صفحات الرأي

أما من تلاق بين العلمانية والديموقراطية في سوريا؟


محمد شيا

بعد أكثر من ستة أشهر من اندلاع الانتفاضة الشعبية في سوريا تتعدد الأجوبة، وتتكاثر، وإلى حدّ ضياع أو تضييع الأسئلة الأولى. فللنظام الحاكم إجابته الدائمة، الثابتة، العصيّة على التغيير أو حتى التعديل، كما يبدو. وللمعارضين والمنتفضين إجابتهم بل إجاباتهم: فللداخل إجابته، ولاسطنبول إجابتها، ولبرلين – باريس إجابة ثالثة، وربما أكثر من ذلك. ولكن وسط هذا الحراك الذي بدأ سلمياً، ثم تحرّك ببطء ليكون عنيفاً، ويتحرك الآن بوتيرة أسرع ليكون دموياً بين انشقاقات عسكرية قائمة ونُذرِ حرب أهلية طائفية مقبلة لن تبقي في سوريا لا يابساً ولا أخضر – إذا وقعت لا سمح الله.

وسط هذه الفوضى العارمة، المنظّمة أو غير المنظمة، لا فرق، والمفتوحة كما يبدو على شر عظيم، أما من عاقل داخل النظام الحاكم، أو في أوساط المعارضة، يتجرأ فيخرج من ضغط ما يجري من تطورات متلاحقة ليعيد ترتيب الأسئلة الأولى؟

على هدي من هذه الأسئلة يجب أن يجري البحث والنقاش والخلاف، ولهذه الأسئلة يجب البحث عن إجابات، وفي ضوئها يجب أن تنشا بالتالي المواقف وتترتب الأوراق وتصطف الهيئات والمجالس والسياسات.

ولكن ما يجري اليوم هو غير ذلك. فالآليات العمياء للصراع الأهلي الجاري في سوريا الآن، وكما في كل صراع أهلي محلي خارجي، تكاد تُخرج طرفي النزاع – إن لم تكن قد أخرجتهما بالفعل – عن طور التفكير العقلاني والمساءلة الجريئة كي لا نقول والنقد الذاتي، وهو الغائب بامتياز عن أدبيات النظام والمعارضة معاً- عدا قلة من مقالات معارضي الداخل.

ما يجري اليوم في سوريا هو استسهال أركان النظام والمعارضة معاً الانزلاق أكثر فأكثر في سكك وسلوكات وعمليات مرسومة سلفاً، وعلى نحو متفاقم يكاد لا يسمح بالعودة عنها، فيما لو فكر الطرفان أو أحدهما بالعودة واستدراك ما يجري أو ما ستصل إليه الأمور.

هذا هو منطق الحرب الأهلية، كل حرب أهلية في كل مكان وزمان – وأقربها بالتأكيد الحالة الليبية، ومن قبل العراقية، واللبنانية قبل الاثنتين.

لكنني أعتقد، من معايشتي لتجربة الحرب الأهلية اللبنانية، ومن قراءتي من ثمة لأوراقها، أن طرفي النظام والمعارضة في سوريا، وتحديداً العاقلين والمخلصين نسبياً فيهما، سيدركون من دون تأخير أن الحسم العسكري السريع في النزاعات الأهلية غير ممكن. وعليه فهم سيحاولون في غير محطة قادمة التقاط الأنفاس والبحث عن كوة عقل وأمل وعن جسر اتصال وتفاهم مع الطرف الآخر. وسيحاولون ذلك المرة بعد الأخرى، لكنهم سيجدون، كما حدث في لبنان والعراق، أن قطار الحرب الأهلية ينطلق أولاً ببطء، محطة في أثر محطة، وعلى نحو لا يمنع في البدء بعض التفكير وبعض أشكال التواصل مع الآخر. إلا أن سرعة هذا القطار سرعان ما تزداد، فتتسارع عرباته اندفاعاً، تدريجاً وبقوة، فلا يعود يتوقف عند أي محطة، ويستحيل من ثمة على ركابه النزول في أية محطة، حتى لو رغبوا في ذلك، ويفقدون الجرأة أو القدرة حتى على الإطلال من النوافذ. فيستسلم الجميع لأقدارهم، ويتركون القطار، ومن يقود القطار، يأخذانهم إلى النهايات المحتومة والمعروفة مسبقاً.

هل هذا ما يريده النظام والمعارضة في سوريا لسوريا؟

لا أعرف الإجابة. لكن ما أعرفه حقاً هو أنه ما من عربي عاقل ومخلص ( وما من لبناني تحديداً) يتمنى لسوريا مصير العراق الآن بكياناته العرقية والمذهبية المتداخلة المتخارجة، أو مصير لبنان الذي أورثته حربه الأهلية نظاماً طائفياً زعاماتياً راسخاً ـ وبهندسة سورية بالتأكيد.

(2)

ما هي الأسئلة الأولى التي يجب أن يطرحها العاقلون المخلصون في النظام والمعارضة في سوريا؟ قد يكون هؤلاء قلة لكنهم بالتأكيد على نفوذ وتأثير ويستطيعون التأثير في مستقبل التطورات بشكل أو بآخر.

تتدرج هذه الأسئلة، برأيي، من الأدنى إلى الأعلى، ومن الساذج والسطحي ـ ولنقل كذلك- إلى الأكثر عمقاً وأهمية، وبعضها كما يلي:

ـ لماذا كتب تلامذة مدرسة ما في درعا على صبّورة صفهم، وعلى جدران مدرستهم، ما كتبوا من شعارات معادية للنظام السياسي ولرموزه؟

ـ لماذا كانت البداية بل الشرارة مع الطلاب تحديداً؟

ـ لماذا كان رد فعل الممثلين الأمنيين والسياسيين للنظام على الحركة تلك بالقسوة بل بالوحشية التي رأيناها؟

ـ لماذا حالت رعونة بل وحشية الأجهزة الأمنية دون جعل طلاب مدرسة درعا الأكبر سنّاً، وأهاليهم، يتذكرون أن لهذا النظام فضائله الاجتماعية والقومية، وأنه في كل الأحوال ليس أكثر الأنظمة العربية سوءاً؟

ـ ثم لماذا تلقف غالب المجتمع السوري شرارة تلامذة مدرسة درعا كما يتلقف الهشيم الجمر الساخن في شهر آب؟

ـ لماذا تجمعت نُذر الانتفاضة وانفجرت في البلدات والأرياف السورية الأكثر فقراً، وفي أوساط الشرائج الدنيا من الطبقة المتوسطة المدينية السورية تحديداً- وهما تاريخياً خزنة حزب البعث – وليس في الأوساط البرجوازية العليا والتي لا يعنيها أو يضيرها نوع هوية الحاكم أو مذهبه أو سياسته ما دام يحمي استثماراتها ويضاعف أرباحها؟

ـ لماذا لا يرفع مؤيدو النظام غير صورة الحاكم، بديلاً للبيانات الدامغة، ولشهادات حسن إدائه القومي والاقتصادي والاجتماعي؟

ـ لماذا لم ترتفع بالمقابل في تظاهرات المعارضة يافطة واحدة، أو مطلب واحد، ضد علمانية النظام السياسي والدولة المدنية أو تقديماته الاجتماعية ـ ولا حتى من الجناح الإسلامي في الانتفاضة؟

ـ ولماذا لم تطلب يافطة واحدة، ولم يرتفع مطلب جدي واحد، تدعو أو يدعو إلى تدخل دولي من أي شكل- خلا التدخل الإنساني الذي بات اليوم حقاً طبيعيا لكل الأفراد أو الجماعات التي تشعر بالظلم أو الحاجة وتنص عليه المواثيق الدولية الموقع عليها من دول العالم كافة ومن بينها سوريا؟

ـ لماذا انصبّت اعتراضات شعارات الانتفاضة وفي كل بلدة أو مدينة تقريباً لا على وجه النظام القومي، ولا على سياساته الاجتماعية، وإنما على أمر واحد وإن تعددت صيغه: لا ديمقراطية النظام السياسي؟ هذه اللاديمقراطية التي تتمثل عياناً في مظهرين لم يعد من الممكن إخفاؤهما وهما: الفئوية الصارخة، والاستبداد المتمادي!

(٣)

إن تفحّص طبيعة هذه الأسئلة، وهي عينة لا أكثر من واقع لا تفوتنا مشاهدته، يظهر بالتحليل البسيط أن جسور التلاقي بين أفضل ما (ومن) في النظام وأفضل ما (ومن) في انتفاضة المعارضة غير مستحيلة. جسور يمكن بسهولة العثور على أسس واقعية لها، ناهيك عن مبررات المتعددة والكثيرة.

لكن إيجاد أمكنة الجسور هذه، وبناءها، واستخدامها من ثمة، تحول دونها عقبات ومحاذير ثلاثة هي باختصار:

أولاً: التدخل الخارجي، الغربي تحديداً، الذي لا يريد لسوريا مصيراً أفضل مما حدث للعراق أو لليبيا.

ثانياً: تعنّت أسوأ من في النظام السياسي القائم والعمى عن إدراك ما ينتظرهم، من جهة، وقصر نظر (أو سوء طويّة) بعض من في المعارضة، من جهة ثانية، وشبقهم إلى السلطة والتشفي والانتقام.

ثالثاً: السرعة المتزايدة في اندفاع قطار شبح الحرب الأهلية في سوريا التي لن تسمح حين تبلغ السرعة ذروتها بأي توقف أو نزول من القطار، أو حتى لالتقاط الأنفاس، أو لاستدراك ما جرى، أو للتواصل والحوار الحقيقي مع الآخر.

هوذا ما يتهدد جسور التواصل والحوار بين طرفي «معركة» سوريا الآن. وهو ما يجب تجنبه لتقليل الخسائر، وبهدف المحافظة على أفضل ما في النظام (وهي قوميته وعلمانيته وتقديماته الاجتماعية) وأفضل ما في شعارات المعارضة (وهو مطلب الديموقراطية، وترجمته العملية الإقلاع إلى الأبد عن الاستبداد والإقصاء واحتكار السلطة).

ونضيف، أن تجنبّ العقبات اعلاه قد يكون ممكناً الآن وفي المدى القصير، لكنّه لن يكون كذلك على المديين المتوسط والبعيد. إذ سيدخل الجميع إذاك نفقاً يعرفون ربما بداياته، لكنه سيكون مفتوح النهايات على كل أنواع الشرور والكوارث ـ لا على سوريا وحدها بل على سوريا ومعها العربُ أجمعين.

هي ذي الأسئلة التي يجب أن ترفع أمام صانعي القرارات والسياسات، لدى أركان النظام السياسي القائم، وفي أوساط المعارضة السورية، على حد سواء، الآن، أو غداً، وقبل فوات الآوان.

كاتب وأكاديمي لبناني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى