجاباً.

وفي ذلك كله وتحت تأثيراته، كتلك التي تهيمن على العالم العربي الراهن، ومن ضمنه خصوصاً سوريا، يفرض السؤال التالي نفسه على السوريين جيداً، وخصوصاً منهم من تتصل مصالحه ومواقعه السياسية والاقتصادية وتكويناته الذهنية الدينية والأخلاقية وغيرها، وهو: لماذا اشتعلت الحرب؟ وألم تُعرف الأسباب أو بعضها من تلك التي أسست للحرب وجعلتها واقعاً يفرض نفسه، كان ابن خلدون ومَن قبله ومن بعده مثل فولتير وكانت وماركس وعبدالرحمن الكواكبي وكوكبة طويلة من التاريخ العالمي، قد بحثت في الحرب أسبابها وسياقاتها ونتائجها، ووصلت إلى أن غياب العدالة والإصلاح وهيمنة الظلم والاستبداد في بلد ما يمثل استفزازاً للفئات والطبقات والمجموعات المحرومة، التي تطالب بحقوقها أو بالضروري فيها اقتصاداً وتعليماً وحكماً سياسياً.

ها هنا يجب التوقف عند ضبط وتفكيك تلك الظاهرات وإخضاعها للبحث العلمي الموضوعي، إذ حينئذ سنتوقف عند منعطفات قد تؤسس مجتمعة، لخروج الناس إلى الشوارع، إن الكرامة البشرية والإصلاح الجزئي والكلي والتغيير وفق التحولات والتغيرات في الداخل والخارج، إضافة إلى ما يجعل أولئك كائنات إنسانية هي الأثمن في الوجود في وطن نال استقلاله قبل عقود كثيرة. إن ذلك جدير بأن يكون المرجعية العظمى لدى الجميع، أما أن يكون الخارج (إيران وروسيا و«حزب الله») هو المرجع، فها هنا نقول: على الدنيا السلام!

لقد خرج الناس إلى الشوارع من أجل ما يجعل منهم بشراً حقاً، ولم يكن ذلك الخروج هواية، بل أكثر من ذلك، إن ما يقوله نبض الشارع مهم للأطراف التي تؤسس للوطن ولأولئك الذين يحكمون هذا الوطن، كنا نراهن على أن تُقرأ «رسالة الخروج» إلى الشارع هذه بمثابتها حقاً وواجباً، وليس من حيث هي استفزاز وتعجيز، فلقد كان الإصلاح الوطني وما يزال من الأولويات في مرجعية البناء الوطني، فالجميع خطاؤون والجميع يحتاجون من يذكّرهم -في حمأة الحكم وصعوباته خصوصاً- بما هو معادل لوجود الوطن نفسه. لقد ألمحنا في بدايات الانهيار على أن إنجاز ما كان مطلوباً لإصلاح الوطن السوري مثّل -في حينه- وجوده المباشر، فكان ذلك بمثابة رسالة تنطلق من أعظم حل لمشكلات بلدنا، فهذا الحل إنما هو -بكلمة- حماية للوطن واستجابة لضرورات التاريخ السوري العربي، في النهاية.

الاتحاد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى