مراجعات كتب

“أما بعد”: فسيفساء الموت.. مشكال الحياة/ علاء رشيدي

 

 

أصدرت مؤسسة اتجاهات، بالتعاون مع دار ممدوح عدوان، كتاباً بعنوان “أما بعد… شهادات من فنانين وفاعلين ثقافيين مستقلين”، وهو ثمرة مشروع قدم فيه الجزيل من الجهد والإتقان لإنجاحه، تواصل القائمون على المشروع من مؤسسة اتجاهات (تحرير وائل قدور) مع عدد من الفنانين، النشطاء الثقافيين والمؤسسات الفنية الفاعلة في الإنتاج الثقافي السوري، وطُلب من كل منهم للمساهمة بمشاركة مكتوبة في كتاب يحمل موضوعته العريضة من “الوضع الثقافي والفني السوري منذ العام 2011 إلى الآن”.

وصل العدد النهائي للشهادات المشاركة إلى 83 شهادة، منها 69 مشاركة سورية، و 14 مشاركة من عدة جنسيات مختلفة. ويوضح القائمون على الكتاب الحرص الأساسي الذي عملوا عليه وهو أن تغطي المشاركات جميع القطاعات الفنية دون إستثناء، منها: الفن التشكيلي، المسرح، السينما، الأدب، والموسيقى، بالإضافة إلى شهادت متعددة من إعلاميين، ومن مؤسسي مشاريع تنمية ثقافية، ومن كتاب منظري في مجال الفكر السياسي والإجتماعي.

يحوي الكتاب 28 مشاركة لفنانين تشكيليين على شكل وثيقة بصرية. أضيفت هذه الفنون البصرية إلى صفحات الكتاب، لتنضم إلى الشهادات، وتصبح كنوع من الوثيقة الفنية القادرة على نقل التجربة والتعبير الفني – الجمالي، من بين الفنانين التشكيليين المشاركين نذكر: خالد بركة، محمد عمران، عبد الله العمري، وسلافة حجازي. أما لوحة الغلاف فقد كتب عنه: “حال رحيل الفنان مروان قصاب باشي في خريف 2016 دون التواصل معه وطلب شهادة خاصة. لذلك كان خيارنا أن تبقى روحه معنا عبر واحدة من أعماله غلافاً يقدم لهذا الكتاب وإطاراً يحتوي حدوده”. وعدا عن الشهادات الفنية المتعلقة كل منها بنوع من أنواع الفنون والتي تشكل وثائق هامة في التعرف على المشهد المسرحي مثل شهادة ماري إلياس، روجيه عساف، زياد عدوان، وعلى المشهد الموسيقي كنان العظمة، أثيل حمدان، وعلى المشهد السينمائي المخرجة سؤدد كعدان، وعروة المقداد، فإن بعضاً أخرى من الشهادات توصف الوضع الثقافي برمته، تضيء على خصوصياته وتعدد الإشكاليات التي يعانيها هذا الوضع الثقافي السوري اليوم مثل شهادة جاد الجباعي بعنوان “في نقد الفعل الثقافي”، وشهادة المخرجة إيناس حقي بعنوان “عن انفجار فنون الثورة وتحديات الإستمرارية”، ونذكر أخيراً في هذا الإطار الورقة الهامة التي تقدمها حنان قصاب حسن، بعنوان : “حول النتاج الفني السوري في السنوات الخمس الأخيرة”.

نذكر أن الشهادات تشمل 17 بلداً يتوزع فيها المشاركون، منها: سورية، لبنان، فرنسا، ألمانيا، والنمسا والولايات المتحدة، وما يقارب الـ 29 مدينة يقطنها فاعلون ثقافيون وفنانون سوريون في المهجر أو في بلاد اللجوء.

قدمت حنان الحاج علي لمجموعة الشهادت، فبعد أن اطلعت عليها اختارت مجموعة موضوعات رأتها الأجدر بالإشارة، لتشكل مقدمة الكتاب بعنوان: “سوريا.. فسيفساء الموت، مشكال الحياة”، فكتبت: “ومع تسلسل شريط الشهادات كانت الأسئلة تتالى أما ناظري، تتراكم، تتوالد، تتواجه مع طارحها ومع بعضها البعض جاعلة من هذه الكتابات والتعابير الفردية، من هذه المونولوجات حواراً متعدد الأصوات يحاول تشريح الشامل والمطلق والمكرس والأحادي لصالح ما هو متعدد، هامشي، هش، متسائل.. والأهم من ذلك يلقي الضوء على عدد من أولويات العمل الثقافي والفني المشتركة بين من قد يظنون أن لا شيء يجمعهم في شتاتهم سوى الفرقة، كما يظهر اختلاف وجهات النظر والتناقضات حتى بين من يظنون أنهم كتلة متجانسة فكراً وممارسة. ومن هنا اخترت أن تكون المقدمة عبارة عن فسيفساء مشكلة من مقاطع متفرقة مستلة من الشهادات عينها سواء المكتوبة منها أو البصرية، ومجمعة كقطع متجاورة ومتناظرة ومتقاطعة”.

ترى حنان الحاج علي في إصدار هذه الشهادات فرصة للحديث عن دور الذاكرة السورية الجماعية، فتكتب: “وهنا ونحن نطلع على هذه الشهادات يلح السؤال التالي: أيمكن للذاكرة الجماعية، وهي ذاكرة تناحرية تقسيمية بالقوة، أن تصبح جامعة حيادية بالفعل لا تحتكم للثنائيات الإقصائية؟ هل كل ما يقع خارج ثنائية النظام / الثورة، المعارضة / الموالاة،  منفي خارج مسوغات الوجود؟ كيف نقوم (الآنا وهنا ) بفعل التذكر وكيف نستشرف المستقبل ؟ بأي استعداد نفسي وفكري وعاطفي وأخلاقي؟ وهل سيظل تحديد ثنائية (الآن وهنا) مربوطاً بثنائية (داخل / خارج)، تلك الثنائية التي حطمت همم ناس، وخلقت قطيعة مدمرة بينهم، ومهدت لاغتيالات معنوية، على حد تعبير المسرحي السوري محمد العطار”.

وتبين كاتبة المقدمة التغير الذي عرفته المفاهيم والمعتقدات في الخطاب الثقافي السوري خلال الفترة التي يتناولها الكتاب: “هكذا تشرح كلمات ومفاهيم بدت لأكثر من نصف قرن مسلمات. لسنوات طويلة مضت تكرست كلمات من مثل “الوطن”، “الهوية”، “الذاكرة” أيقونات مقدسة ترشح من جثثها المحنطة لعنة أبجدية تهذي بالخلود، أبجدية القول الواحد، والحزب الواحد، والنشيد الواحد، والقائد الواحد، والتاريخ الواحد، فإذا بهذه المفاهيم بفعل الواقعة التي نعيش، تنبش، تكشط، تسجر، تفجر، تقلب، تفكك، تحلل”.

ويبدو التساؤل التي تطرحه حنان الحاج علي في غاية الأهمية حيال موضوعة اغتراب اللغة بالنسبة للتجربة الثقافية والفنية السورية بين اللغة الأم، واللغة التي تتشكل في المهجر وبلاد اللجوء، فتطرح سؤالاً عن كيفية الإنتقال والتعبير بين كلا اللغتين: “تطرح الشهادات تساؤلاً مزدوجاً حول اغتراب اللغة بمعناها الواسع وكيفية الإنتقال من اغتراب مع اللغة الأم في الوطن، إلى اغتراب مع لغة المهجر. ليس سهلاً إعادة موضعة الحنجرة واسترجاع اللغة بينما يحتم الإندماج في المنافي استبدالها بلغة أخرى. أن نتحدث بلغة ونحلم بلغة أخرى اغتراب يشق على البعض فيتوقف عن التعبير، ويرفضه البعض الآخر مستمراً بإعادة إنتاج نفسه بالمنطق نفسه الذي اعتاد عليه. أو يعاش الإغتراب كفعل فصامي يهضمه العقل ويعافه الجسد”.

تتحدث الحاج علي عن الفضاءات البديلة التي يخلقها الفنانون والمثقفون السوريون، وتعزو الأمر للوعي بضرورة إعادة ابتكار النفس والأدوار على المستوى المحلي الداحلي والإقليمي والدولي، فتوضح : “بينما كانت في بدء الثورة المعركة معركة بديهيات: معركة حقوق إنسانية، فقد أضيفت إلى الحرب المفتوحة معركة بالغة الأهمية، ألا وهي معكرة سرديات: كيف ننظر إلى أنفسنا؟ وكيف ينظر العالم إلينا؟ سؤال يطرحه مبدعون سوريون وغير سوريين داخل سوريا وخارجها على امتداد المنافي، سؤال مرتبط بإعادة تموضع الفن السوري، وهي عملية في تفاعل مستمر مع المتغيرات المتسارعة في الأحداث، في شروط العيش والإقامة والتنقل، كما بآليات الإنتاج والتلقي والتوزيع والتسويق. وهي دوماً في طور الإختبار والتساؤل والبحث، بينما تستشري الصور النمطية في العقول وتمعن فتكاً لا يقل عن خطر الأسلحة”.

وفي السياق ذاته تتحدث المقدمة عن التجمعات السورية الثقافية والفنية التي تشكلت في المنافي فتكتب : “إن بؤراً متنوعة تشكلت سواءاً داخل سورية، أو في مناف طاردة كلبنان ومستقبلة كألمانيا، يلتقي فيها أفراد أو مجموعات صغيرة يناقشون ويجتهدون معاً لخلق قنوات إبداعية مقاومة ومجددة. يعملون على عدة تحالفات عابرة للمنافي من أجل تحويل الكارثة إلى فرصة لإعادة ابتكار وجودهم الإجتماعي والسياسي والثقافي”.

وعن ضرورة نزع الصبغة الأسطورية عن الحدث السوري وعن التجربة التي يعيشها المجتمع السوري بما فيه مثقفيه وفنانيه. بإقتباسات من شهادة السينمائي السوري عروة المقداد وشهادة المسرحي السوري عبد الله الكفري، تكتب حنان الحاج علي ما يلي: “ما بين الحاجة إلى كبح الذاكرة لنصبح أكثر قدرة على إدارة الوجع، وبين ضرورة تدوين الخراب لنصبح أكثر قدرة على تفكيك أسبابه وتخطيه، وبينما يقوم العقل بعملية الكف لتعطيل دور الذاكرة في استرجاع ما يؤلمنا، ثمة ضرورة لنزع فتيل الأساطير التي لا تنفك تحيق بنا ونساهم نحن في تأجيجها، فالأسطورة تكتبها الأنظمة لتستطيع أن تخلق من البطولة حالة استثنائية يبدو الوصول إليها مستحيلاً. الأسطورة طمس لثورة ما، بينما الثورة هي حالة لا – استثنائية يبدو حتمياً الوصول إليها، الثورة طمس وجوه باسمة، لأشخاص معظمهم مجهولون لن يذكروا في كتاب التاريخ ولا في مجلدات الحروب، ولن تظهرهم محركات غوغل ولا تقارير المنظملتا الإنسانية، إلا أنه، وعلى الرغم من تعثر مراكمة ذاكرة أمام هول كل يوم، سيوثقهم المهمشون والمحبون والمدونون والمبدعون لبلد معلق بين سحب المفترض وأراضي المتخيل، والحالمون بمدن مرئية لكنها حتماً حتمية”…

في خاتمة مقدمة الشهادات الـ83، تختار الحاج علي إيراد فقرة مقتبسة من كتاب “المدن اللامرئية” للإيطالي إيتالو كالفينو، إنها إحالة رمزية للمدن اللامرئية التي يمكن أن يتم خلقها في فضاءات ذهنية وحسية مشتركة بين الفاعلين في الحقل الفني والثقافي. في هذه الفقرة من كتاب كالفينو يتم الحديث عن مدينة الشجرة، مدينة تم تأسيسها وإنشاؤها إنطلاقاً من حضور شجرة عجيبة، وهنا يأتي التساؤل إن كانت، وفي إطار التخييل، شجرة قادرة على أن تكون الأساس الفكري والفيزيائي لوجود مدينة، أفلا يمكن لكتاب، في إطار الواقع، مثل الذي بين أيدينا ويشارك فيه هذا العدد الكبير من المثقفين والفنانين السوريين أن يكون نقطة انطلاق أولى لإبتكار فضاءات، وخلق شبكات تواصل، وإيجاد مناخات إبداع وتفاعل بين أولئك الذين يخوضون في كل لحظة تجربة المنفى والمهجر؟ نأمل من محاولة كهذه أن تثبت أن إطلاق شرارة كتاب فعل حتمي لكي يُحديد الظلام. على إن تجاور الشهادات في كتاب واحد، وتعدد الأنواع الفنية التي تتناولها، وتناول موضوعات متنوعة أخرى مثل التنظير عن الوضع الثقافي والفني السوري الذي قدمته بعض الشهادات، يجعل من الكتاب وثيقة مرجعية أساسية في التعرف على الحال الثقافي والفني السوري في الفترة المعاصرة، مما يثمن جهد القائمين على الكتاب لتحقيق مشروعهم ورؤيتهم بإبتكار وثيقة فكرية فنية مطبوعة جامعة تقارب الشتات الذي فرض على المثقف والفنان السوري في السنوات السبع الماضية التي لم تنته آثارها بعد.

(*) كتاب: “أما بعد”… شهادات من فنانين وفاعلين ثقافيين مستقلين.

375 صفحة.

تحرير: وائل قدور.

تقديم: حنان الحاج علي.

مؤسسة اتجاهات بالتعاون مع دار ممدوح عدوان.

المدن

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى