مراجعات كتب

كتاب “إستبانة” لعبد الله العروي: جراح المستعمرات القديمة/ محمود عبد الغني

 

 

 

انكمش المغرب على نفسه طالباً من الباري أن ينساه العالم بقدر ما قرّر هو أن ينسى العالم. غزا التصوف فؤاد كلّ مغربي فأثر في سياسة الدولة. هذا مغزى العبارة المعروفة “كم حاجة قضيناها بتركها”

أنتج عبد الله العروي أشكالًا كثيرة من الكتابة، أغلبها تاريخي: الإيديولوجيا العربية المعاصرة، العرب والفكر التاريخي، ثقافتنا في ضوء التاريخ…، وأخرى مفاهيمية: مفهوم الدولة، مفهوم الحرية، مفهوم الإيديولوجيا، مفهوم العقل… وثالثة روائية: الغربة، اليتيم، الفريق، أوراق، غيلة… ورابعها يوميات: خواطر الصباح (في جزأين). وهذه السنة ظهر شكل كتابي آخر “إستبانة” (المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، 2016)، وهو كتاب أوتوبيوغرافي جامع لكل أشكال الكتابة السالفة.

بدأ الكتاب أوتوبيوغرافيًا وانتهى بتأملات وأسئلة تاريخية وثقافية وسياسية، دون خلوّ من الانشغال الابستيمولوجي القديم والأثير لدى العروي: الحفر في المفاهيم وتفكيك ما تتضمنه من عناصر أنثروبولوجية وثقافية وهوياتية.

بدأ العروي، كما يبدأ كُتّاب السيرة الذاتية، بنبش في اسمه: “لنبدأ بالاسم” (ص 5). والاسم هنا هو “العروي” بفتح العين ثمّ سُكون الراء. ويورد بهذا الخصوص عدم نطق الناس لاسمه العائلي على الوجه الصحيح، وما يرتبط بذلك من شعور كلما تعرض الاسم للتحريف: “كلما سمعت اسمي محرّفا تضايقت من ذلك كغالب الناس فيما أعتقد”. لكن هذا الاسم المُعرّض دوما للتحريف هو اسم منتشر جغرافيا وتاريخيا (زمانيا)، فالاسم مشهور في تونس، كما أنه معروف منذ قرون إذ كان بعض المؤرخين يحملون نفس الاسم، ومنهم المؤرخ الأندلسي أحمد بن موسى العروي، المذكور لدى حاجي خليفة في “كشف الظنون”، ولسان الدين بن الخطيب في “الإحاطة بأخبار غرناطة”.

وبرغم أن من السهل حبك قصة عن علاقة عروي المغرب بعروي تونس ثم بعروي الأندلس، إلا أن عبد الله العروي يعي جيداً أن لعمل الأنساب قواعد مضبوطة، لذلك لم يشغل نفسه بإسالة حبر كثير عن الرابط الذي يُلحم كل هؤلاء.

لكن، من جهة أخرى وكيفما كانت ألوان هذه الأنساب، فإن للاسم سلطة شعورية وأخرى لاشعورية، مهما حاول المسمّى العبور عن المسألة. فأن تحمل اسما كان يحمله أول من أرّخ للأندلس، يعني أن العقل يقول أشياء كثيرة، والوجدان يصرّ على أشياء أخرى: “عقلي يقول هذه مصادفة والوجدان يصرُّ على الاعتقاد أن كل شيء مسطّر. كيف حصل أني توجهت، رغم ميولي، إلى امتهان صناعة التاريخ”؟ (ص 9).

عُرف عبد الله العروي باشتغاله بالتاريخ، يفكّر به من داخله ومن خارجه في نفس الآن، وهذه الرؤية الجدلية هي ما دفعته لأن يتساءل بغرابة: “كيف حصل أني أكتب التاريخ، أدرس التاريخ، ولا أكلُّ من نقض مفهومه والحطّ من قيمته”؟ وهذا الاعتراف يمكن سوقه أيضا إلى كل المجالات التي ألّف فيها: الرواية، اليوميات والترجمة أخيرا.

يقدم العروي عن والده صورة هي إجابة عن أسئلة اعتيادية وصغيرة: ماهية شخصيته؟ مهنته؟ ثقافته؟ المربّي؟ وكلها أسئلة أعطى عنها العروي أجوبة، هي عبارة عن سطور غامضة، فيشير إلى كل من يريد معرفة إضافية، على سبيل حسن التخلّص، إلى قراءة روايته القصيرة “اليتيم”: لقد “أوضحتُ ذلك في قصة اليتيم”.

جراح الاستعمــار

من هنا يضع المؤلف مدخلًا إلى قضية تكوينه، هل كان عصريًا أم تقليديًا؟  وعلى القارئ أن يضع في الاعتبار أن تلك المرحلة كانت ساخنة بفعل الاستعمار الفرنسي، حيث شاعت المدارس الفرنسية، وكان المغاربة يرفضون تسجيل أبنائهم في مدارس المستعمر، هذا إضافة إلى وجود بعثات دراسية إنكليزية، هي من بقايا إرساليات القرن التاسع عشر. في تلك المرحلة، وكم هو مبكّر هذا الوعي، بدأ المغاربة يربطون بين التعليم والتشغيل. إذ كان لا ينخرط في سلك الوظيفة العمومية إلا المتخرّجُ من المدارس العصرية. وقد كانوا يرون في التفاني الفرنسي في العمل، تلخيصًا لفكرة العمل والإخلاص فيه: “كان المعلمون الفرنسيون يشتغلون في المغرب، كما لو كانوا يسكنون مناطق نائية من التراب الفرنسي، يعملون بنفس الحزم وبنفس الإخلاص. هذا ما تدرّبوا عليه في معاهدهم التكوينية. يعطون لكلمة تعليم معناها الحقيقي، معنى التنشئة والتثقيف”.

في ثنايا كل القضايا الذاتية التي يطرحها الكتاب تقبع جراح المستعمرات القديمة. فالعروي، كما هو شأن كل المثقفين الملتزمين بقضايا الاستعمار واللغة والهوية، لا يترك فرصة تمرُّ دون الرجوع إلى تفكيك تاريخه الشخصي والوطني، كفرد ومثقف من العالم الثالث، خضعت هويته لاختراق ما زالت آثاره ماثلة، وتعرضت لغته وثقافته لزلزال قوي هزّ أركانها على مدى عقود. من هنا يعود العروي لطرح هذا السؤال: ما هي عناصر الأمة المغربية؟ ولا يُمكن أن يُفهم من السؤال سوى “مكونات الشعب المغربي”. وهنا تُعوز المؤرخ الفذ الحجة حين يجيب: “الشعب المغربي كغيره من شعوب الأرض خليط من أقوام جاءت من الجهات الثلاث، من الشمال، ومن الجنوب، ومن الشرق. وإلى حدّ الساعة لا أحد يعرف بالضبط متى وكيف، رغم الأفكار المسبقة التي نحملها جميعا”. ويعود ويُبدي ملاحظة مقتضبة: “يقع في هذه المسألة خلط بين مكونات الطبقة الحاكمة ومكونات ساكنة المدن ثم مكونات عامة الشعب. لا يوجد تطابق بين هذه المكونات المختلفة”.

ويضيف أيضا على تلك المكونات، مكونات أخرى، منها المكون الهام والحاسم، والذي هو جزء من الحياة اليومية، الطقوسية والفنية واللغوية المغربية: المكون الأندلسي، ثم المكون الحرطاني (الإفريقي الأسود)، والمكون اليهودي. وهي مكونات توزعت على المناطق المغربية. ويقسّم العروي هذه المكونات كما يلي: المكون الأندلسي موجود في المخزن وغير موجود في ساكنة الجبال، المكون الحرطاني موجود في واحات الجنوب وغير موجود في المخزن، والمكون اليهودي موجود بين ساكنة المدن وغائب في أغلب المناطق الفلاحية.

وبقي سؤال التأثر هو سيد الأسئلة في الجزء الأوسط من الكتاب. فالعروي يرى أن سؤال التأثر استفزازي؛ إذ يخفي دونية الإنسان الشمال- إفريقي، وعدم توافره على طاقة إنماء الحضارة الإنسانية. وحجة مؤرخنا أن “معظم شعوب المعمورة تلقّت الحضارة من الخارج”.

إذن، حضارة المغرب قادمة من الخارج. من الشرق والشمال. ولا يمكن اعتبار هذه الأجوبة التاريخية سوى أجوبة جزئية غير تامة، فتاريخ المغرب مليء بالثغرات وبالفترات المغمورة، ينبغي على علماء الآثار التفكير فيها وسدّ كل نقص يعتورها. وتزداد أهمية تدخل علماء الآثار بوسائلهم العلمية أمام هذا السؤال: هل سُكّان المغرب الأصليون أبدعوا شيئا ما أم اكتفوا دائما بتقليد غيرهم؟ يجيب العروي بأن فترات من تاريخ المغرب لم تُدرس بما يكفي نظرا لندرة وتناثر الوثائق المتعلقة بها، إضافة إلى عدم الاهتمام بفترات بعينها، كما هو الأمر في حالة الوطّاسيين والدّلائيين. أما التاريخ المعروف فيؤكد لنا أن المغرب كلما فقد استقلاله، أو ضعفت سلطته المركزية، وانقسم إلى دويلات وإمارات (القرنان السابع والعاشر الميلاديان)، كلما انقطع حبل التاريخ المغربي.

حين يتقدم المؤرخ في سياق تحليله لتاريخ المغرب، يجد نفسه مضطرا لطرح هذا السؤال: لماذا أضاع المغرب استقلاله؟ لقد أضاع المغرب استقلاله رسميا سنة 1912. لكن العروي يعتبر أن استقلال المغرب كان صوريا منذ أحقاب. وهنا يميّزُ “بين الاستعمار والقابلية للاستعمار”، أي الاستقلال بالفعل والاستعمار بالقوة. والقابلية للاستعمار هي نتيجة لاختلال في ميزان القوى “نجم عنه انكماش المغرب على نفسه طالبا من الباري أن ينساه العالم بقدر ما قرّر هو أن ينسى العالم. غزا التصوف فؤاد كلّ مغربي فأثر في سياسة الدولة. هذا مغزى العبارة المعروفة “كم حاجة قضيناها بتركها””.

يمكن اعتبار كتاب “إستبانة”، الذي هو في مجمله أجوبة عن 111 سؤالا طرحها المؤلف وأجاب عنها باقتضاب وتركيز، ذخيرة صغيرة لقضايا تهم تاريخ المغرب، وتاريخ عبد العروي نفسه، من قضية الاسم، الذي أثبت أنه مغربي خالص، إلى المغرب اليوم، الذي عمل الاستعمار الفرنسي على رهن تاريخه ومستقبله. هذا التاريخ، وهذا المصير، الذي، كما يرى صاحب الكتاب، كان سيكون مختلفاً، وله أوجه وجوانب مثمرة عدّة، لو خضع المغرب للاستعمار الإنكليزي.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى